تفصيل

  • الصفحات : 143 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-485-3.

مقدمة

أصبح الذكاء الاصطناعي، نقطة مركزية في المناقشات في العالم القانوني، وكان الإجماع حول مسألة واحدة هي ثورة العدالة التنبؤية، نظرًا لأن هذه التكنولوجيا تشكل تحديًا لممارسة العدالة، لا يمكن إكمالها دون احترام بعض المسائل المهمة والتي تم التعامل معها وفق ترتيب زمنيً وتتعلق:

أولا: بتصميم الأدوات اللازمة، ثم معالجة البيانات، ثم، أخيرًا، مدى تأثيرها على المعيار المتبع وعلى الحكم وتحقيقا لذلك يتطلب الأمر إجراء عمليات إحصائية، على عدد كبير من قرارات المحاكم باستخدام التعلم الآلي.

فالتعلم الآلي هو مجال دراسة الذكاء الاصطناعي، الذي يحدد تصميم وتحليل وتطوير وتنفيذ الأساليب التي تسمح لبرنامج الحاسوب، بالتطور من خلال عملية منهجية تتمحور حول معالجة اللغة الطبيعية، التي هي فرع من فروع التعلم الآلي، والغرض منه هو التمكين من التحليل والفهم .

وجزء كبير من النقاش حول العدالة التنبؤية، يغذيها الخوف من اثار هذه التكنولوجيا على العدالة دون الوقوع في المأزق الوهمي لقضاة الروبوتات، الذي يعتبر مفهوم غير واقعي تمامًا، ذلك ان عملية بناء قرار محكمة معقد من خلالها ومتعدد العوامل، ومع ذلك فمن الضروري طرح الأسئلة للوصول الى حل في طريق عدالة تصبو دائما الى الأحسن.[1]

صفة “التنبؤية”، التي دخلت مؤخرا في القاموس اللاتيني، تشير في البداية إلى التنبؤ العلمي الذي يتمحور حول توقع الأحداث المستقبلية من الوقائع، التي يمكن ملاحظتها.

هذا المعنى الأخير أي كلمة “توقع” قديم ومتجذر في القواميس الفرنسية، وعلى الرغم من تفضيل مصطلح “توقع” في كثير من الأحيان إلا أنه تم الحديث، عن القدرة التنبؤية كمؤشر على القيمة العلمية التي قد تأخذها الفكرة حال تطويرها.

إن هذا التوقع لا يتعلق بالضرورة بحقيقة معينة، ولكنه قد يتعلق بالاحتمالية، أي وجود فرصة أو مخاطرة.

وعليه فالقيمة التنبؤية، إذن بهذا المعنى هي احتمال حدوث امر مستقبلي، من خلال ملاحظة الحقيقة الأولية وبالتالي، ففي مجال الطب التنبؤي نجده يتكون: من التقييم، على أساس العناصر المعروفة، على سبيل المثال:

المخاطر الجينية، أو السلوكية المحددة لتطوير هذه الحالة أو تلك، قد يكون الأمر بعد ذلك مسألة اتخاذ تدابير وقائية بفضل معرفة ما يمكن أن يحدث.

ومن ثمة فالغرض من العدالة التنبؤية هو تحديد ما يمكن الحكم عليه وفقًا للظروف الواقعية المعروفة أي تقييم نتيجة فعل ما، وبالتالي تتعلق بإمكانية التنبؤ بالعدالة.

ولذلك فإنها تشكل طريقة جديدة في التقييم، اعتمادًا على الزاوية التي يضع المرء نفسه من خلالها، حسب المواقف فقد يكون في موقف سلبي وبالتالي يعرض نفسه لخطر ناجم عن مخالفة القانون أو العكس في موقف ممتاز، تمكنه من فرصة للحصول على قرار إيجابي من المحكمة .

إن العدالة التنبؤية تستند إلى ما تم تجربته بالفعل، فهي تتمتع بخصوصية كونها قائمًة بشكل أساسي، على التنبؤ بما سيحكم على الشخص، وعلى ما تم الحكم عليه بالفعل.

وبالتالي، فإن الأدوات التي يتم تطويرها حاليًا تعتمد بشكل أساسي على استخدام قواعد بيانات السوابق القضائية.

وقد نمت حركة نشر السوابق القضائية مع تطور التقنيات التي تسمح بذلك، وفي سياق النظام اللاتيني تتكفل محكمة النقض الفرنسية مثلا، بنشر السوابق القضائية منذ إنشائها، ولطالما اتخذ هذا التوزيع الشكل الحصري للنشر الشهري على شكل ـنشرة لأحكام الغرف المدنية، ونشرة احكام الغرف الجزائية وحاليا فإن الأحكام الصادرة عن محكمة النقض منشورة على شكل اسم مستعار من قبل محكمة النقض، ومتاح في البيانات المفتوحة وهي: Legifrance.gouv.fr والتي يمكن تنزيلها وإعادة استخدامها مجانًا.

عمليا تدير محكمة النقض قاعدتي بيانات السوابق القضائية الوطنية وفيه شقين المحاكم القائمة، يتضمن الأول Jurinet وJurica فالأول يشمل على وجه الخصوص جميع أحكام محكمة النقض وتحتوي على ما يقرب من 850.000 قرار مخزن، أما الثاني يتكون من جميع القرارات المدنية المسببة لمحاكم الاستئناف.

وهو يمثل حاليًا ما يقرب من 1.7 مليون قرار مخزن وحوالي 150.000 قرار في التدفق السنوي، ستشكل جميع هذه القرارات المادة الخام اللازمة لتطبيق العدالة التنبؤية.

إن نشر السوابق القضائية يجعل من الممكن معرفتها بشكل أفضل وتحسين القدرة على التنبؤ، وهو ما يجعل العدالة التنبؤية، بديل محتمل للمحاكمة.

إذا كانت العدالة التنبؤية تفي بوعودها من خلال توقع النتيجة بشكل أفضل، من إجراء قانوني محتمل، فسيمكن المتقاضين، أن يكونوا على دراية أفضل بفرصهم من النجاح الحقيقي، لقضيتهم من عدمه، وسيكون قادرًا على تجنب اللجوء إلى المحاكمة لتسوية نزاعهم.

هذا تأثير لا يمكن الحكم عليه إلا من خلال جودة المعلومات، التي تم الحصول عليها. فإذا كانت المعلومات المقدمة موثوقة، فستسمح للخصم بمعرفة القرار الذي سوف يصدر فيها ومن ناحية أخرى، إذا تم إبلاغه بشكل سيئ، فيمكن أن يحرم من فرصة للحصول على ما يريده من المحاكمة .

في هذا الصدد، لا يمكن أن يكون استخدام أدوات العدالة التنبؤية فعالاً، إلا إذا استجابت لشفافية معينة، لا سيما فيما يتعلق بالتحيزات أو القيود المنهجية على سبيل المثال: الخوارزمية التي تأخذ في الاعتبار فقط السوابق القضائية السابقة دون مراعاة حقيقة أن قانونًا جديدًا قد أستحدث في المسألة، لا يمكن إلا أن يعطي نتائج مضللة.

وعليه لن يسمح التحليل الذي يقتصر على السوابق القضائية وحدها لتقدير صلابة أو هشاشة السوابق القضائية، وهكذا لا تزال الخبرة البشرية، حتى يومنا هذا، حاسمة لاستخدام الأدوات التي يتم تقديمها.

إن العدالة التنبؤية في الحقيقة، تهدف إلى إعادة إنتاج التفكير القانوني في شكل قياس للتنبؤ بتطبيق القانون، وللوصول إلى ذلك لابد من البحث عن الميكانيزمات والأدوات المناسبة. [2]

إن أدوات العدالة التنبؤية، في حالة استخدامها أثناء المحاكمة، سوف تمتثل لمبادئ الإجراء وسيتم تقديمها مثل العناصر الأخرى، إلى المناقشة وعليه فالرهان كان في تحديد القدرة على التنبؤ الضروري للعدالة، من عدم القدرة على التنبؤ وهو أمر ضروري لها.

وبالتالي، فإن ممارسة العدالة تتطلب توازناً بين ما هو متوقع وجزء غير متوقع مرتبط بهامش تقدير الوقائع، وتفسير القانون، والتأهيل القانوني للوقائع وتطبيق قاعدة على القضية المعنية فيما هو أكثر أهمية دون سواها .

فالعدالة التنبؤية هي مزيج من القانون والذكاء الاصطناعي، بفضل الخوارزميات التي تحقق في السوابق القضائية وآلاف القرارات الصادرة عن الهيئات القضائية المختلفة، والعدالة التنبؤية التي تخدمها “Legaltech” أي الشركات الناشئة المتخصصة في المجال القانوني، من شأنه أن يجعل من الممكن تقييم فرص الفوز بالدعوى، والمبلغ المحتمل للتعويض أو الحجج للدفاع عن المخاطر القانونية.

وبالتالي، فهي لا تحدد العدالة نفسها، ولكن أدوات التحليل فقط، مما يجعل من الممكن التنبؤ بالقرارات المستقبلية في النزاعات المماثلة لتلك التي تم تحليلها.

في هذا يعارض النظام القانوني الرئيسي الآخر في العالم، “فالقانون العام”، المعمول به في الدول الأنجلو سكسونية، مصدرها يأتي من الأحكام القضائية، والمعروفة باسم سابقاتها.

أما المبادئ العامة للنظام اللاتيني، هي قواعد النطاق العام، فكل حالة يجب النظر فيها إلى المعاملة على أساس الفئة القانونية التي تنتمي، من أجل تحديد النظام القانوني، أي القواعد التي سوف تنطبق على الحالة المعينة.

في هذا النظام يعمل النظام القانوني وفقًا للمبدأ المعمول به والاستثناءات، وهذا يعني ضمناً عدة أنظمة في الممارسة، وبالتالي حسب هذا النظام يتعين، معرفة (أو تحديد) جميع الاستثناءات المتعلقة بهذه الأنظمة والتي يمكن استخدامها كما تكمن وظيفة القاضي في هذا النظام، بعد ذلك في إبراز المعيار وتفسيره القائم وفقًا للحجج التي قدمها ممثلو الأطراف.

يبدو أن هذا النظام اللاتيني سيكون خارج نطاق مبدأ التشغيل الخاص بـالعدالة التنبؤية، والتي من شأنها أن تفسر أيضًا وجود فجوة في الاستخدام بين النظامين اللاتيني والأنجلو أمريكي .

ففي الواقع، باستخدام موارد العدالة التنبؤية، لن يعتمد على البحث في الاستثناءات ذات الصلة لبناء الحجج، ولكن على ما تم اتخاذه القرارات بالفعل.

ولذلك فإن دمج العدالة التنبؤية يرقى إلى مستوى التعديل جذريًا، فهي تعتبر هنا كأداة لقياس بيانات القرار المقدمة من قبل القضاة بشأن الأسس الموضوعية، سوف تكشف مباشرة السوابق القضائية على الأسس الموضوعية. بمعنى، سوف تجعله جزئيًا كمصدر للقانون.

كما أنها من المرجح أن تساعد لتشريع القانون وتفسيره والتفكير بشكل أفضل.  يمكن أن تساعد العدالة التنبؤية ترشيد هذه القوة نفسها، من خلال الدعوة إلى دافع مناسب. [3]

إن العدالة التنبؤية تكشف عن نفسها كمصدر للحجج وليس مصدرًا للمعايير وتدعو إلى تطوير التأملات والتدريب على الجدل حول القضايا الموضوعية.

وعليه يبقى الإشكال الحقيقي، كيفية تأطير عملية التوازن، بين مبدأ الضرورة لحسن سير العمل القضائي الذي يميزه من جهة، والقضاء على هاجس الضرر الذي يعتريه من جهة أخرى بالأسلوب الذي يثمن قيمته .

إن هذا الكتاب هو احدى الدراسات القانونية التي تبحث في الذكاء الاصطناعي، من الزاوية القضائية البحتة في إطار مفاهيمي واضح في القانون المقارن، ومرتكزا على الممارسة العملية في اطار المنازعات الحديثة التي تهم الموضوع ومستأنسا الى ما توصل اليه القضاء من أحكام سواء من الجانب الإجرائي أو الموضوعي، من خلال عائلتين تركت اثرها في القانون المعاصر وهما النظامين اللاتيني والأنجلو-امريكي .

ولهذا الموضوع عديد الصعوبات التي تواجهه فهو، موضوع حديث ومتجدد في نفس الوقت لما له من قيمة وضرورة عند البعض، وقد زاد من صعوبته قلة المراجع، فمعظم المراجع أجنبية في هذا السياق، وأن المراجع العربية تكاد تكون نادرة.

وعليه كان عملنا محدودا بما أتيح من مراجع بحثية في هذا الشأن.

أما عن الدراسات السابقة فنجد مثلا:

  • الأستاذ الدكتور محمد عرفان الخطيب الذكاء الاصطناعي والقانون-دراسة نقدية مقارنة في التشريعين المدني الفرنسي والفطري -في ضوء القواعد الأوربية في القانون المدني للإنسآلة لعام 2017 والسياسة الصناعية الأوربية للذكاء الاصطناعي والإنسآلات لعام 2019 مجلة الدراسات القانونية لسنة 2020
  • الدكتور / مصطفى أبو مندور موسى عيسى- مدى كفاية القواعد العامة للمسئولية المدنية في تعويض أضرار الذكاء الاصطناعي- مجلة حقوق دمياط للدراسات القانونية والاقتصادية – كلية الحقوق – جامعة دمياط- العدد الخامس جانفي – 2022.
  • مصعب ثائر عبد الستار ود. بشار قيس محمد- المسؤولية التقصيرية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي- مجلة العلوم القانونية والسياسية جامعة ديالي – العراق –مجلد 10 عدد 2- 2021.
  • أحمد نعيجات-المسؤولية الجنائية عن أخطاء تقنيات الذكاء الاصطناعي – دراسة تأصيلية مقارنة- رسالةٌ مقدمة استكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير في الشريعة والقانون تخصص القانون الجنائي المقارن- جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية كلية العدالة الجنائية قسم الشريعة والقانون- الرياض 2021.
  • كريستيان يوسف – المسؤولية المدنية عن فعل الذكاء الاصطناعي – منشورات الحلبي الحقوقية – الطبعة الأولى 2022.

غير أن ما يميز هذه البحوث اهتمامها بتحديد المفاهيم كل على حدى، في حين ان موضوع الكتاب يبحث في سياق شامل من كل هذا ذلك، أن ما يهم المتعاملين مع العدالة هو فكرة جوهرية هي حل النزاع، والتي يعد الحلقة الأكبر فيها هو القاضي، الذي يمتلك تقليديا وفقا للقانون كل السلطات لبسط يده على النزاع، ولذلك فإن البحث في المسائل الموضوعية للذكاء الاصطناعي، دون مراعاة المسائل الإجرائية ذات الأهمية القصوى، تعد عائقا في عملية فهم هذا الموضوع، فهذا الكتاب يبحث عن الذكاء الاصطناعي داخل منظومة العدالة ككل في جانبيها الموضوعي والإجرائي جنبا إلى جنب بفكرها الجديد المتطور باستمرار.

ولأن طبيعة الموضوع تفرض المقارنة، لذلك سوف أنتهج المنهج العلمي التحليلي المقارن، المعتمد على أساس تحليل العناصر المكونة للموضوع، إلى جزئيات وتوضيح الأسباب وربطها بالنتائج، مع مقارنة المفاهيم والأفكار الموجودة، وتبيان مدى مكانتها في المجال القانوني، مع إثرائه بين الحين والأخر بمخرجات المنهج التاريخي، وطالما أن موضوع الذكاء الاصطناعي يعتبر دراسة في القانون المقارن فسوف نبحث وضع فكرة الذكاء الاصطناعي والأفكار المرتبطة به، ضمن العائلات القانونية .

ونظرا لحداثة هذا الموضوع، وقلة المراجع وخاصة لكونها فكرة جديدة ارتأينا التطرق إلى هذا الموضوع، فماهي المفاهيم والمميزات المرتبطة بموضوع الذكاء الاصطناعي في مجال العدالة ؟

  • وهل هذه العدالة بالنسبة للمتقاضين والمشتغلين في حقل القانون ضرورة أم ضرر؟
  • وماذا عن الممارسة العملية لعدالة الذكاء الاصطناعي وإلى ما تصبوا إليه تشريعيا؟
  • وما نظرة القضاء المعاصر إلى هذه المسائل مجتمعة ؟
  • وما هو مستقبله في ظل رهانات عدالة الذكاء الاصطناعي ؟

والإجابة على هذه الإشكالية، تكون وفق الخطة الأتية:

  • الفصل الأول: الذكاء الاصطناعي من وحدة المفاهيم إلى تعدد المميزات في مجال العدالة.
  • الفصل الثاني: الذكاء الاصطناعي بين الممارسة الحديثة في المنازعات وبين الاجتهاد القضائي .

[1] Louis LARRET-CHAHINE- Annales des Mines L’éthique de la justice prédictive- Enjeux numériques – N°3 – septembre 2018- p86.

[2] Édouard Rottier- LA JUSTICE PRÉDICTIVE ET L’ACTE DE JUGER: QUELLE PRÉVISIBILITÉ– DALLOZ- 2018/1 Tome 60 | page 189.

[3] Auréa MARTINAY ET Marie MAZENS- Regards sur les ” promesses ” de la justice prédictive- Master 2 Intelligence Economique et Communication Stratégique IAE de Poitiers

Page 7 .