تفصيل

  • الصفحات : 125 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-331-3.

لا أعتقد أن المسرح العربي تطور في طريق خاص به، رغم ما له من مواصفات ونوعيات تمثله، فلقد تطور هذا المسرح واكتسب نضجه الكلاسيكي من الارتباط الوثيق الحاصل من تطور مجمل العمليات المسرحية في الغرب.

وقد حذا حذوه النقاش، بل ونقل لنا نماذجه الدرامية عندما زار البلاد الأوروبية، وتردد على مسارحها بحكم تجارته، ومعنى هذا أن المسرح كجنس أدبي وفني (على الطراز اليوناني) كان مستوردا في بدايته شكلا ومضمونا، وانطلاقة النقاش من خلال تجاربه في الترجمة والاقتباس كانت سعيا منه لاستنبات هذا الشكل الجديد، وضمه إلى باقي الأجناس الأدبية العربية. بل ونستطيع أن نؤكد بأن مسرحنا العربي منذ بداياته بدأ تجريبيا[1]، وهو يخوض هذا المضمار مع أول مسرحية لمارون، جاءت “اقتباسا من مادة كلاسيكية (بخيل… موليير)، وأظن في هذا السياق أن مسرحية النقاش لريادتها، وهي مسرحية تجريبية… (جربت) المسرح كذوق مستقل للمرة الأولى، ولأنها قدمت (عبر الاقتباس لا الترجمة) بنية جديدة، وروحا جديدة، ونكهة جديدة، تتصل جميعها وإلى حد كبير بالمناخات العربية” [2]

وهذه التجربة المشار إليها يدرجها النقاد ضمن المرحلة التحضيرية التي مست في جوانبها تجريب آليتين لهما أهمية كبيرة، وهما:

  • الترجمة
  • والاقتباس

فضلا عن المرحلتين اللتين أعقبتا المرحلة الأولى، وهما:

  • مرحلة الإبداع
  • ومرحلة التجريب والتأصيل

وهي مراحل تعرب عن محاولات عربية جريئة، أراد من خلالها النقاش وغيره تأكيد طابع مسرحه الخاص، وتميزه عن شكل الموروث المحلي، كما أنه أراد إرساء قواعد للمسرح العربي بوجه عام، وهذا أهم ما تفرد به تجريب الأولين:

– مارون النقاش:

  • توظيف اللغة العربية الفصيحة على المسرح:

النقاش أول من أدخل المسرح (على صورته اليونانية) إلى الشرق العربي من خلال مسرحيته الأولى المكتوبة بالفصحى “البخيل” سنة 1847، نتيجة علمه بروح العصر التي ” تولي اللغة عناية فائقة.. فيعلن أن المسارح تعلم كذلك اللغة والألفاظ الصحيحة، وتقدم للناس المعاني الرجيحة…” [3]

فجاءت مسرحياته في تلونها تعطي النظم مقامه الأول، فكانت الفصول المشهدية شعرية، وكانت بعضها تسير مطواعة لضرورة ملحة كاللهجات، وفي هذه الحال كانت تجري على لسان الناطق عامية بلغة عربية ضعيفة، ذات بسط ووضوح، تثير الفضول إلى كثير من التفكه والابتسامة، هذا فضلا عما جرت به أداته من تجريب مس هيكل الكتابة للمسرحية، بحيث أدخل ” في النص (البخيل) علامات الترقيم، كعلامات التعجب وإشارات الاستفهام، والفراغات المنطوقة… فنص المسرحية كان مترجما بصيغة شعرية تقليدية، وباللغة العربية الفصحى.[4]

ب- تجريب الفصل المضحك أو الهزلي:

سعى النقاش في سبيل إنجاح أعماله المسرحية، وتقريبها في صورة محمودة تلقى صداها في نفسيات العامة المشاهدة.. إلى تجريب هزليات قصيرة بين فصول مسرحيته. وقد تخللت الفصلين من مسرحيته (هارون الرشيد) هزلية قصيرة ” يدور موضوعها على زوج خان زوجته… وقد قابل الجمهور هذه الحملة بعاصفة من الضحك، مما ساعد على نجاح هذه الهزلية” [5]

ومما ساعد أيضا على تقنين هذا الفصل المجرب كأحد الدعائم الإيجابية للمسرح، ما لقيه من عامة الحضور من تجاوب واستحسان، ففتحت هذه التجربة النور أمام مجربها، فراح يخوض التجارب تلو الأخرى على متون مسرحياته.

ت- توظيف التراث:

استهوت النقاش عناصر التراث القصصية، وحبكاته الفنية، الصالحة لأن تكون موضوعا لمسرحية، وأيضا مما ألفاه فيه من ألوان ومظاهر شعبية تلذ للقراء وللعامة على حد سواء، فبادر إلى استلهام موضوع مسرحيته ” من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وهي الحكاية التي ترويها شهرزاد في الليلة الثالثة والخمسين بعد المئة، وتطلق عليها اسم قصة: النائم واليقظان.” [6]

فجاءت مسرحيته (أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد) مستوحية الحكاية، معدلة في كثير من الجوانب والزوايا، وقد رصد الفوارق بين الموضوعين الباحث محمد يوسف نجم[7]، وها هي ذي مختصرة في نقاط، تجلية لعناصر التجريب على ميدان التراث العربي:

  • عدم تقيد النقاش بالحبكة القصصية التي تضمنتها قصة ألف ليلة وليلة
  • تسليط النقاش الأضواء على شخصية أبي الحسن، والتنويه بمشكلاتها الشخصية على نحو يعطيها البعد الإنساني، ولا يقصر رسمها ووصفها في صورة شخصية ذات بطولة فردية، مثلما هو وارد في القصة.
  • تعديل النقاش في شخصية أبي الحسن، بحيث أغرقه في لجة من الغفلة، وهذا بعكس ما جاء في القصة.
  • التعديل في أسماء القصة على نحو قابل فيه النقاش شخصيتي الرشيد ووزيره بدادا مصطفى (الرشيد) ودادا محمود (الوزير)

وبعد ذكر هذه الفوارق المختصرة نلمح إلى استلهام آخر، قد جرت أداة النقاش على تجريبه في المسرحية نفسها، وهي تجريب التراث العالمي على النص المسرحي العربي، إذ تكفي الإشارة ” إلى المشهد الخامس عشر م الفصل الأول في مسرحية (أبي الحسن المغفل)… [لنرى] مدى مشابهته للمشهد الرابع من الفصل الأول في مسرحية البخيل لموليير”[8]. وهي مشابهة لا ينكرها النقاش، ولا يجحد تطابقها، إذ ما انفك يردد ويكرر أستاذية موليير له.

ث- توظيف الشعر والنثر والغناء والطرب:

وهي تجربة جاءت عند عدم استصاغة الجمهور لهذا الفن المسرحي الجديد، فكانت محاولة النقاش في تقريب أوجه مسرحياته ودعائمها على أسس وأذواق تليق بالفرد العربي، حيث انتهى إلى تجريب الآتي:

  1. الشعر:

وقد مارس بحثه حول اللغة لإيجاد الصيغة الفنية المشتركة بينه وبين المتلقين لمسرحياته، وقد سبق لعلمه أن الجمهور يستعذب السماع، فعكف على تجريب الشعر الذي ” يقوم على السجع الثقيل، والصور البيانية المصطنعة” [9]

  1. النثر:

فجعل النقاش يمازج في المسرحية الواحدة بين الشعر والنثر، وتطعيم العمل الأدبي بمثل هذه المزاوجة فرضه الذوق المتعارف عليه في زمنه، بحيث كان الشعر ” يروق للخاصة، والنثر تفهمه العامة” [10]

  1. الغناء والطرب:

كان اعتماد النقاش عليهما ترضية لأذواق بعض العامة، وسبيلا لاستجلابهم إلى مسرحه ” لما كان يتمتع به من ثقافة موسيقية، ولأنه قدر أن قومه سوف يستطيبون الأوبرا.. ومن هنا (صوب أخيرا قصده إلى تقليد الموسيقى المجدي.)” [11]

 

 

– نيقولا النقاش:

تقتضي الصناعة في ميدان فن التمثيل من الممثلين على حد تعبير (نيقولا)[12]الإتقان في التشخيص لأدوارهم المسرحية، والتشخيص برأيه ما اجتمعت فيه أصناف الإشارات الحسية، والانفعالات النفسانية، بحيث يلزم المزج في الدور بين ما هو ظاهر وباطن.

فأما الظاهر فإنه يتبدى من خلال جملة من اللغات، الحركة مثلا، الإيماءة، الرمز… وكلها تتناول الأداء من الظاهر لتأكيد عنصري (الجسم والصوت)، وأما الباطن فإنه مجموعة الدوافع والانفعالات الداخلية التي تحرك من مخيلة الممثل، وتدفع بحواسه إلى التحرك، وهذا تجنبا لجملة الحركات الجامدة التي تعيق من إبداء ما هو شعوري وباطن.

وبرأي نيقولا دائما يجب استخدام المظهرين الخارجي والداخلي في التشخيص لأي دور لحظة الأداء، دون تمييز أو فصل، حتى يتحقق الإيمان بحقيقة الدور، وحقيقة الأداء للشخصية، وهذا عنصر هام بهذه الصناعة الفنية، يتخذ من الصدق الفني الوسيلة الفعالة لتحريك أحاسيس المشاهد وشعوره.

وعليه أكد نيقولا على أهمية تصور الشيء المؤدى بأنه حقيقة، وأنه نفسه الواقع والموجود في هذه الحياة. ولقد كشف القول عنده استخدامه العديد من المصطلحات المختلفة في فن التمثيل، كما أعرب عن فهم واسع الاطلاع لخلفيات العمل مع الممثلين، وتقنيات التمثيل.

 

– سليم خليل النقاش:

إن ما يتمتع به سليم النقاش من قدرات جعله يواكب مهمات المسرح من مختلف نواحيه، وهذه بضع محاولاته التجريبية مختصرة في النقاط الآتية:

  1. التأليف للمسرح:

كانت محاولته في ترجمة مسرحية (كورني) المعنونة بهوراس، والتجريب الذي أقامه عليها تمثل في عدة أشياء، نبينها موجزة من خلال ما جاء في قول الباحث محمد يوسف نجم، إذ يقول: ” ترجم سليم النقاش هذه المسرحية… وقد تصرف فيها تصرفا كبيرا، فبعث بالحوادث، ولم يحترم الشخصيات التي شادته عبقرية كورني، كما وضع لها أنغاما، ونثر فيهل بعض الأشعار، متمشيا في ذلك مع الذوق الذي اعتاد هذا المزج من الحوادث والشخصيات والشعر والغناء منذ أخرج مارون النقاش مسرحيته الأولى البخيل.” [13]

  1. 2. إدخال العنصر النسوي:

وكانت التجربة الأولى في مجال التأليف مقصودة، إذا ما راعينا فيها عنصر الشخصيات التي كانت أغلبية الأدوار فيها لصالح المشخصات، وهي محاولة تكرس في جوهرها مبدأ الواقعية، ولا تقتنع بمبدأ تمثيل الرجل لأدوار المرأة “وبالحقيقة إن الذين شاهدوا مجرد وقوف المشخصات، وعلى الخصوص مي، وهي الأولى، وامرأة هوراس، وهي ثانيها في موقف التشخيص، لم يصدقوا أنهما لم تقفا قبل ذلك للتشخيص أمام الجمهور…”[14]

– فن الإلقاء:

إذ كان سعي سليم كبيرا في وضعه حدا مميزا بين صوتين: صوت الرجل عن صوت المرأة، وقد صادف خلاله ” صعوبات كثيرة في جعل موافقة في الطبقات بين أصوات الذكور وأصوات الإناث، وبين أصوات كل منهم.” [15]

هذا فضلا عن سعيه في إيجاد مطابقة متقنة بين تلك النبرات الصوتية، وما يصحبها من إيقاعات نغمية.

– أبو خليل القباني:

وهذا القباني بالرغم من الفارق الذي يمكن أن يوجد بينه وبين مدرسة النقاش، فإنه أجرى تجاربه على نحو خاص، انتهى به إلى إنشاء مسرح غنائي. وهذا المسرح يختلف عن سابقه اللبناني في أمور، تجليها لنا بوضوح أهم المحطات التجريبية التي تم توقف القباني عندها.

  1. تجريب التعبير المسرحي على الأدب العربي:

حاول الخليل في مجرى تجريب الكتابة والتأليف للمسرح الفصل بين باقي الأجناس الأدبية، وإفراد المسرحية العربية بأسلوبها المميز والخاص، المبني أساسا على الحوار. ولما كان الحوار عمود المسرحية، فإن القباني بتمكنه من السياقة اللغوية أجاد في أسلوب مسرحياته، فجاء بأفصح ” عبارة، وأبين عربية من أسلوب المسرحيات السابقة، وأكثر حمولة من السجع والزركشة البيانية، إلا أن السياقة اللغوية كانت تنتقل بين النثر والنظم بلا قيد ولا شرط… وكان [القباني] يرمي بهذا إلى أن يقيم بين المسرحية الناشئة الدخيلة، وبين ألوان الأدب العربي القديمة والأصيلة، وشائج القربى، ولو في الأسلوب والمظهر”[16]

  1. استلهام التراث والقصص الشعبي:

كانت ثمرة البحث من قبل القباني في التجريب على الموروث الأدبي والشعبي تسعى لإيجاد صياغة درامية محافظة على مقومات المسرحية المعهودة في أوروبا، ولم تكن هذه التجربة تهدف بتاتا لأجل البحث والتنقيب عن أشكال وقوالب مسرحية عربية محلية، بدليل سعيها وراء صب المضمون العربي في الشكل الذي عليه المسرحية في الغرب، نحو تناولها لهذه العناصر الدرامية: البداية/ الوسط/ النهاية، أو في ترتيبها للمسرحية على أساس من الفصول والمشاهد.

وقد رجع القباني إلى مسرحية (راسين- الملك متريدات) مسايرا لنسقها الفني الخارجي في تأليفه لمسرحية: لباب الغرام، فجاءت مركبة من الفصول نفسها، وان اختلفت هذه الفصول في عدد المشاهد بين القباني وراسين.

وهي طريقة كما نرى تبحث في البناء الخارجي للمسرحية المكتوبة، تزيد من تباينهما هذه الأسطر الآتية: ” القباني لم يأت بجديد من حيث قالب المسرحية وأقسامها، فهو في هذا كسابقيه… يصب قالب المسرحية الغربية كما انتهت إليه أواسط القرن الماضي.” [17]

غير أنه أتى بلون مسرحي جمع فيه بين الأدب العربي والتراث الشعبي، وبين الموسيقى والطرب والأداء والتمثيل المسرحي.

  1. توظيف الموسيقى والغناء والرقص على المسرح:

وبحكم تعدد مواهبه في التمثيل والموسيقى والتلحين، فإن القباني لم يقصر أداته الفنية على مجرد التأليف للمسرح نصوصا مجردة، مضبوطة بكلمات شعرية ونثرية، بل إنه فتح مجالا في أدغال هذه النصوص للموسيقى وللرقص وللغناء.

فجاء مسرحه مركبا من الكلمة والصور الشاعرية، وقد ألف أن يستهل مسرحياته أولا بحكاية المسرحية، ثم يعقبها بعد ذلك ولفترات متفرقة بألوان من الإنشاد والإيقاع.  كانت ” معرفة القباني الواسعة بالموسيقى والأصوات والرقص… قد ساعدته في تملك الفن المسرحي، ووضع أساس المسرح الغنائي.”[18]

وقد نقل تجربته إلى القاهرة مثل سابقيه، وبدأت في مصر لحظات التجريب تمس القوالب المسرحية العربية مع الكثيرين من لبنان، وسوريا وتونس والجزائر والمغرب… جاؤوا لإصلاح الوضعية التقنية للمسرح العربي، والخروج بها على راس الفنون العالمية المتطورة، وقد خصصنا لكل بلد ورقة بحثية تتحدث عن تجريبه.

عياد في: 2 سبتمبر 2021

الكرمة، وهران، الجزائر

[1] للمؤلف: التجريب في المسرح الجزائري، دار ألفا للنشر، ط1، 2019

[2] بول شاوول، التجريب بين الموروث والتجدد والاستلاب: www.nizwa.com

[3]  عبد الرحمن ياغي، في الجهود المسرحية الإغريقية، الأوروبية، العربية، ص:100

[4] فواز الساجر، ستانسلافسكي والمسرح العربي، تر: فؤاد المرعي، ص: 15

[5] محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847-1914)، ط2، ص:37

[6] م ن، ص: 367

[7]  المرجع السابق

[8]  المرجع نفسه، ص:369

[9] م ن، ص: 371

[10] م ن، ص: 38

[11] عبد الرحمن ياغي، م س، ص:100

[12]  ينظر: محمد يوسف نجم، م س، ص:43

[13] المرجع نفسه، ص: 204

[14] م ن، ص: 47

[15]  م ن، ص ن

[16]  المرجع نفسه، ص:122

[17]  م ن، ص ن

[18] فواز الساجر، م س، ص:21