تفصيل

  • الصفحات : 128 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-499-0.

مقدّمة

إن الأدب الحقيقي بكل ما تعنيه الكلمة من معان، يتجلى في ذلك الأدب الذي يضع الموضوعات الإنسانية ضمن الاعتبارات الأولى في استقراء ما هو كائن؛ متجاوزًا في ذلك الاستعلاء الثقافي المتخندق في تلك الرؤى الضيقة والإيديولوجيات المتكلسة والتصنيفات الاختزالية المضللة بطبقاتها المتراكمة في نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، هذا المنعرج الحاسم في معالمه الواضحة يتم من خلاله الانتقال من السطح في تناوله للموضوعات المختلفة، انطلاقًا من النفاذ إلى عمق التجارب الإنسانية بإخضاعها للشروط التاريخية، وعلى ضوء هذه الحقيقة، يتم الاشتغال والانخراط ضمن الأفق المعرفي والثقافي الذي يعلي من شأن التفكير العملي البراغماتي، بهذا المعنى، تطالعنا الممارسة ضمن خياراتها الواعية من حيث الأشكال المبتكرة التي تعد أساسًا من بين أهم العوامل المؤثرة، بحكم وجهتها المتميزة والمتفردة في تشكيل وجودانية إنسانية في صيغها الجديدة، إذ تؤثث لنصوص كونية تكون مؤهلة لأن تكتسب صفة الديمومة بما تحمله من ثقافة متدفقة بدلالاتها وإشاراتها ورموزها وتصوراتها ومعانيها، إذ تحدث انسجاما مع طبيعة المشاريع الكبرى في رساليتها الخالدة التي تؤمن بالقيم الأخلاقية السامية.

وهنا تأتي أهمية العمل الروائي في معالجته للمواضيع المتنوعة والإشكالات الراهنة، في ضوء الرؤيا الشاملة التي تلامس جوهر الإنسان والوجود، باتباع منطق التمرد الخارج عن سنن التقاليد السائدة وعن كل موروث في بناء النص؛ لأن مقاومة التنميط على مستوى الأفكار والمضامين والأشكال التعبيرية، يتمثل في الخروج عن النسق المعتاد والمألوف ضمن أفق الكتابة الإبداعية، وهذا يحيلنا ضمنيا إلى تجربة تدخل في سياقها العام تحت ما يسمى بالكتابة الهامشية بتعبير جابر عصفور، وما دام لكل مرحلة أسئلتها المطروحة على بساط النقاش والسجال في المشهد الثقافي، فإن أهم ما يلاحظ هنا كعلامة فارقة هو اكتساب المعرفة رؤيا حداثية متفاوتة، ويتعلق الأمر، على وجه التحديد التحول المنضوي تحت فعل الكتابة والقراءة بكيفية معلنة، على اعتبار أن الخطاب الأدبي من ناحية أولى، مجموعة من النصوص المتداخلة أو المتفاعلات النصية، فقضى إلى حد بعيد هذا الانزياح الفكري على تلك النظرة المتعالية للخطابات الأدبية والإبداعية.

واللافت للنظر، أن هذا الطرح أحدث على مسار الحركة النقدية نقلة نوعية في كسر طوق المعيار السائد، الذي اتسم طيلة عقود بالرتابة والملل في سبر أغوار النصوص الإبداعية على مستوى التجنيس، ومن جهة ثانية، يمكن رصد أبعاد ومعاني هذه الرؤيا في بوتقة الأدب والنقد، من خلال الإشارة للأدب النسوي كجنس أدبي مستقل له خصوصياته ومزاياه، وأمام هذا التباين والتمايز، تولد شعور في صوغ لغة جديدة تتماهى مع الأفق الفكري والمعرفي والثقافي الذي تؤمن به لغة الأنثى، فاللغة من هذا المنظور، لم تعد وسيلة لنقل المعلومات والمعارف أو تمثيل للحقائق بصورة قبلية؛ بل أضحت الطريقة التي نتعرف بها على العالم، وبعبارة أخرى، أن اللغة من هذه الزاوية هي التي تشكلنا أي النظر للغة على أنها رؤيا للعالم بتعبير الفيلسوف واللغوي الألماني ڤيلهلم فون هُمْبولت Wilhelm von Humboldt، إذ يقفز هذا التصور عن كل المظاهر الخارجية المتعلقة بأشكال التواصل والتعبير والتبليغ على اعتبار أننا نفكر في عالم شكلته اللغة، والحقيقة الجوهرية التي نشير إليها من جهة ثانية، أن هذه المشاركة الفعالة تخلق مسافة كبيرة بين الأنا والآخر/ الرجل، ويرجع ذلك لأسباب متصلة بنوعية خصوصية الكينونة بحثا عن أسباب التخلف وإمكانات النهوض من أجل فهم متجدد، وفي ضوء ترشيد الوعي تتضح أهمية العمل السردي أو الفني في خطواته الحاسمة التي تستدعي شروط التلقي، لذا، فإن طبيعة هذا الاشتغال بجميع إحالاته وإيحاءاته ورموزه وأهدافه وغاياته؛ يشكل مفصلا حقيقيا يرسم لها حضورا داخل خارطة الفكر الإنساني أي ما يسمو بها إلى درجة الإنسانية من حيث الرقي والمرتبة، كحركة داعية إلى التغيير في منتجاتها الإبداعية المرتبطة بالمقاصد البراغماتية التي تستند إلى المقومات الجوهرية في تمثلها للحياة والوقائع في تلويناتها المختلفة. من هنا، تطالعنا الأسئلة التالية: ما العلاقة التي تربط الجسد الأنثوي الإفريقي بالتمثلات التي تحملها الأنثى أو المرأة والمجتمع عن هذا الجسد. وما مدى انعكاساته على مستوى الهوية؟ وأين يكمن دور المتخيل والعنف في تدني المستوى المعيشي ماديا ومعنويا؟ وماهي التأثيرات التي أحدثها على المستوى المعنوي والسيكولوجي والوجداني والعاطفي؟ ومن أين يستمد مشروعيته وسلطته في تكريس النظرة الدونية في إقامة التراتب الطبقي داخل المجتمع أو على مستوى المخيال الجمعي؟ وكيف السبيل لوصول الإنسان الإفريقي أو مجتمع القارة السمراء إلى تمثل معاني المواطنة والحرية والمساواة والعدالة؟.

ولن يتأتى هذا إلا في ظل الاستنجاد بالوعي الثقافي الراشد والناضج الذي يتيح لها التعايش المنشود على مستوى التفكير والسلوك والفعل، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي المأمول، وحتى تكتمل الصورة بين يدي القارئ ويتبين المبتغى، فإن الواقع الذي أفرز سلسلة من التحولات التي لحقت الفكر؛ تجلى في تفكيك نظرة المركز المشيدة تحت سقف السلطة البطريكية أو الأبوية، هذه الحساسية الجديدة كقيمة مضافة تلح علينا في هذا المقام الوقوف عند التساؤلات المتعلقة بالتعدد الهوياتي والتنوع الثقافي والحس المشترك حسب طبيعة المكان والزمان، ما يعني أننا أمام تساؤلات ستظل مفتوحة على امتداد التاريخ الإنساني، إذ تستدعي قراءة متأنية في ضوء الخصوصية التي يتمتع بها كعتبة محفزة، تروم الكشف عن طبيعته ولغته وجماليته وشكله وأبنيته، وما يتضمنه من  رموز وإشارات ودلالات وإيقاعات، وما يحمله من أفكار ومشاعر وأحاسيس وطموحات. ولا غرو في أن هذا المسعى الذي يؤسس لوعي جديد فكريا ومعرفيا وفنيا؛ فعلى مستوى الحوار والتواصل لاقى انتشارا واسعا في حقل الدراسات المعرفية المتباينة، وكل المؤشرات تؤكد على أن الأدب النسوي أضحى موضوعا جديرا بالاهتمام سواء على مستوى الإعلام بكل أنواعه وصنوفه أو الثقافة بكل تجلياتها المختلفة.

وبصورة خاصة، يمكن أن يتحدد مبدئيا بخطوات ثابتة في مسار الكتابة الإبداعية، حيث تجلت في مجموعة من الطروحات والأفكار والرؤى والحيوات والمواقف ضمن عوالم واقعية ومتخيلة، هذه القضايا في صيغها الحالية ضمن عمليات الإدراك ودوائر التفكير والإبداع، تؤدي دورًا حاسمًا في نهوض العمل السردي في المجال التداولي؛ انطلاقا من تجربة حاشدة بالأسئلة الأنطولوجية العميقة التي تنفتح على أسرار خطيرة، إذ تحاول قدر الإمكان ملامسة الأفكار العالقة في الذاكرة والمخيلة والضمير الجمعي، وهو ما يفسر اهتمام الكاتب أو الروائي بالأمور المستعصية على الفهم والمطروحة في خارطة الواقع المعيش، وعليه، فإن الرد المنطقي على مثل هذا النوع من التفكير، يأخذ بنواصينا إلى تعرية الأوهام التي تتوسد الخطابات ذات المنطق الذي يشل حركة الوعي والتاريخ بانفلات اللحظات المشرقة، التي من خلالها تبني الإنسانية حاضرها ومستقبلها في أبهى صورة، بحيث  تعكس هويتها الثقافية كرؤيا للعالم ترسي نظرة تقدمية حضارية تطرق جميع مجالات الحياة ضمن لحمة تتضح معالمها في إطار منظومة فكرية ومعرفية متكاملة في سياقاتها الإنتاجية.

هذه النظرة الواعية في إدراك حقيقة الأشياء؛ جعل من الروائية عائشة بنور من خلال منتوجها السردي ” الزنجية ” تطرح بطريقة ضمنية الأسئلة المصيرية والقضايا الأنطولوجية، التي شكلت نواة هذا العمل الفني في انبنائيته، بحيث تحدد طبيعة بنيته السردية في تقديم الأحداث المتنوعة والمتعلقة بالمادة الحكائية أو القصصية، والرواية كما سيلاحظ القارئ المتتبع لتفاصيلها على مستوى الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة؛ يستشف في ثناياها انتفاضة حقيقية ضد واقع مرفوض وغير مشروع، كردة فعل واعية تجرنا إلى مساحات ثقافة المقاومة في تنوع صورها بالمفهوم الإنساني، وعبر رؤية متماسكة تطالعنا في بناء لغوي محكم يلوح في مضامينه بالإشادة إلى المعايير والقواعد المرتبطة بالمنظومة القيمية والوجدانية والأخلاقية، يأتي في مقدمتها معالجة موضوعة ظاهرة ختان الفتيات والهجرة غير الشرعية والتمييز العنصري والأمراض الفتاكة التي تحصد أرواح البشر كالإيدز وإيبولا والملاريا، كمادة دسمة لعملها الفني أو الإبداعي بأبنيته الفكرية وأساليبه التعبيرية ومواده الترميزية وتشخيصاته الجوّانية، من خلال رصد حركة الذوات على مستوى الفعل والتفكير والوصف بالإشارة إلى الأوضاع الإفريقية أو القارة السمراء، وما تعيشه من هزائم متتالية ومتعاقبة كحالة مستمرة تمارس استبدادا بشقيه المرئي واللامرئي، فرضتها بعض الظروف القاسية من قبل الأنظمة البليدة التي تعمل جاهدة في تقويض المنطق النوعي والسليم، ويتعلق الأمر، هاهنا، برسم وضعية باعثها الحقيقي الإشارة إلى هشاشة وتردي الواقع الذي انغلقت معه كل سبل الحياة؛ مما اضطر أهلها التفكير في إيجاد مخرج يتمثل في الهروب من هذا الجحيم الذي يخبئ في جناباته وأحشائه سوى المواجع واليأس المتكرر والضياع الموحش للذات، بفقدان إحساسها بالانتماء المتوسل بمناخات الاغتراب النفسي المنبعث من حاضر تقف فيه الكينونة عاجزة، في مناهضة النواميس الاجتماعية المتفشية بناء على الأدوار التي ساهمت في انهيار القيم وأسباب الحضارة، والحال هذه، فإن هذا القلق والاضطراب الذي مصدره الآخر؛ يؤكد على شكل العلاقة المربكة المحكومة بإرادة القوة، وفي إطار هذا المعنى، نستحضر مقولة الفيلسوف والمفكر الفرنسي والروائي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre الشهيرة ” الآخرون هم الجحيم ” وهي إشارة واضحة على وضعية تتغذى على قناعات وأفكار غير مؤسسة في مجالاتها التداولية.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، فنحن، إذن، إزاء معادلة أفرزت لنا سيناريوهات ضيقت من هامش الحريات والاختيارات والممكن والمتاح؛ نتيجة الانزلاقات والتجاوزات والخروقات التي لامست الحياة الإنسانية، وهذا الإحساس المتعاظم بتداعياته التي تتأرجح بين الصراع والتعايش، تبدّت ملامحه في الواقع المعيش المحاط بتلك الاضطرابات الداخلية والنزاعات المتواصلة والطبقات المتناحرة والهويات المتصارعة، التي تعيش مجموعة من التوترات والتناقضات على حساب الفعالية الإنسانية المنتجة، ما دفع بالممارسات الفردية والجماعية البحث عن حياة أفضل تضمن لهم لقمة العيش الذي يؤمن لهم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بتحقيق الأمل المفقود والحلم المنشود من أجل ضمان العيش الكريم، هذا المصير التراجيدي كان بمثابة الحافز الذي دفع المجتمعات الإفريقية المضطهدة، باتخاذ مسالك الهجرة طريقًا للخلاص والنجاة بتجشم وعثاء السفر إلى أصقاع العالم بقطع الآلاف من الكيلومترات، إما عن طريق قوارب الموت نحو غرب أوروبا (القارة العجوز) أو من خلال عبور الصحراء بكثبانها الرملية باتجاه الحدود، بحثًا عن حياة آمنة وهادئة توفر لهم نوعا من الاستقرار النسبي، الذي يخفف من وطأة الصعوبات والتوترات النفسية والتهديدات الأنطولوجية.

 

والله من وراء القصد عليم –

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

والله وليّ التوفيق

وليد خالدي

ولاية بشار- الجزائر

يوم: السبت 27 محرم 1443ه/ الموافق لـــ 4 سبتمبر 2021م