تفصيل
- الصفحات : 161 صفحة،
- سنة الطباعة : 2022،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-338-2.
يعد عمل المرأة بمثابة إسهام قيمي متماسك مع كل وثبة حضارية وفي نفس الوقت يعتبر من مسببات العيش الرغيد الذي يرصع الاستقرار الأسري بعد مساهمته الإجتماعية والإقتصادية المتعددة الأوجه، تمامًا كما يُشكل حصنًا جوهريا ضد الفقر والاستبعاد الاجتماعي في حياة الزوجين.
لقد أضحى عنصر عمل المرأة من بين المعايير الأساسية التي يعتمدها الرجل لإنتقاء زوجته وأساس يبني عليه لتكوين أسرته المستقبلية، لكن مع تحميل جميع المسؤوليات ذات الصلة بشؤون تسيير الشؤون المنزلية على ظهر المرأة (المهام العائلية، الحمل، الأمومة، إلخ) والتي تعد من المسببات التي مهدت إلى إمكانية نشوء توترات شديدًة الوقع، وجب إدارتها بالصبر والحكمة، خاصة في البيئة الاجتماعية التي تداوم على حصر من فرص التوظيف للمرأة. كما تتعزز الضغوط على الحالة النفسية للمرأة العاملة نتيجة الإعتلال الإداري في تنظيم العمل الذي يضمر من خلال لوائحه الداخلية كل ما يمت بصلة للعوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بالوسط العائلي (رعاية الأطفال الصغار، حالة الحمل، إلخ.).
ثم يليه إضافة متغير ظروف العمل وتأثيراته على الفرد من خلال المقاربة الاجتماعية والقانونية لمبدأ المساواة في الواجبات بين الجنسين في الأداء المهني، ففي القطاعات الإستراتيجية المختلفة، مثلا في القطاع الصحي الذي يفرض استمرارية العمل وتقديم الخدمات الصحية من خلال نظام عمل الدوام المتواصل، حيث لا تستبعد فيه مشاركة المرأة في العمل بنظام المناوبات أو في العمل الليلي، والذي بدوره له إنعكاساته السلبية على الحالة الصحية لهذه الفئة من عمال الليل وتراكم العواقب السلبية من النواحي النفسية والاجتماعية في حياة الزوجين أو الأسرة.
استنطاقا لواقع الحال، فإننا نستدل بالمؤشرات الإحصائية التي تفرزها مصالح طب العمل أو الصحة والسلامة المهنية التي تشير إلى الطلب المتزايد من طرف الموظفات في القطاع الصحي العمومي من أجل تعديل أوقات العمل أو الإعفاء من المناوبة الليلية بالنسبة لفئة الطبيبات والممرضات. عموما، فهذه الطلبات تكون مرفقة بملف طبي وتحت عنوان تشخيصي المشاكل النفسية أو اضطرابات عقلية، وهي كلها مؤشرات تعبر عن ماهية وجه المعاناة التي يستقصيها الاستجواب الطبي المعمق الذي يفصح عن طبيعة منشأها من إشكالية صعوبة التوافق بين متطلبات الأسرة والالتزامات المهنية.
من ناحية أخرى، لا يمنح نوع تنظيم العمل في المؤسسات المهنية مهما كانت طبيعة نشاطها لهذه الأسباب من المعاناة النفسية تفهماً حقيقيا، كما ظلت لوائح العمل غامضة للحلحلة هذا النوع من شكاوى العاملات أو الموظفات، مما يُقيد الجهات الفاعلة والمهتمة بالمحافظة على الصحة النفسية في الوسط المهني لإتخاذ القرار المناسب للتكفل بالحالات في الوقت الملائم ومرافقتها نفسيا واجتماعيا، حتى لا تفقد المؤسسة عمال أكفاء يحضون بأقدمية مهنية معتبرة وتفادي خسارة استثمار حكومي في الموارد البشرية.
لتسليط الضوء على هذه الإشكالية المهنية بنواتجها المجتمعية وصبغها بواقع الحال في البلدان العربية، ولتشخيص جملة من القيود الاجتماعية التي لها صلة وثيقة بين متغيرات العمل والأسرة، فقد تم التركيز على ذكر مثال المناوبة الليلية التي تخص الموظفات في القطاع الصحي كنموذج لتقييم آثار صعوبات التوافق بين العمل والأسرة بصفة فردية وجماعية. بالتالي، بما أن الإرهاق الذهني في الوسط المهني قد يعد جزءا من نتيجة للعوامل النفسية والاجتماعية الضاغطة، سواء صنفت كمسبب رئيسي أو قسم من نواتجها، أو ذات طبيعة مهنية أو عائلية، فإنه من الضروري إجراء مسح مكتبي حول هذه الإشكالية التي يشكل فيها الاحتراق الذهني بأبعاده الصحية والاجتماعية هاجسا خطيرا يؤرق حياة الموظفة ويهز كيان الأسرة، ويشل موارد المجتمع، بالأخص أنه لم يلقى الاهتمام ولا حتى بالاعتراف الرسمي مثل تصنيفه ضمن الأمراض المهنية.
كما هو معلوم، فإن الاحتراق الذهني الذي يُعرَّف بأنه المرحلة النهائية من استنزاف لكل الطاقة الذاتية للتكيف النفسي وفشل التأقلم مع وضعية مهنية ناجمة من تجربة ناشئة عن تغيير تنظيمي في الوسط المهني، أو بعد تراكم لأحداث صادمة وتجرع علقم المعوقات خلال المسار المهني، فهو يستهدف بالأخص الفئة الهشة غير قادرة على التحمل النفسي والتي تنهار بعد مدة وجيزة من مواكبة الصعوبات، أو قد يعني الفئة العمالية التي تتميز بدرجة عالية من التفاني والإيثار وإضفاء الطابع المثالي على مهنتها، فيشكل حصرها والتشويش على أدائها المهني بمثابة منعها من التمتع بالنشوة التي كانت تلقاها في ممارستها المهنية، وكأنه نزع لقارورة الأوكسجين التي كانت تنعش حياتها.
بالإضافة إلى ما سبق حول العوامل المهيأة لإضرام وقود الاحتراق الذهني وإعاقة قدرات الفرد، فإن التناقض بين نظام القيمي المستنبط من التربية الوالدية أو التعليمية، وطبيعة معتقدات الفرد، ومثالية توقعاته المرتقبة لجعله نموذجًا لحياة مثالية وسليمة، لكن قد يواجه خيبة أمل فيما يتعلق بالواقع الذي غالبًا ما يفلت من الوضع المثالي لأنه يخترق بمخالفات في المعاملات وتشوبه أحيانًا الانتهاكات والانزلاقات التنظيمية، والتي تولد بدورها صراعًا داخليًا يمكن أن يتم تحويله إلى تعبيرات شفهية على شكل شكاوى تعبر عن عدم الارتياح النفسي، أو يتم التعبير عنها بشكل تلقائي وفقًا لقدرات التكيف الفردية، كما أمكن أن يكون لها تأثير سلبي جماعي حسب طبيعة الاعتماد على نماذج الدعم والتضامن بين الفئات العمالية التي قد تخفف من حدّة حالة الصدمة النفسية أو على العكس قد تشارك في تدهور مناخ الرفاه في العمل.
على الرغم من الجهود التي تبذلها الإدارات في مختلف القطاعات المهنية لتحديد الأشخاص المعرضين لخطر الإرهاق الذهني من خلال المتابعة الطبية المنتظمة من طرف مصالح طب العمل، غير أن واقع الحال مناقض، مثلما يجري في المؤسسات العسكرية التي تركز حين عمليات إنتقاء الجنود والمنتسبين إليها بفحص طبي منتظم وبحث معمق في السيرة الذاتية للمعني، غير أن هذا الحرص لم يمنع من تواجد تقارير لحالات من الانتحار وظهور أمراض نفسية بين صفوف الوحدات العسكرية.
عموما وجب تشخيص ماهية الاحتراق الذهني والتدقيق في تعريفه والتعرض لتطوره من مختلف الزوايا المعرفية حتى نتمكن من وضع خطة وقائية مناسبة تأخذ بعين الاعتبار القالب الاجتماعي والثقافي وبالأخص في الدول العربية.
ثم من زاوية إنتاج المعرفة وتثمين نتائج المشاريع البحثية، فإنه يبقى لزاما على الباحث صياغة نتائج بحوثه واستعمال سبل النشر العلمي للسماح للأكاديميين بالاطلاع على فحوى مخرجات البحوث، ومن ثم تشريح للمعضلات واقتراح الحلول، فالمسلك يعتبر في حدّ ذاته جسر يؤصل مفهوم التواصل بين الجامعة وتفتحها لخدمة مجتمعها والنفع بالعلم والمعرفة.
لهذه التبريرات العلمية ذات المقاصد الاجتماعية، فقد تم تناول الجانب النظري من البحث الأكاديمي حول موضوع الاحتراق الذهني خصوصا لدى المرأة مع طرح إشكالية التوافق بين العمل والأسرة من خلال مسح مكتبي عالمي مشترك بين الشرق والغرب، ولكن يصاحبه في نفس الوقت دمج لجوانب الحياة الاجتماعية والثقافية العربية التي هي من سمات التجربة الحقيقية.
بالتالي، فإن فهم الظاهرة الاجتماعية أو تشخيص المرض هو بالفعل جزء من علاجها.