تفصيل

  • الصفحات : 178 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-705-2.

مقدمــــة:

إنَّ أحرف هذا الكتاب جاءت من الإنسان وإلى الإنسان الذي نأمل أن يولد  من جديد من شظايا انكساره وحطامه، كطائر العنقاء الذي يبعث من جديد من رحم احتراقه ورماده أو بومة منيرفا التي تحلق عندما يرخي غسق الليل الدامس سدوله، بعد كل أحداث العنف التي شهدناها في الفترة الأخيرة ونقصدالحروب الدموية والطفرات الجينينة التي أدخلها علماء الهندسة الوراثية على النوع الإنساني ليتحول الإنسان إلى إنسان فائق أو متأله، ويتم الانتقال الحاسم من تقديس الإله إلى تقديس الماركات على حسب تعبير الأديب الفرنسي جيل ليبوفتسكي ليتحول سطح العالم إلى خشبة مسرح كبيرة يقف عليها ممثلين بارعين بأقنعة مختلفة  يقدمون مشهد التكبر والغطرسة التي تعبر بدورها عن نكبة المجتمع الحديث ومحنة الإنسانية الجريحة والمعذبة،هنا قررت أن أعيد ترتيب أفكاري بتوتر ناعم وصمت صاخب لأكتب ببهجة وألم حرقة الرؤية،البُغية والرِهان، وأنا أفكر وأبتسم بصمت لأرسم ملامح وتقاسيم وجه إنسان  كنا ولا زلنا نحلم  أن نكونه،  تساءلت سؤالا على الأرجح قد خطر في ذهن الكثيرين منا، من أنا؟ أنا الإنسان؟ هل إنسانيتي هي عَطِيَّة بيولوجية أم أنها محنة إتيقية يقوم بها كل واحد منَّا لنفسه؟

وجدت إجابةً  فيها شيءٌ منِّي عند بول ريكور، ومن ما جاء فيها بتعبيري:إنني أنا…الإنسان الذي يقع بين البداية والنهاية، بين الوعي واللاوعي بلغة التحليل النفسي، وبين المتناهي واللانهائي بلغة تيولوجية، جزء في سالب يشدني نحو العدم ولا نهائية الإخفاق، وجزء موجب يشدني نحو الحقيقة واليقين بإطلاق، أنا وأنت وكلنا إنسان خلقنا من طين حسب ما أخبرتنا به الديانات السماوية وبعض الأساطير اليونانية الكلاسيكية، فأنا ذلك الكائن النرجسي، القبيح، الأناني، المتسلط العنيف الذي يكره ويحقد…، لكن روح الله قد نفخت في داخلي فأنا ذلك الكائن السخي، الجميل، المعطاء، الهادئ الذي يحب ويتسامح.

هذا السلب والإيجاب هو ما يصنع هشاشتي رمز ومحل إنسانيتي، فحيوانيتي جزء من إنسانيتي وأي محاولة لاقتلاعي من هذا الجزء السالب الكامن في أعماقي تعدُّ محاولة لاقتلاعي من إنسانيتي، ماقد يجعلني أركن في الظلام طويلا، لكنني في الآن كائن محبٌ للنور أكثر، قد يصبح الظلام ملاذنا وأنيسناعندما لا نريد أن نرى القبح الذي صار يملأ العالم لنهرب إليه من علاقات زائفة وهشة، لأننا أصبحنا كثيرا ما نلتقي بأشخاص ليسوا حقيقيين بل ممثلين بارعين  يرتدون أقنعة بألوان وأشكال مختلفة حسب الأدوار والمواقف، فعندما يتحول العالم الذي من المفروض أن يكون بيت البشرية المشترك إلى مجتمع فرجة وتتشيؤ، لتتحجر فيه الأفق نتيجة القحط المفزع في المنظومة الرمزية القيمية للإنسان، يصبح الظلام ملاذنا وأفضل بكثير من عالم سطحي تافه يفتقد لكل أبعاد العمق والمعنى، فعالمنا اليوم يشهد سيادة الممثلين أو الأيدوليين، ويقدم صورة قبيحة لأشخاص براغماتيين بل كاذبين يسبحون على سطح فجّ بعدما تخلوا عن حقيقتهم الأصيلة، الأمر الذي جعلنا نعيد التفكير في موضوع الإنسان كذات  لنبحث عن حقيقته في زخم التأويلات والفلسفات المتصارعة، ونبدأ رحلة البحث في الخزانة الثقافية اليونانية الكلاسيكية .

مع كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين أشادوا بحرية العقل والإنسان حيث يمكننا القول بأنهم أطلقوا الشرارة الأولى لنشأة المذهب الإنساني Humanisme لأنهم جعلوا من الإنسان موضوعا لتأملهم، وهكذا صار موضوع الإنسان موضوعا للفلسفة على مر العصور ففي الفلسفة الوسيطية أصبح إلهاً مصغراً مع القديس أغسطين وتوما الإكويني وأنسلم فقد أحب الإله الإنسان لذلك خلقه على صورته، ليصير في العصر الحديث مع رونيه ديكارت سيد على العالم لإنه يمتلك اقتدار امساك الطبيعة بقبضة يده من خلال الاستماع لنصح العقل لكي يروضه حسب رغبته في إشباع حاجاته المعرفية التي لا ترتوي في السيطرة والتملك.

لذلك سقطت هذه الفلسفة في مستنقع البربرية والهمجية بسبب تمركزها حول الذات في تعاليها وكبريائها وتسلطها النرجسي، ويكفي أن نشير إلى الحادثة التي تعرض لها فريدريك نيتشه لما كان في إيطاليا وذلك عندما رأى حوذيا ينهال بالسوط على الحصان الذي كان يقود عربته، وهنا انطلق نيتشه جاريا نحو الحصان ليحميه بجسده من ضربات السوط، أين قدم للحصان اعتذاراً معللا تلك الهمجية بأن سببها ديكارت الذي هو أحد الفلاسفة المهمين فقد ساهم بفكره في التأسيس لفلسفة التنوير ونزعة الإنسانية التي بقيت خاصة بذات متعالية عن العالم، الواقع والآخر المختلف بما في ذلك الآخر الحيوان أو الجزء الحيواني داخل الذات الإنسانية نفسها.

من هنا هاجم كل من كارل ماركس ونيتشه وسيغموند فرويد مملكة الفيلسوف الحديث ونقصد الوعي والذاتية عندما تحدثوا عن الجانب المظلم داخل الذات ونقصد اللاوعي، الذي نجد مقابلا له عند ماركس وهو الاغتراب ويجد نيتشه مقابلا له مع الاتجاه الديونزيوسي أثنناء قيامه بعملية حفرية داخل التراث اليوناني، وبذلك توارت سلطة الإنسان العاقل لتعلن البنوية Structuralisme مع ميشال فوكو فيما بعد موته الرمزي،  فقد استبدلت مفهوم الإنسان بنسق من البنى التي اخترقته من كل الجهات لتفكر بدلا عنه .

غير أن إعلان موت الإنسان لن يمر مرور الكرام فموت الإنسان هو موت للفلسفة لأنه هو من يتفلسف، وهنا انبجست فلسفة  بول ريكور الذي سعى لتجاوز هذه الأزمة التي وقعت فيها الذات، لأنه غير مقتنع بنهايتها فبدلا من البكاء على ذات جريحة منكسرة، فضّل التفكير عبر عقل تأويلي في تجاوز نكبتها ومحنتها، هي محاولة جريئة وذلك لقوة الفلسفات التي تحداها، وعليه:

كيف سيؤسس بول ريكورلأنسنة جديدة بعد الهدم التفكيكي الذي تعرضت له من طرف فلاسفة الارتياب؟هل يمكن الحديث عن الأنطولوجيا بعد الهدم الإتيقي الذي أحدثته عليها إتيقا إيمانويل لفيناس؟ كيف سترسم لنا ريشة ريكور ملامح الإنسان وتلون الأنطولوجيا من جديد؟ وماهي المهمة التي سيمنحها لهرمينوطيقا الرموز الدينية؟ كيف سيعمل على التأسيس لكوجيطو هرمينوطيقي جديد، ليتم الانتقال الحاسم من الذات المنكسرة إلى الذات المقتدرة؟