تفصيل

  • الصفحات : 170 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-240-8.

تعدّ الترجمة السمعية البصرية بمختلف ميادينها من سينما ومسرح وتلفزيون من أهمّ التخصّصات الترجيمة وأحدثها عهدا، وأكثرها تفردا وتعقيدا وإثارة للإشكالات.

لطالما غفل المجتمع العلمي الترجمي عن هذه الممارسة الترجميّة على الرّغم من حجم الأهمية اللغوية والثقافية والاقتصادية وحتى السياسية لهذه الظاهرة الترجميّة، التي أصبحت تعرف رواجا كبيرا كونها من الحقول الترجمية الجديدة والخصبة. وخاصة منها تلك المتعلقة بالترجمة السينمائية والتي فتحت الباب واسعا للدراسات والبحوث بهدف تقصي حقيقة هذه الممارسة الترجمية غير الاعتيادية وتحديد المناهج والقواعد التي تقوم عليها.

لما كان الهدف من الترجمة في هذا المجال هو التعريف بثقافة الآخر وحضارته قصد توسيع الدائرة المعرفية للمتلقي وإكسابه معارف تفتح له منافذ يطل من خلالها على تجارب المجتمعات الأخرى وخبراتها، أصبح يناط بهذا النوع من الممارسات الترجمية، تحقيق معادلة صعبة في التوليف بين مجموعة من الأبعاد المختلفة؛ الترجمية منها والثقافية والفيلمية والتقنية وغيرها. ذلك أنّها ترجمة تجمع بين أنظمة سيميائية مختلفة.

ما يهمنا في هذا المقام هو ترجمة الأفلام السينمائية بكلّ ما يحمله هذا النوع الترجمي من خصائص وأساليب وتقنيات تجمع بين البعد الترجمي الحامل لخصائص لغوية وثقافية والبعد الفيلمي القائم على أبعاد سينمائية وتقنية وفيلمية جمالية.

لعلّ العامل المشترك بين الممارسة الترجمية والصناعة السينمائية هو البعد الثقافي، فكلّ منهما يهدف إلى نقل تجارب وخبرات الشعوب وثقافاتها إلى الآخر، كما يقوم كلّ منهما على مجموعة من التقنيات والأساليب التي تخوّله مخاطبة الآخر ومحاورته.

خاصة إذا اعتمدت الترجمة السينمائية تقنية السترجة (Le sous-titrage) بوصفها الحامل التقني للترجمة ووسيلة عرضها. ونوعا خاصا من التركيب يرزخ تحت وطأة كم هائل من الإكراهات التقنية والفنية من جهة، مثل عامل التزامنية (Synchronisation)  بين الزمن والحركة، أي بين نبرة الخطاب اللغوي والقيمة الإخراجية للمقاطع الفيلمية، ومحدودية الحيّزين الزماني والمكاني المخصصين للعرض، وبين الإكراهات النفسية والفيزيولوجية والثقافية من جهة أخرى.

من هنا يمكننا استشعار مدى أهمية السترجة وحساسيتها ودورها الفعّال في بناء ذلك الجسر الثقافي بين الشعوب والمجتمعات. حيث يناط بالمترجم في عملية السترجة دور الوسيط الثقافي ويتجلى ذلك في عمله على تسهيل عملية الفهم والتواصل والتفاعل من خلال نقل وتحميل التعابير والمقاصد والرؤى والأفكار وتوقعات كلّ ثقافة.

لذا، وجب عليه أن يكون مزدوج اللغة؛ مطلعا بشكل واف وكاف على المرجعية الثقافية لكلتا اللغتين.

يكون الحديث في مجال الترجمة السينمائية على المترجم-المتصرف traducteur-adaptateur)  le) .

ذلك أنّ عمله لا يقتصر على نقل لغوي من الأصل إلى الهدف بل يتجاوزه ويتعداه ليصبح تكييفا وتطويعا للوقائع اللغوية والثقافية وحتى الفنية، كون موضوع ترجمته هو الفيلم السينمائي بكلّ ما يقوم عليه من خصائص ومقومات فيلمية وتقنية وفنية وجمالية.

كثيرا ما يجد المشاهد نفسه في مفترق طرق لغوي تتجاذبه فيه أطراف ثقافتين مختلفتين الأمر الذي يؤدي إلى تشويشه وإضعاف قدرته على المتابعة والفهم، ويصبح الإشكال مضاعفا حين يتعلق الأمر بمشاهد ثنائي اللغة (Bilingue).

تمثل السترجة بالنسبة للمشاهد أحادي اللغة  (Unilingue)أثناء متابعته لأيّ فيلم أجنبي مسترج باللغة العربية، الركيزة الأساسية التي يقوم عليها العمل المترجم والمصدر الذي يستقي منه فهمه لحوارات الفيلم ومجرياته ومختلف أحداثه، هذا إضافة إلى الصورة المرئية؛ فتصبح اللغة الأصلية للفيلم الأجنبي عنصرا زائدا عن الفهم، لا يحتاجه المشاهد، حتى أنّها تتلاشى وتغيب تدريجيا مع تتابع أحداث الفيلم ومجرياته.

يختلف الأمر تماما حين يكون المشاهد ثنائي اللغة، ذلك أنّ السترجة (على خلاف الدبلجة) تسمح للمشاهد ثنائي اللغة بمقارنة اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، أي لغة الحوارات الأصلية ولغة السترجة، ومحاولة مطابقتهما، وبالتالي كشف أيّ تباين بين المنطوق من النص الأصلي والسترجة، خاصة إذا كانت هذه الأخيرة قد خضعت إلى تأويل وإسقاط ومداورة وترويم وغيرها من الأساليب الترجمية التي يتبنّاها المترجم لإخضاع السترجة إلى الرقابة، سواء كانت رقابة يفرضها النظام العام  (L’ordre public)أو رقابة ذاتية(Auto- censure)  تفرضها توجهات المترجم الشخصية وميولا ته السياسية والدينية والإيديولوجية وغيرها.

لطالما شملت الرقابة كلّ الميادين السمعية البصرية، وخاصّة منها المواد الفيلمية الموّجهة للعرض على شاشات السينما أو التلفزيون. أمّا بالنسبة إلى السترجة، فمن بين أهمّ العوامل والأسباب الداعية إلى اعتماد القص والرقابة تلك المتعلقة بطبيعة الثقافة المستقبلة ومرجعياتها الاجتماعية والسياسية والدينية.

سنعمل على تقصي وتحليل مجمل الإشكالات التي تطرحها السترجة واعتباراتها الثقافية والإكراهات التي تتحكم في هذه العملية، وذلك بفرد مساحات للبحث حول كلّ عنصر من عناصر الإشكالية، والتي تتمثل في السترجة من جهة- بوصفها الحامل المادي للترجمة- والرقابة: تجلياتها وانعكاساتها على نوعية المردود الترجمي من جهة أخرى.

  • كيف يمكن للسترجة المحافظة على وظيفتها الأساسية بوصفها وسيطا ثقافيا، في ظلّ خضوعها إلى رقابة تعمل على طمس كلّ المعالم والمكونات الثقافية للغة الأصل، أو تعويضها بأخرى، خشية الوقوع في أيّ محظورات؟
  • كيف يمكننا تحقيق التوافق بين سترجة تقدم حقائق ثقافية مناقضة لما تعرضه الصورة المرئية، إذا علمنا أنّ التوافق بين الصورة المرئية والسترجة المصاحبة لها من أهم شروط نجاح اي عمل المترجم، فكيف لنا أن نحقق ذلك مع كلّ ما يشوب السترجة من تشويه للحقائق؟
  • هل يمكننا الحديث على الانفتاح عن الآخر في عصر العولمة، في ظلّ رقابة تعمل على محاصرة المشاهد وإبقائه سجين ثقافة واحدة تحت شعار المحافظة على النظم الاجتماعية والأخلاقية والدينية؟
  • هل يملك المترجم حق التصرّف بنص الفيلم الأصلي وإخضاعه إلى رقابة ذاتية، تعمل على طمس معالمه الثقافية وهويته الفنية رضوخا لنزعته الذاتية وتوجهاته وميولا ته الشخصية؟.
  • هل التسليم بضرورة المحافظة على كلّ المعالم الثقافية للفيلم المسترج يعني إلزاما صدم المشاهد وخدش حيائه وزعزعة معتقداته الأخلاقية؟
  • فما هي الوسائل والإجراءات الترجمية الكفيلة بتحقيق هذه المعادلة الصعبة؟

لفهم إشكالية الرقابة علينا أن نتتبع مسارها التاريخي: ظهورها، تطورها وميادين ممارستها.

الرقابة أنواع مختلفة ومتعدّدة بتنوّع وتعدّد مجالات ممارستها واختلاف المواضيع المعالجة في الأفلام السينمائية، وإن كانت منطلقاتها واحدة فهي إمّا سياسية أو اجتماعية أو دينية.

أمّا مصادرها فهي إمّا السلطات العليا- وهي رقابة يحميها القانون وتقرّها التشريعات المعمول بها- أو المترجم نفسه وهو ما يسمى بالرقابة الذاتية، وهي أخطر أنواع الرقابة ذلك أنّها لا تعمل ضمن نطاق معيّن ومحدّد ولا تملك مقاييس ثابتة وإنّما تكون وفقا لشخصية المترجم الترجمية وميولا ته وتوجهاته الخاصة.

الرقابة الذاتية نوع رقابي مستحدث ومتعلق أساسا بالترجمة السمعية البصرية، حيث يقوم المترجم بممارسة رقابة انتقائية في بعض الأحيان ووقائية في أحيان أخرى، لكنّها في جميع الأحوال تحكمها أهواءه الشخصية وقناعاته السياسية والثقافية والدينية.

إنّ موضوع الرقابة في الترجمة السمعية البصرية- بالخصوص تلك الممارسة من خلال الأفلام السينمائية المسترجة- تعدّ من أهمّ الدراسات الترجمية الحديثة وأكثرها إثارة للجدل وذلك لما توّلده من إشكالات عويصة، عصيّة عن الحل.

لا تزال الرقابة في مجتمعنا مفهوما غامضا، مشوشا عليه ومغلوطا في كثير من الأحيان لارتباطها شرطيا بفكرة المنع الذي تفرضه السلطات العليا في الدولة، فهي تارة مرادفة للحظر والتقييد، وتارة أخرى لجاما اجتماعيا أو سياسيا أو دينيا يقصد به أحيانا المحافظة على الهوية الثقافية وأحيانا أخرى القمع والتعتيم ومصادرة حرية التعبير وطمس الحقائق والوقائع.

من هنا، يجد المترجم لهذا النوع من النصوص -ذات النظام السيميائي المتعدّد- نفسه في مفترق طرق ترجمي تتجاذبه فيه مجموعة من التخصصات، فبالإضافة إلى الممارسة الترجمية وجب عليه الإلمام بأسس الدراسات الفيلمية والسينمائية فضلا عن الدراسات التقنية والإلكترونية المصاحبة للسترجة ووسائل عرضها.

د. قرين زهور