تفصيل

  • الصفحات : 264 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2021،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-204-0.

ها هي ذي أزيد من ثلاثة عقود تنصرم، ولم تتحقق نبوءة ليسلي فيدلر(Lesley Fidler) عن موت الرواية[1]، فقد يكون غاب عن توقعه أنها – أي الرواية- جنس أدبي قلق، تتردد فيه أصداء التغيير المطّرد، وتؤطّره، ليس فقط، صيرورة المقولات النقدية وآفاق التلقي، وإنما كذلك دوافع التجريب التي تلمّ بالروائي.

لم تمت الرواية لأنّها جدّدت من طرائق اقتحامها للمتن والمبنى الحكائيين. فأصبح للحكاية أكثر من وجهة نظر سردية تعرض بها نفسها على القارئ. فمن التبئير الخارجي الثابت الذي كان يميز ”الرومانس” الكلاسيكي، وروايات ”والتر سكوت” (W. Scott) التاريخية غربياً، و”جرجي زيدان” عربياً، ها هي ذي الرواية قد اتجهت إلى تبني التبئير الداخلي المتعدد، والسرد الهجين، والمفارقة الزمنية، وتقطيع أوصال الوتيرة السردية.

لم تمت الرواية لأنها خطبت ودّ الموسيقى والرسم والتاريخ والسيرة، ولأنها حاورت بعطف ما حولها. لم تمت الرواية… لأنها لم تكن يوماً جنسا أدبيا مستبداً لا يقبل الآخر. ولم تمت الرواية … – أيضا- لأنها اشتغلت كثيرا على كل ما يبدو هامشيا ولكنّه نصّي، فلم تهمل الرواية الاستعانة بالمصاحبات النصّيّة الدالة كالعناوين والتصديرات والهوامش والصور والأيقونات. لقد تحولت الرواية إلى منتج ثقافي متنامي الذكاء.

لهذه الأسباب لم تمت- أيضا- جهود الاقتراب منها، كحال هذا البحث، الذي نحسب أنّه يروم الإجابة عن إشكالات أهمها:

  • في حالة تهجير التراث التاريخي إلى النّص الروائي، هل يكتب الروائي نصّاً تخييليا أم نصّاً تاريخياً؟
  • إلى أيِّ مدى يمكن للكتابة الروائية أن تحافظ على نسقها السردي مع هذا التوجه إلى قراءة التراث التاريخي روائيا؟
  • ما تقنيات الكتابة السردية التي تستدعي التراث؟

تعتور المرجع الكتابي لأيِّ رواية متعلقة بالتراث التاريخي برهتان؛ واحدة لترهين المادة التراثية، وأخرى لكتابة نص روائي. ففيما يبدو الروائي مؤرِّخاً من خلال الأحداث، والشخصيات والوقائع. فإنه سرعان ما يتنازل عن هذا الدور لصالح السرد، منقلبا على خطيّة الزمن التاريخي وسببيته التي تمتحي سلطتها من الماضي (ما وقع فعلا). وهنا يتبدّى وعي كتابي في مستويين: أوّلهما استدعاء التراث التاريخي المعبر عن الفرد والجماعة في آنٍ معاً، إذ الأسماء واضحة والزمان والمكان محدّدان. وثانيهما يظهر في اختيار شكل مسرحي هو المأساة (التراجيديا).

تتقد الحاجة إلى البحث – عادة- من رغبتين؛ الإعلان عن سبق علمي، أو تصويب مسار معرفي. وفي كلتا الحالتين، لا يتخلص الباحث من رغبة جامحة تستبد بنا جميعا، وهي بناء جهاز متماسك من المقولات التي يمكن إخضاعها للملاحظة والقياس.وذلك ما حاولنا محاصرته من خلال تقديم رؤية ضمنية عن تلقي النص الروائي. كنّا قد استعرضنا جانبا منها قبل خمسة أعوام في بحثنا الموسوم ”جمالية الفراغ في النص السردي. سيدة المقام لواسيني الأعرج نموذجاً”. ثم لمّا أتيحت لنا هذه الفرصة الثانية، اقتربنا أكثر فأكثر من نظرية التلقي كما قدمتها المدرسة الأمريكية من خلال رؤية ستانلي فش (S. Fish)، التي تؤمن بالقراءة كمواضعة لجماعة مفسِّرة، وذلك تحوّطا من فوضى التأويل التي فتح بابهافولفانغإيزر(W. Iser)، من خلال مقولتي ”القارئ الضمني” و”الفراغات النصّية”. ولذلك قيّدنا تلقينا للمتون الروائية المنتخبة في هذا البحث بالسرديات التوسيعية التي طرح ”جيرار جنيت” (G. Genette) رؤيته المتناغمة عنها في كتبه الثلاثة؛ ”مدخل إلى جامع النص”(Introduction à L’architexte)، ”أطراس” (Plimpsestes)، و”عتبات” (Seuils).

حاول ”ج. جنيت” فتح النص السردي أمام بنيات وأنظمة غير تلك التي تشكلها اللغة فقط. وفي الوقت نفسه توفير منفذ متماسك وملاذٍ آمن من فوضى القراءة الانطباعية.إنها رؤية حاولت أن تثني عطفها عن آليات بناء الخطاب، وتولي وجهها شطر آليات بناء النص، ليغدو المعنى معها وكأنه واقف أمام مرايا متجاورة من حق كل واحدة أن تعكس صورته.

لم يكن لهذه الرؤية أن تنال حظّها من الاستحسان لولا أنّها اتّكأت على مقولة نقدية كالتناص(Intertextualité)، الذي يُعدَّ الحالة الفطرية لكل نص. فبعد اعترافه بفضل جوليا كريستيفا(J. Kristéva) في اجتراح المصطلح، توقّع ”جنيت” أنّ مقولة التناص لم تعد قادرة على وصف التقاطعات الممكنة التي تلتقي فيها النّصوص. ولذلك اتّجه إلى إدراجه كشكل من الأشكال الخمسة التي يتضمّنها ما يُسمّى بـ ”التعالي النصِّي” (Transtextualité).

ولأنّ ”كل ما لا حدود له لا علم فيه”[2]، فقد قسّمنا هذا البحث إلى قسمين: قسم معجمي يروي رحلة الموضوع نظريا في عرض سكوني، خلا بعض المسلمات كمقولتي ”التراث” و”الكتابة”، وقسم تطبيقي انتخبنا له ثلاثة متون روائية عادت كلها للروائي الجزائري واسيني الأعرج.

إن الطّبيعة الإشكالية لموضوع هذا البحث فرضت علينا الاتصال أحيانا بالفلسفة، وبمقولات الفكر العربي المعاصر، فاهتمامات هذا البحث – في الأخير- هي الإنسان في سعيه الحثيث نحو المعرفة.ولهذا جعلنا المدخل والفصلين الأولين انعكاساً لتدرج الأفكار فيه؛ حيث اختص المدخل بتقديم الكلمات الثلاث من عتبة العنوان وهي ”التراث” و”الوعي” و”الكتابة” في عرض حاول أن يتخفّف – ما استطاع- من البعد المدرسي المنطوي على كثير من التعريفات اللغوية والاصطلاحية. ثم جاء الفصل الأوّل: الرواية والتلقي؛ نقض وهم المحاثية، ليرصد أبعاد معانقة الرواية للتراث التاريخي، ثم مواضعات الكتابة الروائية وآليات تلقيها، ليترك الرواية المتعلقة بالتاريخ والتراث في عهدة النقد العربي المعاصر.

أمّا الفصل الثاني، والذي كان هو الآخر نظريا، والأفضل ألا يكون، لولا الحاجة التي دعت إلى تقديم مادّته كذلك. ومنها أنّنا وجدنا القراءة النقدية لمقولتي النص الموازي (Le paratexte)، والتعلّق النصّي (l’hypertexte)–عربياً- لا تُقدّمان من منظورهما الغربي، إلاّ من خلال المراجع الوسيطة تارة، أو إن قدّمتا من مصادرهما، فباقتضاب في صدر المباحث التطبيقية كما هو الحال لدى عبد الملك أشهبون وعبد الفتاح الحجمري، وفوزي الزمرلي. لقد اقتصرنا في تقديم عناصر النص الموازي على العنوان والتصدير والهامش والغلاف، نظراً لإمكانية الاستفادة من طاقتها الدلالية في قراءة المتون المنتخبة. ولم نستفد كثيراً من عنصر الحوارات والاستجوابات، مع الاعتراف بكثرتها. وذلك لأنّ ما وقع تحت أيدينا منها، لم يكن للأسف موثقا إلا بروابط إلكترونية، فلم نشأ أن نثقل البحث بها.

أمّا لاختبار ما جاء في المدخل والفصلين الأول والثاني، فقد خصّصنا ثلاثة فصول. أطلقنا على الأول منها اسم: شعرية العتبة النصية (الرواية في مواجهة محيطها النّصّي)، ولما كانت رواية ”البيت الأندلسي” قربانا نقدمه لهذا الفصل، فقد اخترنا لمباحثه عناوين تناسب ”البيت”، وهي ”المفاتيح”. وقد قرأنا في الفصل علاقة جهاز العنونة والتهميش والتصدير ببعض التيمات في الرواية.

وأمّا الفصل الثاني من التطبيق فكان عنوانه: التعلق النصِّي الجزئي في رواية ”سوناتا لأشباح القدس”” (الرواية في مواجهة محيطها الفني). وقد اختص هذا الفصل بتقديم قراءة لبلاغة اللون والموسيقى في الرواية. ليبقى الفصل الثالث بعتبته: التعلق النصِّي الكلّي في رواية ”كتاب الأمير” (الرواية في مواجهة محيطها التاريخي) آخر الفصول وأكثرها تحملا لحرقة البدايات، لأنه كان أوّل ما أنجزنا من هذا البحث تطبيقا، فاختار البحث أن يجعله آخر الفصول.

تبدو مقولة ”التعلّق النصّي” وهي تقترب من النص الروائي بسيطة من حيث المبدأ، ولكنها معقدة من حيث الممارسة، ذلك أنّ التفتيش عن نصين؛ نصٍ سابق ونص لاحق، هو – في حقيقة الأمر- محاولة لفصل توأمين بلغة الجراحة، ثم لا ينحصر الأمر – حتما- في ذلك، بل يتعداه إلى استنكاه طبيعة العلاقة بينهما؛ هل مؤداها المحاكاة، أم المعارضة، أم التحويل؟

ثم جاءت الخاتمة في الأخير ملخّصة لصراع الفصول الخمسة حول النص الروائي في علاقته بمحيطه النصّي والتاريخي والفني.

إنّ ما يقع في صلب هذا البحث – باختصار- هو العروج إلى عوالم النص الروائي، وارتياد آفاقه، وذلك بتمديده على سرير المنهج الوصفي عبر منحه فرصة محاورة قارئه، من خلال تعاضد تأويلي متحفّز إلى مجاوزة وهم المحاثية ومعانقة جمالية الانفتاح.

ومهما يكن من أمر، فإننا لن نتحجج ونحن نودّع مقدمة هذا البحث،فلن يكون ذلك عذرنا في التقصير، وإنما هو عامل مستحكم فينا جميعا؛ ”الوقت” الذي لم نحسن –ربما- تصريفه، فإن كان من نقص فمن جانبه أوتينا.

جلال عبد القادر

سيدي بلعباس في: 12-11-2019

[1]– الرواية بالنسبة لـ ”يسلي فدلر” ضرب من الفن الشعبي أو الثقافة لما تحت الأدب. وهي شكل فني نتج عن إلغاء الفارق بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي، إنها إنتاج السوق الرأسمالي الذي أصبح مخزن أحلام جميع المجتمعات المتقدمة. والبضائع هي ما يجسد تلك الأحلام للناس. ومنتج هذه الأحلام هي الآلة كاهن حضارتنا بامتياز، وصانع أحلامنا. ولما كانت الرواية منتج الآلة، لا شك أنها تغدو هي الأخرى أدباً حالماً أو أسطورياً، تروّج ما لا يمكن تحققه. وحالما يتكشف للناس في حضارتنا أن الرواية لم تعد تمثل إلا ”شزوفينيا” نخبة وطليعة من المثقفين، فسينفضّ الناس من حولها.انظر: يسلي فدلر؛ موت الرواية وبعثها ضمن كتاب نظرية الرواية؛ جون هالبرين، تر: محي الدين صبحي، منشورات وزارة الثقافة، سورية- دمشق، 1981، ص279 وما بعدها.

[2]– عبد المنعم زكريا القاضي: البنية السردية في الرواية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، مصر، ط1، 2009، ص 11.