تفصيل

  • الصفحات : 315 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-057-2.

تمهيدّ

من جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي

إن جيش التحرير الوطني لم ينشئ بمرسوم أوقرار فوقي، بل خرج من رحم المعاناة التي ألمت بالشعب الجزائْري جراء الاستعمار الفرنسي، وكذا الظروف المحيطة بالثورة والإستراتجية التي اعتمدتها لبلوغ هدفها المتمثل في الاستقلال الوطني .فتكون جيش التحرير الوطني من عناصر مؤمنة بالكفاح المسلح،عرفت كيف تستفيد من تجارب وتقاليد شعبها التواق للحرية.وأدركت تمام الإدراك انه لا يمكن تنظيم جيش كلاسيكي لمواجهة القوات الاستعمارية، بل كانت ترى في الزخم الشعبي قوة حقيقية يمكن الاعتماد عليها من خلال تبنيها لقضيتها العادلة. وقد اخذ قادة الثورة على عاتقهم مسؤولية وضع هياكل لجيش وطني تحريري،وذلك بتشكيل مجموعات صغيرة قادرة على خوض حرب عصابات تبعا لظروف المعركة التي كان ينبغي خوضها مع الجيش الاستعماري، الذي كان متفوقا عدة وعددا. وكان السند الشعبي المتعاظم الذي لقيه جيش التحرير الوطني،و ازدياد عدد المنخرطين في صفوفه إيمانا بالثورة ودفاعا عن الوطن،قد مكنه من متابعة مسيرة الكفاح وبدا في تحسين وتطوير هياكله بصفة تدريجية وفقا لمعطيات الحرب حتى حلول تاريخ 20 أوت 1956. إذا انعقد مؤتمر الصومام وتم إعداد قاعدة صلبة لهذا الجيش. حيث تم تشكيل وتنظيم بنيه ومعداته حسب مقتضيات المرحلة الجديدة في مسيرة الثورة. مما أعطى دينامكية للثورة المسلحة ومكن من رفع فعالية وحداته بشكل محسوس. وقد تجلت هذه الفعالية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة من الحرب، خاصة بعد تزويده بمعدات وأسلحة متطورة ساهمت بقدر كبير في حسم المعركة لصالحه ضد الجيش الاستعماري وتحقيق الاستقلال الوطني.

 

ومع انجاز جيش التحرير لمهمته التي توجت بالاستقلال الوطني وحتمية تكوين جيش نظامي قادر على حماية هذا المكسب، أعلن عن تحوير جيش التحرير إلى الجيش الوطني الشعبي في الأيام الأولى الاستقلال وذلك بهدف وضع تشكيلاته تحت سلطة مركزية واحدة.

وأمام الأخطار التي واجهتها البلاد غداة الاستقلال والتي كانت تهدد التماسك الوطني والأمن الداخلي بسبب أعمال التخريب المادي الذي تعرضت له المؤسسات على يد منظمة الجيش السري الإستعمارية وبتواطؤ مع الخونة

والقيام بأعمال الشغب وإشاعة الفوضى، كان على الجيش التحرير الوطني الشعبي تصفية هذه الجيوب وتحقيق الأمن والاستقرار، وتحمل في هذا الظرف العصيب مسؤولية تشغيل المرافق في جميع الظروف.

اضطلع الجيش الوطني الشعبي بمهامه وذلك بمشاركته الفعالة في مشروع الوطني الهادف إلى استكمال الاستقلال في جميع الميادين النشاط حيث قام بـ:

– سد شغور المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية.

– تطهير الحدود الشرقية والغربية من الألغام الممتدة على خطي شال وموريس وإزالة أثار الحرب المدمرة.

– بناء مرافق الخدمات وتقريبها من المواطنين لفك العزلة عنهم.

– رسم الحدود مع الدول المجاورة وتامين سلامتها.

كما كان الجيش الوطني الشعبي من وراء مسيرة الرحلة الطويلة التي لم تخل من المشاق من اجل القضاء على مخلفات قرن وثلث قرن من الاضطهاد والتعسف في أبشع صوره.

وبالموازاة مع هذه المهمة لم يتوان الجيش الوطني الشعبي في الاهتمام بالتكوين العسكري وتدعيم قدراته القتالية، فلم تمض السنة الأولى على الاستقلال حتى ظهرت إلى الوجود قيادة الدرك الوطني في اوت 1962 . ومصلحة الإشارة في 15 سبتمبر 1962. كما عين وزير الدفاع في 27 سبتمبر 1962.

وشرع في إنشاء هياكل التكوين والتدريب وإرسال البعثات إلى الدول الشقيقة والصديقة لتتحرج من كبريات المدارس والمعاهد في مختلف التخصصات مشكلة بذلك أولى الطلائع التي ستؤطر الجيش الوطني الشعبي وتطوره تنظيما وتسليحا.

ومن ثم بدأت المدارس تظهر إلى الوجود كمدرسة أشبال الثورة في ماي 1963 والكلية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال في جوان 1963،ثم تلاها إنشاء هياكل التكوين الأخرى في مختلف الأسلحة بما يستجيب لمتطلبات الجيوش الحديثة والتقنيات العسكرية المعاصرة والتزويد بالأسلحة والتجهيزات المتطورة

وبدأت ثمار التكوين تؤتي أكلها وأخذت الدفعات تتخرج الواحدة تلوى الأخرى في الداخل والخارج وبدا الجيش يكبر وتشكيلاته تبرز إلى الوجود، فأصبح في حاجة إلى الاختصاصيين في ميدان النقل والإدارة والقضاء وبدأت هياكل التكوين في الاتساع، حيث تم إنشاء مدرسة النقل العسكري في مارس 1963، مدرسة الدرك الوطني بسيدي بلعباس في 27مارس 1964.وصدر مرسوم قانون القضاء العسكري في 22 أوت 1964. وعندما حلت سنة 1965تم إنشاء المدرسة الوطنية لسلاح المضاد للطيران بالرغاية.وبتاريخ 15سبتمبر 1965 تم فتح المدرسة التكتيكية للعتاد العسكري تلتها مدرسة الصحة العسكرية في 11 نوفمبر1965. وكذا مركز التدريب ببوغار.كما أنشأت المدرسة الفنية للملاحة الجوية بالبليدة في 1965.

وفي سنة 1966 شهد الجيش الوطني الشعبي رجوع عدة دفعات من المتربصين في الخارج كان لها الفضل في دعم منظومة التكوين والتدريب في الجيش الذي كان دائما على أهبة الاستعداد للوقوف إلى جانب الأشقاء في كل أزمة تحل بهم. فبالرغم من الأعمال الجليلة التي قام بها جيشنا على المستوى الوطني، فقد تقاسم أعباء المصير المشترك مع الأشقاء العرب بعد نكسة 05 جوان 1967 اثر العدوان الإسرائيلي على مصر، حيث هب الجيش الوطني الشعبي لنجدتها. وتحركت الطلائع الأولى إلى ارض المعركة، فحطت أول طائرة عسكرية جزائرية في مطار القاهرة يوم 06 جوان1967 ثم وصل بعد ذلك بقليل لواء بري،التحق بالخط الأول للجبهة. وعندما استعاد الجيش المصري أنفاسه، وبدأت حرب الاستنزاف كان أفراد الجيش في الطليعة في جبهة القتال، فلبوا بلاءا حسنا واستبسلوا استبسالا نادرا، رغم عدم تكافؤ الإمكانيات بينهم وبين العدو. ونفس الموقف المشرف سجله الجيش الوطني الشعبي في حرب اكتوبر1973. فبالرغم من طابع السرية المفاجأة التي اتسمت يهما حرب 06 أكتوبر 1973 ضد إسرائيل على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أن هذا لم يمنع الجزائر من نصرة الأشقاء في مصر وسوريا حيث احتلت المرتبة الثانية بعد العراق من حيث الدعم العسكري الذي قدم لهذه الحرب.

و كانت خطوة الجيش الوطني الشعبي التالية هي المساهمة في عملية تشييد الوطن، وذلك عندما أدركت الدولة الجزائرية في فترة ما بعد الاستقلال أن معركة البناء لا يمكن أن تتم إلا بالاعتماد على سواعد شبابها الذين يمثلون أغلبية السكان، وأن الاعتناء بهذه الفئة هوالضمان الوحيد لتجنيد طاقتهم الهائلة حول المهام الوطنية في إطار الخدمة الوطنية.

لقد تعززت صفوف الجيش الوطني الشعبي بعد سن قانون الخدمة الوطنية في16 افريل 1968.بطاقات شبانية أعطت دفعا جديدا لقواتنا المسلحة وبذلك صارت هذه المؤسسة تمثل تنظيما جديدا ونمطا أصيلا في استعمال الموارد البشرية، بغية المساهمة في التنمية الوطنية وتدعيم الجبهة الدفاعية .كما أضحت الخدمة الوطنية خزانا يمد الجيش بالإطارات الكفاءة.في هذا المضمار بعد سنة من ذلك تم في افريل 1969 التحاق الطلائع الأولى من المجندين بصفة رسمية، وتوالت الدفعات تبعا من جميع الشرائح الشعبية لتعزيز قوات الجيش العاملة. ومن أهم المبادئ التي ارتكزت عليها الخدمة الوطنية:

مبدأ المساواة والعدالة، مبدأ المجانية، مبدأ الوحدة والإجمالية، مبدأ الفعالية، مبدأ التلاحم والتكييف الدائم، مبدأ المبادلة والمشاركة المتبادلة، مبدأ التنظيم والتطبيق.

و لقد تعددت انجازات التي قام بها شباب الخدمة الوطنية، خاصة الدفعات الأولى التي ساهمت في تحقيق عدة مشاريع كالمخطط الرباعي الأول ومشاريع البرامج الخاصة بالتنمية المناطق الريفية والفقيرة . وقد تمثلت هذه الانجازات، في بناء القرى النموذجية ومختلف مرافقها الحيوية، بناء السدود الجديدة وإصلاح القديمة منها، شق الطرق، حفر الآبار ومد الأنابيب، مد الأسلاك وأعمدة الكهرباء والهاتف . كما ساهم هؤلاء الشباب بقسط وافر في فك العزلة على المناطق النائية وكذا بناء المدارس والثانويان والجامعات في كثير من ولايات الوطن حيث أتاحوا للأجيال الصاعدة فرصة الالتحاق بميدان التعليم، إضافة إلى قيامهم بانجاز العديد من المطارات المدنية في مختلف جهات الوطن خاصة بالمدن الجنوبية  دون أن ننسى مساهمتهم في شق الطرق السريعة والخطوط السكة الحديدية.

كما يزخر سجل انجازات الخدمة الوطنية بمشاريع كبرى دعمت التنمية من أبرزها:

طريق الوحدة الإفريقية:

باعتبار الجزائر جزءا لا يتجزأ من القارة الإفريقية، بدأت مند الاستقلال على تحقيق هذه الوحدة، وفي هذا السياق عمدت إلى إنشاء طريق عابر للصحراء. إذ يعتبر يوم 16سبتمبر 1971 يوما تاريخيا لدى الشباب الخدمة الوطنية الذين تحدوا كل الظروف الطبيعية القاسية في الصحراء بكل عزم وإصرار، قصد تمتين الروابط والصلات الوثيقة بالدول الإفريقية جنوب الصحراء ن مما يسهل التعاون المتبادل وتوطيد العلاقات بين الجزائر وهذه الدول.

السد الأخضر:

من اجل مكافحة ظاهرة زحف الرمال والتصحر نحومدن الشمال تقرر إقامة حزام غابي سمي ب:”السد الأخضر”والذي بدا انجازه في سنة 1971،تمتد على مساحة 3 مليون هكتار بطول قدره 160 كلم وبعرض 20 كلم،حتى يغطي سهول البادية المرتفعة والأطلس الصحراوي .وقد تكفل الجيش الوطني الشعبي من حلال شباب الخدمة الوطنية بهذا المشروع الضخم.

مشروع الألف قرية:

في إطار انجاز المشاريع الاجتماعية الكبرى لتنمية المناطق الفقيرة والمحرومة. أسندت الدولة مهمة إقامة مثل هذه المشاريع إلى الجيش الوطني الشعبي حيث تكفل شباب الخدمة الوطنية ببناء ألف قرية بغية القضاء على الأكواخ وأحداث تغييرات في المجتمع الريفي قصد إعادة التوازن بتن المدن والأرياف والحد من ظاهرة النزوح الريفي.

ولتحقيق هذا المشروع الضخم، تم تجنيد كل الطاقات وبرز في الطليعة الشباب الخدمة الوطنية للعمل على قدم وساق من اجل تنفيذ هذا المشروع الذي تحقق النصيب الأوفى منه.

ولقد فرض مسار التشييد وإعادة البناء الوطني في فترة الستينيات، إقامة مشاريع كبرى. وكان من الطبيعي أن يساهم الجيش في هذا المسار بصفته القوة الوحيدة المنظمة آنذاك حيث خوّلت المادة الثامنة (08) من دستور 1963 صلاحيات إجتماعية وسياسية وإقتصادية. واعتبرت أن الجيش، وطني وشعبي، في خدمة الشعب والجمهورية ويشارك في النشاطات السياسية، الإقتصادية والإجتماعية في إطار الحزب. نصت المادة 82 على مايلي:

“تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني ودرع الثورة في المحافظة على استقلال الوطن وسيادته والقيام بتأمين الدفاع عن الوحدة الترابية ومياهها الإقليمية وجرفها القاري ومنطقتها الإقتصادية الخاصة بها” أما المادة 83، فنصت على أنّ:

“العنصر الشعبي عامل حاسم في الدفاع الوطني”

” الجيش الوطني الشعبي هوالجهاز الدائم الذي يتمحور حوله الدفاع الوطني ودعمه”.

ومن هنا تحددت سياسة الجزائر في مجال الدفاع الوطني الذي يتضمن سلامة التراب الوطني وعدم المساس بحدوده الثابتة وحرية الأمة في صياغة إختياراتها، كما تحددت أيضا على أساس قدراتها الإقتصادية الوطنية والمتطلبات المرتبطة بموقعها الجغرافي. ولقد كانت حصيلة الخبرات التي تجمّعت أثناء الشدائد مرجعا عكس عبقرية قواتنا المسلحة التي اضطلعت بواجب التصدي لكل الأخطار والإعتداءات التي من شأنها المساس بأمن البلاد وسلامة التراب الوطني.

ومثل هذه المهام جعلت قيادة الجيش تبذل أقصى الجهود لتطوير الطاقة الدفاعية لقواتنا المسلحة وتعزيزها حتى تتكيف مع التقنيات الحديثة بصفة جدية وواسعة لتصبح الأداة الدفاعية الفعالة.

ولكي يكون تطوّر الدفاع الوطني منسجما مع روح ثورة التحرير ومبادىء الأمة، كان العنصر الشعبي أحد أهم العناصر الأساسية والإستراتيجية، ومن هنا نصّت المادة 84 من دستور 1976 على مايلي:

” الخدمة الوطنية واجب وشرف”

“لقد تأسّست الخدمة الوطنية تلبية لمتطلبات الدفاع الوطني وتأمين الترقية الإجتماعية والثقافية لأكبر عدد ممكن وللمساهمة في تنمية البلاد”.

ومن هذا المنظور، فإن الخدمة الوطنية بما توفره للشباب المجنّد تشكل قاعدة للدفاع الوطني، كما تتوفر على بعد إقتصادي واجتماعي وعميق لما تحققه من رفع لمستواهم الفكري والثقافي وتعميق وعيهم وإدماجهم في أعمال التنمية.

وقد بقي الجيش الوطني الشعبي مثابرا يقظا يؤدي مهامه الدفاعية ويسجل حضوره الدائم بفعالية على الجبهة التنموية وفي أي ظرف تناديه فيه الجزائر لحفظ سلامة الأمة من الأخطار. إلى أن أعلن عن الإصلاحات الشاملة التي مسّت دوره ومهامه كما حددها دستور 1989. وبالمصادقة على دستور 23 فبراير 1989 دخلت الجزائر مرحلة متميزة في مسار تحوّلها السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، إذ أن مضامين الدستور الجديد في جوهرها تعكس في أكثر من موضع إهتماما خاصا بالإنسان ككائن حضاري يهدف إلى التغيير نحوالأفضل كما أنّه وسيلة هذا التغيير. فوضع له ضمانات من خلال التنصيص على حقوقه الأساسية، وحق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي، وبات من الضروري الفصل بين السلطات. وبهذه الصياغة الجديدة تسامى الجيش الوطني الشعبي عن النقاش السياسي، حيث إنحصرت مهامه في الدفاع عن السيادة والوحدة الوطنيتين وهذا ما أكدته المادة 24 من الدستور الجديد، حيث نصت على “تنتظم الطاقة الدفاعية للأمة ودعمها وتطويرها حول الجيش الوطني الشعبي. تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي في المحافظة على الإستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية. كما يضطلع بالدفاع عن وحدة البلاد وسلامتها الترابية وحماية مجالها البري والجوي ومختلف مناطق أملاكها البحرية”، وهوما أكده دستور 96 المعدّل في المادة 25. وعندما إقتضت الضرورة إحداث إصلاحات سياسية قصد بلورة المفهوم الديمقراطي في بلادنا طبقا للدستور الجديد لم يبد الجيش الوطني الشعبي أيّة عرقلة في طريق الديمقراطية بل بارك هذه الخطوة بسموّه فوق كل النزاعات والتيارات، والبقاء حارسا على ضمان الشرعية الدستورية لبناء مجتمع يسوده العدل والمساواة.

وللتكيف مع المقتضيات الدستورية التي نص عليها دستور 23 فبراير وخاصة المادة 24 منه، بادرت الهيئة القيادية لوزارة الدفاع الوطني ورئاسة أركان الجيش بالإنسحاب من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني والعمل السياسي ككل، من أجل التفرغ للمهام المحددة لها دستوريا وإلتزامها بالدستور نصا وروحا. وهكذا كان الحال دائما بنفس الروح تقريبا مع كل الدساتير والتعديلات.

و إذا كان جيش التحرير قد واجه بالأمس أعتى قوة إستعمارية إستيطانية قتلت الأبرياء وهتكت الأعراض ويتمت الأطفال ورملت النساء وشردت العائلات وهدمت العمران والمرافق. فإن الجيش الوطني الشعبي يواجه اليوم عدوا لايقل خطورة عن الأول وهوالإرهاب الهمجي الذي تمارسه جماعات تمردت على القيم والشرائع السماوية والأعراف والقوانين الوضعية بالتواطؤ مع قوى الشر في الداخل والخارج.

“ولقد أثبت الجيش الوطني الشعبي ومن حوله القوى الوطنية الحية خلال عقد كامل من مكافحة الإرهاب. وفاءه لرسالة الشهداء حيث حافظ على الدولة الجمهورية ومؤسساتها بعد أن كانت مهددة بالإنهيار، وهذا بفضل صمود أفراد قواتنا المسلحة وتحليهم بالروح الإنضباطية العالية والسلوك العسكري القويم والإنسجام ووحدة الصف، التي راهن الأعداء على تفكيكها. وهوماكان يتجلى من خلال الإشاعات والدعايات المغرضة والتصريحات التي كان يدلي بها بعض الأشخاص الذين باعوا ذممهم ووضعوا أنفسهم في خدمة أعداء الجزائر وروجت لها بعض وسائل الإعلام الموجهة والمأجورة.”

“ولكن الجيش الوطني الشعبي تصدى لها بكل ثبات وإرادة صلبة بفضل مايتميزبه أفراده من وعي وإيمان راسخ بقداسة المهمة الوطنية المسندة إليهم، والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والأمة وحرصهم الأكيد على سلامة ووحدة التراب الوطني وتحقيق الأمن والإستقرار في ربوعه.

“ولما كانت وحدات الجيش الوطني الشعبي تواجه الإرهاب وحدها في الميدان وتواصل اقتلاع جذوره من هذه الأرض الطاهرة وملاحقة فلوله، ناشدت الجزائر منذ البداية المجموعة الدولية داعية إياها إلى تكاتف الجهود لمحاصرة هذه الظاهرة، التي تعتبر الحدود الدولية خطوطا وهمية، قبل إستفحال خطرها الذي يهدد الأمن والإستقرار الدوليين. ولكن بعض الأطراف الدولية كانت مترددة، كما كانت مواقف بعضها محتشمة ومخجلة. وقد وصل الأمر بالبعض إلى حد التدعيم اللوجستيكي للجماعات الإرهابية. إلى أن استهدفت أقوى دولة في العالم، في أهم مراكزها الحساسة وتأكد للرأي العام العالمي بما لايدع مجالا للشك تنبؤ الجزائر بهذا الوباء الداهم الذي يهدد الإنسانية في كياناتها، وهوما عزّز موقف الجزائر الدولي في هذا المجال، وزاد من مصداقية قواتنا المسلحة التي جنبت البلاد خطرا كان محدقا بها بانتصارها على قوى الشّر. ”

و  تماشيا مع التطورات التنظيمية والتقنية التي تعرفها الجيوش العالمية، كان حرص القيادة دوما على تحديث قواتنا المسلحة وعصرنتها حتى تكون في مستوى المهمة الوطنية المقدسة المنوطة بها. وذلك إبتداء من سنة 1976، حيث أصبحت وحداتنا مجهزة بآليات ممكننة، ومن ثم يمكن القول بأن عصرنة الجيش قد بدأت من هذا التاريخ مع إدخال وسائل قتال متحركة.

ولم تقتصر العصرنة على عامل العتاد بل كان التنظيم والتكوين والتدريب محل اهتمام وانشغال القيادة. ومن ثم كان إنشاء أركان الجيش الوطني الشعبي في 28/11/1984. وفي 03/05/1986 تم إنشاء القوات البرية. وأعيد تشكيل وهيكلة القوات بالحجم الذي يؤمن القيام بنشاطات عملياتية. وقد شهدت سنوات الثمانينات أعمالا تنظيمية كبيرة مست مختلف القوات إنطلاقا من دراسة ميدانية عميقة تم استخلاصها خلال سنوات طويلة من العمل العسكري المتواصل الذي أدخل تحسينات نوعية على المورد البشري من حيث مستواه التكويني النظري والتطبيقي.

ومن هذا المنظور، أعيد تشكيل وهيكلة القوات بالحجم الذي يؤمن القيام بنشاطات عملياتية ترتكز على قدرات النار والحركة المتناميين مع ضبط ميكانيزمات وقنوات ملائمة للقيادة والإتصال، وبذلك ظهر تشكيل وحدات قتالية من نوع الفرق والتي تعتبر نموذجا بالنسبة للقوات البرية.

كما تم تنظيم قوام المعركة بتزويدها بمنظومات أسلحة جد متطورة إلى جانب الأجهزة الأخرى اللازمة للإستعمال وصيانة هذه المنظومة والتدريب عليها. وقد تم ذلك بالنسبة لأسلحة القتال الثلاثة التي استمر تنظيمها وفق المهام الموكلة إليها، وهكذا تم في 27/10/1986 إنشاء: القوات البحرية، القوات الجوية، المفتشية العامة للجيش ومندوبية الدفاع الشعبي.

وفي سنة 1987 أعيد تنظيم عدة مديريات بوزارة الدفاع الوطني، كما أنشئت في 05 ديسمبر 1986 قيادة الدفاع الجوي عن الإقليم، وبذلك اكتمل بناء الجيش الوطني الشعبي بهياكله وفروعه. وتبقى عملية تطوير قواتنا المسلحة وتدعيم قدراتها القتالية تتصدر أولويات القيادة العليا للجيش التي تعمل على تعزيز منظومة الدفاع الوطني.وهكذا بقيت عملية التطوير مستمرة إلى يومنا هذا

ولبلوغ هذه الغاية، تسهر حاليا عدة مؤسسات منتجة على تجديد وعصرنة بعض العتاد لمختلف القوات.

وموازاة مع العدد المتزايد للهياكل القاعدية من مراكز تدريب ومدارس تطبيقية، عرفت المناهج التكوينية والوسائل البيداغوجية تحسينا وتطويرا وعصرنة بما يتلاءم واللحاق بركب التطورات المتزايدة، بهدف الإرتقاء إلى مستوى الجيوش المحترفة في الدول المتقدمة. وهي كلها تندرج ضمن الجهد الجبار للإستثمار في مجال الإنسان بإعتباره أحسن استثمار وأضمنه.

ولأن الجيش الوطني الشعبي رمز السيادة وركيزة الأمة مدعولمواكبة العصرنة ومسار التحديث،وذلك لضمان مواصلة مهامه على أكمل وجه،في إطار ما خوله له الدستور.

وإذا كان الأمن بالنسبة للجزائر هوأداة مرتبطة بالطابع السياسي-العسكري لمحيطها الذي من شأنه أن يحدد الأهداف الإستراتيجية والدفاعية للجزائر كان عليها أن تكيف وتعزز وتطور قدرات دفاعها الوطني.

إنها عصرنة يفرضها وزن الجزائر على الساحة الدولية وموقعها الجغرافي المتميز وإمكانياتها الطبيعية والبشرية. إلى جانب توجهها الذي صنعه إستقلالها وكذلك مبادؤها،وبالتالي فإن الإحترافية تبقى هدفا دائما للجيش الوطني الشعبي

إن المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسة العسكرية للحفاظ على الإستقلال والسيادة الوطنية،جعل الإنتقال إلى الإحترافية الشغل الشاغل لقادتها. وتتمثل الأسباب التي أدت بالجيش الوطني الشعبي للتفكير في الإنتقال إلى الإحترافية وتبني العصرنة التي ينتج عنها بالضرورة تركيبة بشرية تتكون في غالبيتها من العاملين مع الحفاظ على مهامه الرئيسية المتمثلة في خدمة الشعب والأمة. إن المفارقة التي مازال أصدقائنا وأشقائنا وزملائنا من الشعوب العربية والإسلامية هو كيف أن الجزائريون يثقون في الجيش ويقولون لنا إن العسكر في كل البلاد العربية والإسلامية هم سبب الانحراف والفساد وأنهم حيث ما وجدوا غابت الديمقراطية ..”

وهنا كان الواجب يفرض علينا  التوضيح لمسألة ثنائية العسكر والسياسة في الجزائر ولثنائية شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة” ولهذا الالتحام بين الشعب وجيشه عبر كل تاريخ الجزائر وكيف أن هذا الشعب ليس له ثقة مطلقة بعد الله الا في مؤسسة الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير كيف أنه في كل الكوارث الطبيعية وفي كل الأزمات السياسية لا يجد الشعب إلا مؤسسة الجيش الشعبي الوطني إلى جنبه وفي مرافقته.

ربما هذا يعود إلى فشل الكثير من السياسيين وكثير من الأحزاب منذ الاستقلال في كل خططها وسياساتها.

ولكن التركيبة العجيبة الممزوجة بلحمة نادرة بين الجيش الوطني الشعبي وبين الشعب هي قناعة وعقيدة لم تأت من فراغ ولم تكن نتيجة قهر أو ظلم أو استبداد بل كانت حبا وتقديرا ووفاء متبادلا بين الجيش والشعب

ثم إن تركيبة الجيش كله أنه من أبناء الشعب البسطاء وليس جيشا نخبويا من حيث التركيبة أو الامتداد فالشباب الجزائري كان ومازال مصدر من مصادر فخره هو أن يلتحق بمؤسسة الجيش الشعبي الوطني ويكون في صفوفه.

ثم إن الجيش الشعبي الوطني هو واحد من الجيوش العربية القليلة التي حاربت الكيان الصهيوني وقوفا إلى جانب فلسطين وذلك فيحرب ال 1967 و1973 ثم أن الجيش الشعبي الوطني وهو سليل جيش التحرير كان سابقا في نشأته عن الكيانات السياسية فقد كان نواته الأولي الشبان الجزائريون الذين تربوا في أحضان الكشافة الإسلامية الجزائرية وتدربوا عسكريا فيها وشكلوا مجموعات مسلحة لمقاومة فرنسا الاستعمارية منذ الأربعينيات ثم نواة تشكيلته الأول هو المنظمة الخاصة العسكرية “لوس” التي أنشأها حزب الشعب الجزائري سنة 1947

تحضيرا لإعلان الجهاد والثورة وهو ما كان في 1954، ولذلك فإن الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير هو الذي أنشأ الدولة الجزائرية الفتية على درب الأمير عبد القادر الجزائري الفارس العسكري المقاتل المجاهد الذي أعاد تأسيس الدولة الجزائرية خلال الاستعمار الفرنسي وشكل جيشا وقاوم فرنسا مدة 17 سنة.

والأمير هو من الرموز الأساسية للدولة الجزائرية وهو رجل عسكري بالدرجة الأولي، ثم إن التركيبة النفسية الجزائري هي تركيبة مقاومة مقاتلة محاربة وخاصة إذا تعلق الامر بالعرض والأرض ولا ضير في ذلك فهو سائر على درب الأوائل مثل القائد ” سيفاكس” وعلى درب سيدى أبي مدين الغوث الرجل الصوفي العارف بالله الذي كان متجه للحج فعلم بالقائد صلاح الدين الأيوبي وجهاده لتحرير فلسطين فتخلف عن الحج وعرج على فلسطين ملتحقا بالجهاد مع صلاح الدين الأيوبي وأبلى البلاء الحسن وفقد ذراعه هناك ودفنها هناك وعاد إلى الجزائر وقد تحررت فلسطين من الصليبيين وقد. كان للجزائريين بطولات مع صلاح الدين الأيوبي وهو الذي كلهم بحماية الجناح البحري لفلسطين وهو يعلم ما يعرف عن الجزائريين بما يعرف “بالجهاد البحري” ومناصرة الأندلسيين حين سقوط غرناطة.

إن الذهنية الجزائرية مسكونة بقيم الفروسية وبالثقة المقاومة على الدوام وهي تعود إلى أغوار التاريخ وإلى نزعتنا النوميدية التحررية التي ترجل فرسان روما عن خيولهم أمام فرسانها أيام الحرب البونيقية الثانية.

لقد اشتهرت بلادنا بالثورات وارتبط تاريخنا بالتمرد وعدم الخضوع وإنكار الظلم ومغالبة التسلط وفي أسوأ الحالة يلجأ للمقاومة السلبية عبر المقاطعة والبعد.

لقد صمد الجزائري المقاتل حوالي ثلاثة قرون أمام الغزو الإسباني ورغم الانهزام أمام الغزو الفرنسي في 1830 بعد عامين من الحصار الذي ضرب على آيالة الجزائر ولكن الجزائريون قاتلوا وقاوموا بكل الطرق والسبل إلى غاية تشكيل جيش التحرير الوطني والذي هو ابن الشعب وابن الأرياف وابن الفلاحين والعمال وابن القرى والمدن والصحاري فيه من كافة أبناء الشعب وفئاته ومن كل الأعمار ومن الجنسين ومن كل المستويات وكان سند الجيش في كل المراحل هو الشعب الجزائري فقد كان الجيش يأكل رغيف الشعب ويقتات من عرق الشعب ويتدثر بكفافه ويتسلح بعزيمته ويتوكأ على عزمه ويصبر بصبره وكان الجيش دوما هو صمام أمان لوحدة الثورة ووحدة القرار ووحدة المصير وكان العمود الفقري للدولة الوطنية الفتية

إن الصورة التي تظل دائما أمامنا ماثلة عبر مدى الذاكرة التاريخية للشعب الجزائري هي صورة شعب قلما كف عن مقاومة المحتلين الغزاة مستحضرا على الدوام روح المقاومة ومنجبا لقادة عسكريين أفذاذا خاضوا معارك مشهودة بعضها إلى اليوم تدرس في كبريات الأكاديميات العسكرية الدولية وظل الجيش الجزائري إلى اليوم يضطلع بثلاث التزامات: احترام موروثاته ومبادئه التاريخية وإنجاز مهامه في الدفاع وتطوير تنظيمه وإمكانياته.

إن التداخل العسكري في المدني يحتاج منا إلى قراءة في التاريخ فمنذ أن فتح عقبة بن نافع رضى الله عنه أفريقيا كلها سنة 46 هجري بأمر من معاوية رضي الله عنه وجعل من البربر أنصارا له ضد أعدائهم من الروم والبيزنطيين وحلفائهم وحقق الانتصار العسكري والذي حوله إلى انتصار مدني عاد بالخير على الوطن وليشعر أهل البلاد بحدوث تغيير فعلي في حياتهم فأقام مدينة تمثل التعمير والبناء الجديد وتوفر العيش الرغيد وتكون في منأى عن الإعداد فأسس مدينة القيروان سنة 50هجري ولم تكن القيروان خاصه بتونس وحدها بل كل المنطقة فلم يكن التقسيم الجغرافي كما هو اليوم ومثلت القيروان قاعدة عسكرية للمسلمين في وسط إفريقيا فكان ما قام به “عقبة بن نافع “تكريس لتداخل العسكري بالمدني في تلاحم عجيب وكانت مسيرته بعد ذلك تجسد هاته الرؤية ولم تكن تلك الرؤية تهدف لتحقيق أهداف سلطة تسعى للبقاء بل من منطق جعل السكان الأصليين يدافعون عن معتقدهم الجديد وهذا هو ما حصل في مسيرة الجيش الوطني الشعبي الذي كان دوما مرافقا للشعب.

أ.د عطاء الله فشار