تفصيل

  • الصفحات : 198 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-695-6.

تمهيد:

إن الحديث عن الفتوى هو حديث عن النازلة والمشكلة التي تنتظر من المفتي والمجتهد الإجابة عن تساؤلاتها، والوقوف على تحدياتها. وعلى هذا الأساس فإن الفتوى بصفة عامة تشكل تحديا حقيقيا يجابه الفقيه، حيث إنها في مقام البيان الذي لا يجوز تأخيره عند وقت الحاجة، كما يقول الأصوليون، وأكثر من ذلك فإنها تمثل ينبوع التشريع الإسلامي الذي لا بد من توضيحه للناس أجمعين، حتى يتقرر قول التشريع في الدين والحياة، وهذه مسؤولية منوطة ومعلقة بالفقهاء، يحاسبون يوم القيامة عن التقصير في تبليغها وبيانها للناس. ولما كانت الفتوى بمقام هذه الميزات والخصائص، استدعى من الأصوليين أن يدرجوا في أبواب الأصول فصولا كاملة تتحدث عن الفتوى وآداب المفتين وشروطهم؛ حيث إن فصول الفتوى لا تقل خطورة وأهمية عن أي باب من أبواب الأصول.

انطلاقا من هذه الديباجة تتناول دراستنا أهم القواعد والآليات التي يستند عليها المفتي في توجيه ضوابط الفتوى وتغيرها، وذلك عن طريق معرفة الاجتهاد الاستنباطي والاجتهاد التنزيلي والتمييز بينهما، بوصفهما دعامتين أساسيتين في الإفتاء؛ حيث إن كثيرا من اللبس الذي  يقع فيه كثير من الباحثين هو عدم التفريق بين الاجتهاد الاستنباطي والاجتهاد التنزيلي، وهذا المعيار الأصولي هو الذي من خلاله نتمكن من التقعيد والتأسيس لتغير الفتوى، فالأصوليون طالما نادوا بقاعدتهم “أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان” ([1])، ما المقصود بالفتوى أولا؟ هل الفتوى هي الحكم التشريعي؟ وهذا مدخل زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام، فبعض الذين يرتمون في أحضان الفقه من دون علم ينادون “بتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان”، وهي مقولة حداثية تريد من وراءها أن تنسف الدين، وللأسف نجد من الباحثين في الدراسات الإسلامية من ينضوي تحت هذه الأطروحات.

وعلى هذا الأساس فإننا نطرح كيف نفرق بين الاجتهاد الاستنباطي والاجتهاد التنزيلي، حيث يتركز الاجتهاد الاستنباطي أساسا على دائرة المتغيرات والظنيات دون أن يقترب من دائرة القطع، لأن اشتغال الفقيه في هذا الجانب من الاجتهاد يتأسس على تدبير الوسع في النصوص الظنية والاستعانة بمصادر التشريع الأصلية والفرعية على حد سواء من أجل الوصول إلى الحق في معرفة الحكم على النوازل والإشكالات.

أما الاجتهاد التنزيلي فهو أداة يتركز فيها عقل الفقيه باعتناق النصوص القطعية والظنية على حد سواء، لكن اجتهاده في النصوص القطعية ليس من أجل تغييرها، وإنما من أجل معرفة مقاصد التشريع الإسلامي في كيفية تنزيلها على الواقعة، وهذا الاجتهاد هو ما تفانى فيه فقهاء الصحابة، بعدما شربوا من ينابيع النبوة فأورثتهم ملكة فقهية يتوسلون من خلالها إلى تصيد موارد التشريع ومقاصده، وهذا ما وجدناه مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تنزيله لنص المؤلفة قلوبهم، والتعامل مع نازلة عام الجوع، وعدة مسائل أخرى نعرفها أثناء الدراسة.

وهذا مدخل أساس وعميق إذا أردنا أن نؤسس وأن نقعد لآليات ضوابط تغير الفتوى، فلا يمكن أبدا ونحن بصدد التأسيس للقواعد الكلية في ضبط تغير الفتوى، دون أن نتخذ من هذا المدخل أساسا في ذلك. وقد وجدنا عدة اجتهادات تتخذ من الفتوى منبرا تعبر فيه عن موقفها، لكنها لعمري أفسدت في التشريع أكثر مما أصلحت، وقد تشدقوا في ذلك باجتهادات عمر وعلي رضي الله عنهما، لكن لم يفقهوا حقيقة ذلك الاجتهاد وأساسه، فاتخذوا منهما سلما نحو قصف قطعيات الشرع الحكيم وكلياته.

ما أشد الحاجة إلى تذليل مصاعب الفتوى والفقه عن طريق التقعيد للكليات والقواعد التي يستند عليها الفقيه والمفتي أثناء ممارسة الإفتاء، بعيدا عن كل موارد التيه والضلال، بعد أن تأخذ به هذه القواعد والآليات نحو بر الأمان، ومقاصد الشارع الحكيم سبحانه وتعالى.

ولابد أن نفرق أولا بين الفتوى والحكم الشرعي، حيث إن الفتوى هي التي تتغير، أما الحكم الشرعي فلا يتغير أبدا. لأن الفتوى تتعلق أساسا بتحقيق المناط، وتحقيق المناط كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله بأنه الاجتهاد الخاص ([2])، وهو خطير وصعب يحتاج بالإضافة إلى ألمعية الفقه وملكته، إلى معرفة عميقة بملابسات الواقع المعيش المتعلق بالمسألة المراد الإجابة على إشكالاتها.

أما الأحكام فلا تتغير بتغير الزمان والمكان أبدا، فحكم الله قار لا ينسخ ولا يتغير، لأنه يتعلق بالمقاصد التي تغياها من وراء تشريعه فلا تتبدل أبدا، فلا يمكن أن يطل علينا أحد، ويقول بأن الربا حلال، وأن الخمر جائز، فهذا حكم والحكم لا يتغير أبدا، فمقاصد التشريع هي من سنن الله التي لا نجد لها تبديلا أبدا. فعندما يأتي الشارع الحكيم ليقرر بأن الحرج مرفوع والضرر لا بد أن يزال، فهذه مقاصد تتعلق بها أحكام لا يمكن أن تتغير أبدا، فالذي يتغير هو الفتوى لأن هذه الأخيرة تتعلق بكيفية تنزيل الحكم لا بالحكم ذاته، لذلك فالحكم لا يتغير إنما الذي يتغير هو تنزيله وكيفيته، وهذا ما يصطلح عليه الأصوليون بالفتوى.

 

 

ومن خلال هذه المقدمة فإن بحثنا سيتوجه أساسا نحو الإبحار في بيان وضبط القواعد العميقة التي يستند عليها المفتي في تقرير المسائل والوقوف على إشكالاتها، وفيها كذلك إجابة على كل التساؤلات والملابسات التي تواجه الفقيه، وتشتبه عليه في مسائل الفتوى. ثم نتحدث عن فصول متفرقة متعلقة بالتخريج والقواعد والفروق وما جرى عليه العمل، ونتحدث عن معهود العرب وعلاقته بالتأويل، ومستويات اللغة ومقامات السياق، وفي الأخير نتحدث عن القضايا المعاصرة في التأويل ما يتعلق بمختلف الإشكالات والمقاربات مع التأويلية الغربية المعاصرة.

([1] ) القرافي شهاب الدين، الفروق، (دار إحياء الكتب العربية، ط1: 1346ه)، 3/162.

([2] ) الشاطبي أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، تحق عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط2: 1395ه/1975م)، 3/232.