تفصيل

  • الصفحات : 192 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2021،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-196-8.

أنعم الله سبحانه و تعالى على الإنسان ببيئة زاخرة بموارد طبيعية متعددة، و ألزمه بضرروة المحافظة عليها و إستخدامها على نحو يكفل الإنتفاع بمواردها دون ضرر و لا ضرار، إلا أن الإنسان عمل على تكييف و تطويع العناصر البيئية تلبية لرغباته المتزايدة حتى تجاوز حدود المعقول، لا سيما بعد  الثورة الصناعية و ما خلفته من آثار سلبية على البيئة باعتبارها بوتقة جميع مصالحنا المكرسة قانونا، و من ثم فإنه من باب أولى الاهتمام بها إلى الحد الذي يكفل ضمان الاستمرارية النفعية للأجيال القادمة في إطار ما يسمى بالتنمية المستدامة.

فإذا كان التطور التكنولوجي قد ترسخت معالمه بشأن رفاهية الإنسان، إلا أنه اصطحب معه آثار سلبية مناطها التعسف في إستعمال الموارد الطبيعية و إدخال الملوثات من مواد كيماوية و صناعية فضلا عن نفايات المصانع و نواتج احتراق الوقود، و قد كانت الدول الصناعية الكبرى سباقة في إحداث التلوث، و بموازاة ذلك تم اكتشاف مدى تعاظم هذه المشكلة؛ الأمر الذي إستوجب معه السعي إلى إيجاد الحلول المناسبة للحيلولة دون تفاقم آثارها .

و بالنظر إلى أنه من بين إفرازات التقدم العلمي إزدياء الإعتداءات المتكررة  على العناصر البيئية التي تعتبر محور إرتكاز المصالح القانونية الأساسية الجديرة بالحماية، فإن  تدخل المجتمع الدولي لمواجهة ما قد يطرأ على البيئة ضرورة إقتضتها تعالي صرخات الاستغاثة التي دوت أصداء العالم، و التي إستجابت لها الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال المبادرة إلى عقد مؤتمر دولي لمناقشة المشكلات المحدقة بالبيئة، و هذا خلال الفترة  من 5 إلى  16 يونيه عام 1972 في مدينة إستكهولم بدولة السويد، و الذي تمخض عنه إقرار  مجموعة من المبادئ والتوصيات كانت بمثابة الركيزة الأساسية لكافة التشريعات البيئية، و تلاه إنعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الأول حول منع الجريمة و معاملة المذنبين سنة 1990،  ثم الثاني بريو ديجانيرو بالبرازيل عام 1992 و المعروف بمؤتمر قمة الأرض الذي نتج عنه إبرام إتفاقية التنوع البيولوجي، ليأتي بعد ذلك مؤتمر جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا سنة 2002 حول التنمية المستدامة.

وقد تمخض عن هذه المؤتمرات سعي المجتمع الدولي نحو إصدار التشريعات الرامية لحماية البيئة،  خاصة بعد أن ترسخت أهمية الحفاظ عليها باعتبارها من القيم السامية التي تفوق في أهميتها معظم القيم الأخرى، تأسيسا على أن الإضرار بها لا يمس فردا بذاته و لا فئة بعينها لكنه يصيب مجتمعا بأكمله، و لزاما لذلك أضطر المشرعون إلى التدخل مستخدمين القانون الجنائي-بشقيه التجريم و العقاب-  لحمايتها و المحافظة عليها، و الذي  أفرز ميلاد مجموعة من الجرائم لم تكن معروفة  في مدونة المشرع الجنائي عرفت بإسم” جرائم تلويث البيئة، و على إثرها أصبحت كافة دول العالم تتسابق في سن القوانين اللازمة لحماية البيئة .

و قد حظيت مختلف التشريعات في الآونة الأخيرة بتطور إيجابي اصطبغ بمساهمة القانون الجنائي في توفير الحماية اللازمة للبيئة؛ من خلال الاهتمام بالجوانب الموضوعية المتمثلة أساسا في تحديد  مختلف  الجرائم الماسة بالبيئة وبيان أركانها و المسؤولية الجنائية عنها و كذلك الجزاءات المقررة لها، و في مقابل ذلك استوجب تدعيم الجوانب الإجرائية لما لها من دور فعال في حماية البيئة، و هو ما عكفت على الاهتمام به غالبية  التشريعات المعاصرة من خلال إعتماد أسلوبين رئيسيين يقوم أحدهما على إتقاء وقوع التلوث، أما الثاني فيرتكز على إصلاح الأضرار الناتجة.

و مواكبة منه لهذا التطور سعى المشرع البيئي إلى تفعيل الآليات الوقائية و التدخلية بمعرفة الإدارة العامة، غير أن تجسيد الطابع الوقائي للسياسة البيئية تأثر بعدم إستقرار الإدارة بشقيها المركزي و المحلي طيلة الثلاث عقود السابقة لاستحداث وزارة تهيئة الإقليم و البيئة. كما تأثر أيضا بتأخر إعتماد القواعد التصورية و برامج و مخططات إقتصادية و قطاعية وبيئية متخصصة، لا سيما ما تعلق منها بتطبيق الأساليب المرنة ذات الطابع المالي و التحفيزي التي تقوم على تشجيع المخالفين و حثهم على تخفيض التلوث مقابل حصولهم على مزايا مالية مباشرة.

فقواعد القانون الجنائي قد  لا يمكنها توفير الحماية اللازمة للبيئة، و من ثم فإنه ينبغي توفير حماية غير جنائية تكفلها بدرجة أساسية قواعد القانون المدني، و التي مفادها وجوب إصلاح الحال أو التعويض عن الأضرار اللاحقة بالبيئة ضد كل شخص ثبت في حقه الخطأ أو التقصير. إلا أن هذه القواعد يجب تكييفها لجعلها تتواءم و طبيعة الأضرار البيئية الناتجة بالأساس عن التلوث، و المتميزة بخصائص تختلف عن الكثير من مثيلتها التقليدية المعروفة في ظل النظم القانونية الوطنية و الدولية.

و بالنظر إلى إمكانية تلاشي مبادئ السياسة العقابية التقليدية أمام خصوصية الضرر البيئي، كان لزاما على المشرع السعي جاهدا إلى المزاوجة بين الحماية الجنائية و بين نظيرتها الغير جنائية لأجل كفالة مختلف المصالح التي يسعى إلى تحقيقها القانون البيئي، و هو ما كرسه المشرع الجزائري بإصداره أول قانون بيئي سنة 1983، ثم تلاه القانون 03/10 المتضمن حماية البيئة في إطار التنمية المستدامة، الذي تضمن مجموعة من المبادئ مستمدة من إحساس المجتمع المدني و مؤسساته بضرورة تحقيق المقاربة الموضوعية بين تحقيق التنمية الاقتصادية و مقتضيات حماية البيئة.

فالمواجهة التشريعية للبيئة تستوجب تفعيل دور الجمهور من خلال توعيته بأهمية البيئة إلى جانب تفعيل دور الإعلام في الحياة الاجتماعية، و يندرج هذا ضمن إطار الحق في الإعلام البيئي الذي يتمحور على ضرورة إشراك الجمهور في تفعيل حماية البيئة، و هو ما يعد من مقتضيات السياسة الجنائية المعاصرة .

و هناك عدة إعتبارات تعطي لموضوع هذه الدراسة أهمية حيوية يمكن إجمالها فيما يأتي:

– حداثة الدراسات القانونية في نطاق حماية البيئة، حيث لم يبرز إهتمام العالم بها جديا إلا بعد منتصف القرن العشرين، فجاء هذا البحث إضافة علمية يمكن أن تساهم في إثراء المكتبة القانونية  و تسد بعض جوانب النقص في مثل هذا النوع من الأبحاث والدراسات الأكاديمية.

– يعتبر موضوع البيئة من قبيل الموضوعات التي إستقطبت إهتمام مختلف التشريعات العالمية باعتباره يعالج قضية في رأس الأولويات لتعلقها بالحياة البشرية ومقومات وجودها، فهي ليست نافلة لا يطالب ﺑﻬا على وجه الإلزام، أو أمر ثانوي لا يؤثر فقدانه، إنما هي في قمة المصالح الضرورية المستوجبة الحماية.

– تدعيم مبدأ الشرعية الجنائية عن طريق تبيان الأركان العامة للجريمة البيئية و التي ستساهم بطريقة فعالة في التقليل من إنتهاك قواعد التشريع البيئي .

-الإهتمام العالمي بموضوع حماية البيئة من التلوث إلى درجة جعلته من أكثر قضايا عالمنا المعاصر أهمية بتصدره لمختلف الإهتمامات الفكرية و العلمية، و هذا بالنظر إلى إزدياد حجم التلوث البيئي و إتساع نطاقه بحيث بلغت معدلاته حدا يهدد البشرية جمعاء بالفناء.

و يمكن تقسيم أسباب اختيار الموضوع إلى أسباب ذاتية و أخرى موضوعية:

أالأسباب الذاتية: لقد اشتدت رغبتي في خوض غمار هذا البحث لأنه موضوع جديد يمكن أن يجلب إهتمام مختلف الباحثين في الحقل القانوني، حتى يكون لهم فسحة تخفف عنهم غموض المصطلحات الموضوعة و التعقيدات المتعلقة بهذا البحث.

بالأسباب الموضوعية: يمكن إجمال الأسباب الموضوعية لإختيار موضوع البحث في الآتي:

– إن الظواهر البيئية السلبية الملاحظة بشكل يومي كظاهرة التلوث الهوائي و المائي بالإضافة إلى تراكم النفايات الصلبة في الشوارع و الطرقات، فضلا عن فوضى العمران توحي بعدم وجود إطار قانوني يضبط و ينظم هذا المجال، الأمر الذي يفتح المجال للبحث عن مدى صحة ذلك .

-إستقصاء أسباب عدم إحترام قواعد التشريع البيئي من طرف بعض الأشخاص المعنوية بإجراء دراسة وصفية تحليلية لهذه الظاهرة.

-تبيان مدى كفاية الجزاءات الجنائية في التقليل من إنتشار الجريمة البيئية و مقارنتها بالمعايير والضوابط التي أرستها الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة هذه الجريمة، على اعتبار أنها أصبحت ظاهرة عابرة لحدود الدول.

– الوقوف على مدى فعالية الحركة التشريعية الوطنية في إرساء دعائم السياسة الجنائية الرشيدة الكفيلة بمواجهة التحديات الراهنة، و المرتكزة على الموازنة بين ضرورة حماية البيئة و تلبية متطلبات النمو الاقتصادي.

و تثير المعالجة القانونية لموضوع حماية البيئة العديد من الإشكاليات أهمها تحديد نطاق المصلحة محل الحماية نظرا لصعوبة تحديد ماهية البيئة و تلوثها، و هو ما أعطى بعدا قانونيا لجرائم تلويث البيئة يختلف عن المفهوم التقليدي لباقي الجرائم  خاصة في بعض أحكام المسؤولية الجنائية، و كذا  وضوح كل من الركن  المادي و المعنوي، بالإضافة إلى النتيجة الإجرامية.

و بالرغم من الأهمية البالغة التي تكتسيها الآليات الوقائية في ضمان توفير حماية وقائية للبيئة، إلا أنها لا يمكن أن تضمن في كل الحالات عدم وقوع أضرار تصيب البيئة، و يعزى ذلك إلى إمكانية فشل قواعد الاحتياط أو بسبب وقوع حوادث؛ الأمر الذي يستوجب البحث عن آليات ملائمة لإصلاح هذه الأضرار المستعصية الاتقاء، و الذي يمكن أن يتحقق بتفعيل المسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية خاصة تلك المتعلقة بالمسؤولية التقصيرية المرتكزة على كل من الخطأ و الضرر و علاقة السببية، و هي أركان يصعب إثباتها إذا كنا بصدد التلوث البيئي، و من ثم فإن تعويض المضرورين يستوجب تفعيل آليات مستحدثة كفيلة بتحقيق ذلك.

و تعتبر حماية البيئة من  مقتضيات الحفاظ على النظام، لأجل هذا قد تلجأ الإدارة في سبيل تحقيق ذلك إلى فرض قيود على حقوق و حريات الأفراد مستخدمة في ذلك وسائل الضبط الإداري  سواء كانت وقائية أو زجرية، و التي يمكنها أن تبقى عاجزة دون تحقق النتائج الضارة بسبب خصوصية البيئة ذاتها، و أسباب أخرى  قد توعز لكيفية تطبيق هذه الآليات.

من خلال ما سبق يتضح لنا أن مشكلة الدراسة تكمن في صعوبة إثبات خطر التلوث و نسبته إلى شخص معين يكون مسؤولا عن تعويض الأضرار البيئية، سيما إذا ما سلمنا أن غالبية هذه الأضرار ترتكب من طرف أشخاص معنوية و هو ما يطرح إشكالية مسؤوليتها الجزائية، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المسؤولية يمكن أن تتزاوج مع المسؤولية المدنية و هذا حسب سياسة التجريم المنتهجة من طرف المشرع .