تفصيل

  • الصفحات : 347 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-552-2.

المقدمة العامة

توجد الآن اختلافات كبيرة في الدخول ومستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان الغنية بالموارد الطبيعية والفقيرة منها في العالم، إذ يقل دخل الفرد في البلدان الغنية بالموارد بأضعاف المرات عما هو سائد في البلدان المتقدمة كألمانيا والولايات المتحدة الامريكية. وقد تواترت الأسباب والتفسيرات كثيرا بشأن تفاوت حظوظ التنمية للبلدان إلى هذا الحد. فوفرة الموارد في الكثير من الأحيان، اعتبرت أحد أبرز مسببات الإخفاق الاقتصادي، والأمثلة كثيرة عن ذلك، وفي نفس الوقت الاستثناءات واردة كنجاحات محققة (النرويج واندونيسيا اللتان تعتمدان على تصدير البترول وبوتسوانا الغنية بالألماس).

ومن المعروف أيضا على اسيا الصاعدة، بأنها تمكنت من تضييق فجوة الدخل بينها وبين البلدان المتقدمة، عندما انتقلت من حالة الفقر الى حالة الدخل المرتفع في غضون جيل من الزمن بتسريع النمو الاقتصادي (شيخه وجوجون، مجلة التمويل والتنمية، يونيو 2014)، مع العلم أن سجلها الجغرافي المقترن بهبات الموارد الطبيعية يتسم بالشح، فما الذي يفسر هذا التناقض الواضح؟. ولماذا تخطت اليابان وغيرها من بلدان جنوب شرق آسيا اقتصاديا روسيا ذات الثروات الباطنية الكبيرة؟.

من الناحية التاريخية، حظيت إسبانيا بفرص الحصول على معادن ثمينة بما فيها الذهب، قد اكتشفت في القرن السادس عشر في الأمريكتين، غير أن هذا البلد لم يستطع الاستفادة من تدفق هذه الثروات في تحقيق تنمية صناعية قوية آنذاك، وهو تعبير يشير إلى جانب أساسي منه إلى العواقب الضارة نتيجة لحدوث زيادات كبيرة في الدخل. لتشهد هولندا في الستينات من القرن العشرين حدثا مماثلا، لما نمت ثرواتها بشكل ملموس بعد اكتشاف مستودعات واسعة من الغاز الطبيعي في بحر الشمال. وعكس ما كان متوقعا، أدت هذه التطورات الجلية بنتائجها-التي كانت تبدو بأنها إيجابية-إلى انحرافات خطيرة في المؤشرات الاقتصادية للبلد، بدءا بتحسن سعر الصرف الحقيقي لعملة الجيلدر وصولا الى تدهور أقسام الاقتصاد المنتجة للسلع القابلة للتبادل التجاري، أين أصبحت أقل قدرة على المنافسة، لتعرف بعدها هذه المتلازمة باسم “المرض الهولندي” والتي ارتبط ظهورها في الغالب باكتشاف مورد طبيعي (Ebrahim-zadef C, 2003).

وفي سياق متصل، برهن قدر كبير من البحوث والدراسات الاقتصادية الميدانية على وجود علاقة عكسية بين وفرة الموارد الطبيعية والنمو الاقتصادي، ابرزها دراسة زاكس ووارنر عام 1995 التي اتبعوها بدراسة أخرى (1997 و2001)، لما توصلا بصددها بأن “الاقتصاديات الغنية بالموارد الطبيعية تميل إلى نمو أقل سرعة من الاقتصاديات التي تشهد نقصا في الموارد الطبيعية، فالاقتصاديات التي تعرف صادراتها نسب عالية من الموارد الطبيعية بالنسبة إلى الناتج المحلي الخام لعام 1971 (سنة الأساس) ستكون معدلات نموها منخفضة في الفترات اللاحقة 1971-1981″، فهذه النتيجة لقيت تأييدا واسعا عند خبراء الاقتصاد، نذكر منهم جيلفسون (2001) و( Auty, 2001 ) اللذان أكدا بأن أداء الاقتصاديات المتلقية لريوع الموارد، قد كان هزيلا مقارنة مع ما تحوزه عليه من ثروات طبيعية ومعدنية.

علاوة على ذلك، فقد أشار الاقتصاديون المعنيون بالتنمية والسياسة سلفا الى تشكيلة متنوعة من العوامل لتفسير مفارقة الوفرة او نقمة الموارد الطبيعية التي أدت الى فروق شاسعة في النمو والتنمية بين البلدان النامية والأخرى المتقدمة، وتتمثل أهم هذه التفسيرات في التفسيرات الاقتصادية والمالية، التي اظهرت في السبعينيات والثمانيات توافقا في الرأي بشأن المرض الاقتصادي الهولندي (قريقوري، 1979، كوردن ونيري 1982، كوردن 1984، وتينبارجن 1984…) كونه يشرح جزءا كبيرا من أسباب التراجع القطاعي في البلدان التي شهدت اكتشافات مهمة في مجالات النفط والغاز الطبيعي والمعادن وغيرها من أشكال الثروة الطبيعية، فانتعاش قطاع الموارد يفضي إلى اثار غير مرغوبة في الاقتصاد، فعلى غرار التحسن الحقيقي في سعر الصرف، فإنها تؤدي إلى تقليص فرص التجارة بالنسبة للسلع القابلة للتبادل التجاري، وذلك تبعا لزيادة الطلب على السلع خارج التبادل التجاري (السلع التي لا تستورد أو تصدر مثل العقارات والمساكن).

وعندما كانت الزيادة في تدفق العملة الاجنبية الى الداخل، لابد أن تزيد الطلب إجمالا، فإن إشباعه سيستلزم مزيدا من الانفاق الحكومي في الأوقات السخية، ولكن هذا الطلب قد لا يمكن تلبيته في أوقات أخرى، مما يضعف المكاسب المحتملة للسياسات المالية ومن قدرة البلد على تنويع مصادر التمويل وانتشال نفسها من براثن الدين والاعتماد على الريع. فإذا كان تقلب اسعار الموارد أمرا محتوما في الاسواق العالمية، فإن تاثيرات دورية السياسة المالية ستكون أكثر احتمالا في الاقتصاد، وفي هذه الحالة، وجب التخفيف من اثارها باعمال سياسية معينة بالنسبة لسياسات الاقتصاد الكلي. ومن الباحثين الاوائل الذين أخذوا “بدورية السياسة المالية” كسند نظري وميداني في تفسير تدهور النتائج التنميوة في البلدان النامية، نجد كل من Gavin and Perotti (1997)  وTalvi and Végh ( 2000).

وتأتي التفسيرات السياسية والمؤسساتية كمقياس أساسي لمدى نقمة الموارد الطبيعية في البلدان النامية، بحيث قد ساندت وجهة النظر هذه طائفة من الدراسات التطبيقية، فالباحثين Ricky Lam و Leonard Wantchekon في عام 2003 قد اطلقا على تمدد المرض الاقتصادي الهولندي في بلدان الموارد تسمية المرض السياسي. ولما كانت التقاليد السياسية هي التي تحدد كيفية استخدام الدخل النفطي، فان هذا الدخل بنفسه سيشكل الاقتصاد السياسي للبلدان المصدرة للنفط الذي تتحكم فيه بنسبة كبيرة سلوكيات البحث عن الريع، إذ أنها تعيد توجيهع الحوافز الاقتصادية نحو التنافس على عائدات النفط بعيدا عن الأنشطة الانتاجية، وبخاصة في البيئات غير المقيدة التي تتسم بالسلطة السياسية التقديرية وحقوق الملكية غير الواضحة. وبذلك تقدم هذه التفسيرات وغيرها رؤى، يمكن أن تساعد على بناء اطار تحليلي لفهم أفضل لسياسات الادارة المالية والاقتصادية في المناطق الغنية بالموارد (بن إيفيرت، ألان جيليب، ونيلس بورجيه ثالروث، مجلة التمويل والتنمية، مارس 2003).

وقد تبدو قدرة المرض الهولندي على وقف التنمية الاقتصادية مكشوفة عند معالجة الجانب السياسي والمؤسساتي وأثرهما على الأداء الاقتصادي. وعلى هذا الأساس، فإن أسيموجلو قد أقر بأن المؤسسات فضلا عن الهبات الجغرافية هي عنصر رئيسي في شرح أسباب تفاوت الأداء الاقتصادي بين البلدان المتقدمة والنامية. لتؤكد أبحاث أخرى لكل من سايمون جونسون، وجيمس ربنسون، وداني رودريك، وارفيند سوبرامانيان على الأهمية الحيوية للمؤسسات في التنمية والنمو، حين اهتمت بنحو نموذجي بمستوى التنمية الاقتصادية مقيسة بأثر المؤسسات ونصيب الفرد من الناتج المحلي الخام. عموما، المؤسسات والسياسات تربطهما علاقة جد قوية، فالمؤسسات الجيدة تدعم السياسات السليمة. وفي المقابل، المؤسسات الضعيفة تقلل من فعالية السياسات العامة.

وعلى مدى العقود الماضية، ظهرت وجهتا نظر حول العلاقة بين الريع والنمو، وجهة النظر الأولى تنص بأن الريع له تأثير عكسي على النمو وقد يقوض من قدراته فعلا، لأن هناك أسباب عديدة تجعل الريع غير مساند للنمو بسبب الفساد المحتمل الذي ينتهي باهدار الريع في نفقات غير مجدية اقتصاديا بما يزاحم حوافز الانتاج في القطاعات التبادلية (و هو تأثير يعرض بالمرض الهولندي). أما وجهة النظر الثانية، فهي تعتبر أن الريع له علاقة شرطية بالنمو، فلا يساعد على التعجيل بالنمو إلا في إطار محدد، فهذه الوجهة تحاج في العادة بأن فعالية الريع في الاقتصاد تتوقف على الخصائص المؤسساتية للبلد المتلقي، فهي ترى بأن الريع يعمل بشكل أفضل في البلدان التي لديها مؤسسات وسياسات جيدة مشجعة على الانتاج، بينما تكون نتائجه سلبية في ظل وجود مؤسسات سيئة-أي التي ليس بامكانها سوى انتاج سياسات سيئة ومؤجلة للاصلاح-. وجاذبية هذه الوجهة تتمثل في أنها  يمكن أن تفسر لماذا ريوع الموارد قد ساندت النمو في جهة معينة وليس في جهة أخرى.

و في هذا الجانب، اقترح كريس غيرغات وسوزان يانغ- في مقال نشر في عدد سبتمبر 2013 من مجلة التمويل والتنمية- وضع اطار مؤسساتي قوي، تكون الغاية منه تحويل ايرادات الموارد الطبيعية إلى أصول أكثر أهمية (كراس المال البشري) في ظروف ميسرة. كما دعا الباحثان البلدان الغنية بالموارد الطبيعية إلى ضرورة محاكاة تلك المناهج الجديدة في إدارة الموارد التي تحث أكثر على استخدام الايرادات لزيادة المدخرات والاستثمارات المحلية.

كذلك تشير بعض الأدلة (جورج ت. عابد، مجلة التمويل والتنمية، مارس 2003)، بأن تحديات الحوكمة التي تنشئ عن وفرة الموارد الطبيعية، هي العقبة التي كثيرا ما تعترض التنمية من منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، بحيث تجعلها غير مؤهلة للاستفادة من مزايا الريع. فتعثر الاصلاحات السياسية وسيطرة القطاع العام وغيرها، كلها أسباب انتهت بتخلف بلدان هاتين المنطقتين في النمو والعولمة.

ويعتبر هذا الكتاب محاولة من طرف الباحثين لتقديم وتقييم ما كتب حول ادارة الموارد الطبيعية التي حضيت بإهتمام نظري وتطبيقي كبير لدى العديد من الباحثين والمؤسسات الاقتصادية والمالية المهتمة بقضايا التنمية. ويبدأ هذا الكتاب بتحليل نظرية الريع على مستوى مختلف المدارس الاقتصادية، لينتقل بعدها إلى بعض المقاربات والأدبيات النظرية المرجعية والشائعة حول تحليل آثار اكتشاف الموارد الطبيعية على القطاعات الاقتصادية. ليتطور مجال التحليل بعدها الى تناول مختلف مختلف المقاربات السياسية والمؤسساتية لنقمة ريوع الموارد الطبيعية، ثم أهم الخيارات المتعلقة بالمالية العامة لإقصاء نقمة الموارد الطبيعية، ثم يعالج البحث الخيارات المتعلقة بالتجارة للتحوط من نقمة الموارد الطبيعية، وأخيرا الخيارات البديلة التي تطرقت اليها النظريات الحديثة.