تفصيل

  • الصفحات : 156 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2019،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الاولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-728-04-7.

يمثّل التّراث – بجميع أنواعه وأجناسه في أيّ أمّة – جذورها وأصالتها، والتّراث يبقى هو المنهل والمعين الذي لا ينضب مهما اغترف منه، بل يزداد شأنه شأن البئر كلمّا ورده الورّاد واستقوا منه، فهو قابل للتطوّر، ومصدر الإبداع والتّجدّد.

فالتراث ـ  أيّا كانت إبداعاته ـ ممتدّ فينا، ونحن نشأنا في رحمه، ومن لا تراث له، فإنّه لا أب له، وعلينا الإفادة منه، واستلهامه في ضوء ما يثريه، ومن فرّط في تراثه لا يستحق الحياة، وإن عاش فهو ميّت، لأنّ الانبتات لمن لا تراث له.

إنّ معاودة قراءة تراثنا يحقّق مقصدين أوّلهما: إتاحة الفرصة للقارئ ليعايش النصوص التراثية في صورتها التي ورثناها عليها، وثانيهما: هو توفير مزيد من الثقة والأمانة العلميّة لدى تتبع الدراسة التي تلي النّصوص.

لقد بلغ إنسان العصر الحالي شأوا كبيرا في ميدان التقدم العلمي المادّي، حتى أنّ العقل البشري يقف مشدوها مندهشا، إلاّ أنّ الحياة الرّوحية بدت فاترة ضعيفة، ويبدو ذلك من الضجر والقلق وانعدام الطمأنينة، ولن ينال إنسان هذا العصر هذه الأمور التي غابت وضيّعناها إلاّ في آفاق من الرّوحانية، فبها تؤنس النّفس، وتشدو بالحياة، وتعلق بقيمها وروعتها.

كلّ شيء إذا بلغ الذروة بدأ في الانحدار والضعف ـ وهذه سنّة الله في خلقه ـ إلاّ الأدب إذا بلغ القمّة حقق الخلود له ولصاحبه، ثمّ إنّ الأدب الصوفي أغنى شيئا في ميدان التراث اللغوي.

التصوف جوّ روحاني، تتظلّل بظلاله جميع أطياف البشر، بغض النظر عن جنسها ولغتها، حيث تذوب فيه وتزول الفواق، ويعمّ الوئام، إنّه انفتاح على كلّ الأديان، فهو عالم تجلّ وإشراق ومناجاة لذات كلّية، تتجه إليها كلّ الذوات، فالمنهل واحد، والمشكاة واحدة، فالجميع ينهل من ذات العين، ويستنير بذلك المصباح.

الأدب الصوفي أرض خصبة، تنمو فيها بذور الشعور وتكبر، لتنطلق إلى عالم طليق شاسع، عالم اللامحدود، لتعانق الجميع كل الجميع.

يأخذ الأدب الصّوفي المكانة المرموقة واللاّئقة به خاصّة في عصرنا، فما من أديب أو فنّان إذا أراد النّقاد أن يبرزوه أو يروّجوا له ولإنتاجه وسموه بأنّه صاحب مسحة أو نزعة صوفية، وحتّى أولئك الذين لا ميل لهم في سلوكاتهم إلى التّصوّف والصّوفية.

ممّا يدلّ على أصالة هذا الأدب والفكر عموما هو أنّه رغم التنكيل والتّهجير وحتّى القتل أحيانا الذي لقيه أصحابه في العصور الأولى, ورغم أنّهم كانوا منبوذين من وسطهم، العوام والخواص، أقصد من بعض العلماء اعتقادهم أنّ ما جاءوا به قد يؤثّر على العقيدة والإيمان.

يتسم الأدب الصوفي بسمة الخلود، فرغم العراقيل والعقبات التي اعترضته، فقد وصلنا وبقوّة، وما زال يلهمنا ويؤثّر فينا، فهو أدب يعبّر عن الأذواق والعواطف النّبيلة والأخلاق العالية، فهذه المزايا كفيلة بجعله خالدا، فالأدب الخالد هذا ديدنه كما ذكر ميخائيل نعيمة في كتابه “الغربال” حين تحدّثه عن المقاييس التي بفضلها يحقّق الخلود،وبما أنّ الأدب الصوفي أدب ذوق وعاطفة فهو خليق بالخلود والبقاء، فاتسام الأدب عموما والصوفي خصوصا بالخلود، لأنّه عواطف، وعواطف الناس من حبّ وبغض وحماسة وشوق وغيرها باقية لا تزول مهما يطرأ عليها من الاستحالة في بواعثها وفي درجة قوّتها أو ظواهرها، فالكلام المعبّر عن العواطف خالد ما بقيت في النّفوس قوى الانفعال، فإنّه يتجدد باطراد من غير أن يطرأ عليه البلى، ولكونه يبقى فاعلا في قارئه محرّكا له، فإذا كان في الأدب من آثار خالدة، ففي خلودها برهان قاطع على أنّ في الأدب ما يتعدّى الزمان والمكان.

فالذي فاض به الأدب الصوفي ـ شعرا ونثرا ـ هو نفحة ورياض فوّاح، وتعبير عن حبّ وشوق عميقين، وعن تواصل كبير بالخالق.

ينزعني الأدب الصوفي إلى الانغماس فيه لإيغاله في الصدق، فهو ينبع من الذات ويلتحم بها التحاما وثيقا، كما يتميّز بطابع تعددي في مستويات القراءة، ومستويات التشكيل، ثمّ إنّ الصوفيّة كان لهم قصب السبق في تجلية آفاق العطاء الثري للغة الضاد وتراكيبها المتنوعة.

الأدب الصوفي بحر صعب الولوج والإبحار، عسير العوم وتتمنّع السباحة فيه، فهو واسع الخيال جموح، ثريّ الفكر، غضّ اللغة، يستهوي القلوب، ويأسر النّفوس، ويبعث فيها الأريحيّة، وهذا كلّه لأنه يعتمد على الرّمز والإيحاء والإشارة والغموض الإيجابي، وليس الإبهام، فهو أدب شاق شائك، لأنّه أدب النفس والوجدان والفكرة والمعتقد.

اخترت البحث في ميدان الأدب الصوفي لما يتميّز به من عمق الفكرة وجمالية التعبير، وسباحة الخيال، ولأنّه يبحث في القضايا العقائدية والأخلاقية، فمضامينه لا تخلو بل معظمها إن لم نقل كلّها حول تمجيد الذّات الإلهية، وكيفية الاتصال به والسباحة في ملكوته، ثمّ إنّه يعتمد على عنصر الدهشة والإغراب، وكلّنا يعلم بأنّ النفس تعشق الغريب والجديد، يقول عبد القاهر الجرجاني: (إنّ كلّ شيء كلّما كان أغرب كان أعجب) ، ولكونه يبعث على اعتمال العقل، ويشبع الذّوق والعواطف ،

والله وليّ التوفيق.