تفصيل

  • الصفحات : 169 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 9789931728597.

تُعرَف الفينُومينُولوجيا(Phänomenologie) على أنها منهج في البحث، وهذا مبدأ قَد التُزِمَوالتَزَم به الجميع بِمَن في ذلك هوسّرل(Husserl: 1859-1938) مُؤسسها،الذي انْتَّقى وابْتَّكَر أدواتها بِتَعَثُرات مُسَاءَلاَتِيَّة مع تَاريخ الفَلسَفة المُسْتَجَد،فضلا عن الأفكار الأوَلاَنِيَّة المُسْبَقَة التي احتفظ بها عن علوم الرياضيات وهذا قبل الانْعِطَاف لِمَسْأَلَة الفَلسَفة الكُليَّة، لقد كان لهوسّرل مَصِيرا قد حدّدَته الفَلسَفة من أجل إرجاع هويتها المَبْتُورَة لفترة من الزمن، أو من أجل علاج مَصِير البشرية الذي حُكِمَ بانْحِطَاط مُتَقَدِم، فكل هذه العبارات لن تدل إلا على شيء واحد وهو فقدان في«المَعْنَى» الذي ترجم إلى أزمة(krise) مُحْدِقَةٍ التي كثيراً ما طرحت مُسَائَلة حول مبادئ العلم والفَلسَفة في توجيه الثقافة الأوروبية كَغَايَة نهائية، إذن فالمنهج الفينُومينُولوجي بمثابة تحليل اسْتِكْشَافِي فعَّال مُوجَّه إلى العالم كَمُسَلَّمَة قَبْلُـ ـعِلْمِيَّة يضم كل الظواهر المُمْكِنة الإنْوِجَاد، ومعنى هذا الكلام يَتَضِح من خلال بدءالفَلسَفة الكَونِيَّة لـ ـديكارت(Descartes: 1596-1650) التي كَثِيراً ما فَصَلت بين ما هو ذاتي وما هو موضُوعي، هذا الذي تُرجم على أساس أَزمة  عُلُوم الروح التي دامت لسنوات عديدة، أي من ديكارت:«أنا أفكر» إلى كانط(Kant: 1724-1804): «الأنا ترنسندنتالية» مروراً بـ ـفَلسَفة ليبنس(Leibniz: 1646-1716) في«المُناد»، والفَلاسَفة الإنجليز(لوك Look: 1632-1704،وهيوم Hume: 1711-1776) إلى غاية فَلاسَفة ما بعد كانط الرومانسيين(فيشته Fichte: 1762-1814، شلنغ Schelling: 1775-1854، هيجل Hegel: 1770-1831، شوبنهاور Schopenhauer: 1788-1860)، والكانطيين الجدد-المدارس السبعة-وبالتحديد مدرسة مَاربُورغ(كوهن Cohen: 1842-1918، ناتورب Natorp:1854 -1924، كاسيرر Cassirer: 1874-1945)، الذين حَاوَلُوا ردّ الاعتبار لـِ ـكانط وتعديل نظريته والمذهب التاريخي(دلتاي Dilthey: 1833-1911)، كَمَا نجد تيار آخر ممتدا من طوماس هوبس(Thomas Hobbes: 1588-1679) الذي طبق التفسير العلمي على الظاهرة الإنسانية، وكذلك برنتانو(Brentano: 1838-1917) في محاولة تأسيسه علم النفس الجديد، وكما لا ننسى الإتجاه المُنْشَق مند البدء من فرنسيس بيكون(BaconFrancis: 1561-1626) مُؤَسِس«الأرغانون الجديد»(Novum Organun) عام(1620) الذي على إثره ازدهر العلم إلى غاية ظهور ونجاح التطورية على يد داروين(Darwin: 1809-1882)، وكذلك ازدهار الفيزياء والرياضيات على يد كل من غليلي(Galilée: 1564-1642) وأنشتيين(Einstein: 1879-1955) هذا بعد نيوتن(Newton: 1642-1727)، إذن لربما كانت هذه خلاصة تراكميَّة الوعي الثقافي للبلدان الإغرقوغربية، أي خلاصة تُتَرجم على أساس انشقاق وانشقاق الانشقاق بتعبير مُضَاعَف(Duplizität)، وما يمكن استنتاجه أن هناك سَبَب وَاحد حَكمت هذه التيارات في «محاولة البرهنة على العالم» فكانت النتيجة: تفسير واقعي وآخر مثالي، لكن مع هوسّرل سيحاول الجمع بين الموقفين من خلال مبدأ يقول هكذا: «دعونا ندرس الأشياء في حدّ ذاتها».

لعل من بين المواضيع التي تم الاشتغال عليها في أُفُق تاريخ الفَلسَفة: مسألة تأسيس «نسق كُلي»، فهذا ما نجده حاضراً خصوصاً في الفَلسَفةالألمانيَّة بدءاً من نهاية القرن السَادس عشر إلى غاية القرن التَاسع عشر وبغض النظر عن الفَلسَفات الأخرى، إذن فالدافع إلى وضع قانون أبدي لانهائي هو ما شكل عائقا، مما جعل الفَلسَفة العلم الكُلي تَنْحَاز عن مهمتها في قيادة البشرية، فقد ظهرت فَجَوَات لا يستطيع حتى الفَلاسَفة أنفسهم سدّها لاعتبار انحيَازها وانحيازهُم إلى كل ما هو مفارق ميتافيزيقي عن تجربة العالم بما هو عالم الأشخاص البَدَنَفْسِيِّين(الذات باعتبارها: بدن ونفس)، ليكتسب على إثّر ذلك المذهب الطبيعي في القرن العشرين دوراً كبيراً في السَيطرة، وهذا ما سَيُترجم على أساس أَزْمَة قد حلَّت فعلاً في العالم، التي ستكون بمثابة مَسْأَلَة شَائِكة انتابت كل تفكير فَلسَفي مُعْلَن، من أجل تقديم حل أو تشخيص بَنَّاء لهذا الوضع، فتعتبر محاولات مدرسة الكانطية الجديدة(النيوكانطية) في تقديم رؤية عن العالم جدّ بَنَّاءَة من حيث الأسَاس ونمط البرهنة، كأمثال ناتورب الذي كان على علاقة بهوسّرل، وكاسيرر في بحوثه النظرية في قوة أو أهمية العنصر «الـ ـرمزي»(Symbolon) في تحليل مركبات الـ ـثقافة(Bildung/Kultur) البشرية، وكذلك دلتاي من خلال نزعته التاريخية في الفهم التي عنى بها: أن الفهم متجه مباشرة لخبرة الإنسان التاريخية، إذن كانت هذه هي وجهات نظر تاريخ الفَلسَفة الحَافِل والحَافِلَة إلى غاية بروز المنهج الفينُومينُولوجي كنمط شكل ثقافة فَلسَفة جديدة.

إن المنهج الفينُومينُولجي كَـ ـفكرة مُتَقَدِمَة في تاريخ البحث الفَلسَفي يُعرَّف على أنه تلك الملاحظات أو النقاط الأولية الدقيقة التي سعت بدورها إلى حل المُشْكل الفَلسَفي النظري-المَعرفي، وإن كانت(الفينُومينُولوجيا) ضمن فكرة اللاتعين المفهومي، أي كان هوسّرل كلما غير الموقف غير المنهج في فهم الكيفيَّة لرؤية العالم، بدايةً من كتابه «مباحث منطقية» عامي(1900-1901) الذي قدم فيه هوسّرل مناط التأسيس المنطقي للمنطق وفكرة القصدية إلى غاية المحاضرات التي أنجزها عام(1935 و1936) التي جمعت بدورها في كتاب «أزمة العلوم الأوروبية والفينُومينُولوجيا الترنسندنتالية: مدخل إلى الفَلسَفة الفينُومينُولوجية» (Die krisis der europäischen wissenschaften und die transzendentale phänomenologie: Eine Einleitung phänomenologische philosophie)، الذي هو تعبير عن مدى اهتمام هوسّرل بالعالم بما هو ذاته عالم الأشخاص وباقي الموجودات في كُليَّتها، الأمر الذي جَعَلَهُ ينحى مسار فَلسَفة تحقيق «النظرة العامة للعالم» كما عبر عن ذلك بدايةً في كتابه «الفَلسَفة علماً دقيقاً أو صارماً» عام(1911)، لذلك فمن الجيد أن نتناول بالبحث مفهوم المعيش في الفَلسَفةالألمانيَّة وبالخصوص الفينُومينُولوجيا وإن كان هذا المفهوم قد حقق إنوجاده مع فَلسَفة الحياة لـِ ـبرغسون هنري(Bergson Henri) مثلاً، وكذلك في بعض الأبحاث المنجزة من طرف دلتاي، وبالتالي فـ ـفينُومينُولوجيا هوسّرل المتأخرة -كما قلنا سابقا- سوف تعير اهتماماً كبيراً لمسألة العالم وأُفُقِه وإن كانت بنسب قليلة مند البدء(في كتاباته الأولانيَّة)، أي يعتبر كتاب هوسّرل الموسُوم بـ «ـالأزمة» الصادر عام(1936) نموذجاً جدِّياً عن مرحلةٍ مُتَطَورةٍ من التفكير الفينُومينُولوجي من خلال تناوله مواضيع العالم بما هو عالمللمعيش.

إذن؛ فمن هذه الفقرات المتداخلة يتضح أن الإشكال العام المتدفق بغزارة لبحثنا من حيث هو يبرهن على مسألة إمكانية التحديد أو الربط بين الفينُومينُولوجيا ومفهوم: عالم المعيش، وهذا يتراءى إلا في بعض المسَالكـ أو المشكلات التي لربما ستنير لنا درب الحل أي:لماذا التفت فَلاسفة الألمان لعالم المعيش؟ هل هناك ما يبرر إنعطاف البحث الفينُومينُولوجي لمسألة «مفهوم عالم المعيش»؟ وهل من الجدي أن نتحدث عن مفهوم عالم معيش في فينُومينُولوجيا هُوسّرل؟

للإجابة عن هذه المُسَاءَلاَت إرْتَأَيْنَا أن نأخذ مَسَار حقيقياً في الاعتماد على خطة تدريجية مفصلة متكونة من مُقدّمة وفُصُول ومَبَاحث، أي لقد حاولنا في الفصل الأول المعنون بـ«ـمشرُوع هوسّرل في الفَلسَفةالألمانيَّة المعاصرة» البحث عن بعض الإجابات في تاريخ الفَلسَفةالألمانيَّة التي تمكننا من الشروع ومتابعة الموضوع لاحقاً، أي لقد خصصناه كمقدّمات أولية من خلالها سنحدد أبعاد الفَلسَفةالألمانيَّة والفينُومينُولوجيا كغاية نهائية موضحين مدى عمق الحوار الكرُونُولوُجي الذي على أثره نشئ المنهج الفينُومينُولوجي مع هوسّرل خاصةً، لننتقل بعد ذلك إلى نماذج في الفَلسَفةالألمانيَّة ضمن مسألة إمكانية تحديد «مفهُومـ ـاً لِـ ـعَالم المعيش» من خلال سؤال قد طرحناه: لماذا التفت فَلاسفة الألمان-المعاصرين لِـ«ـعالم المعيش»؟ أما في الفصل الثاني فقد عنوناه بـ«ـالفينُومينُولوجيا مبدءاً ومنهجاً» حيث حاولنا فيه البحث عن اللحظات الأساسية(المبدأ) التي أدرك أو اكتشف فيها هوسّرل مسألة العالم ومحاولته إستئناف الموقف، من خلال فتح نقاش فعَّال مع فَلسَفة كاسيرر ودلتاي ثم نضيف بعد ذلك مسالك المنهج الفينُومينُولوجي في البرهنة(Rechtfertigung) على العالم ضمن مشكل؛ هل المنهج الفينُومينُولوجي يطرح سؤال العالم؟ وفي الفصل الثالث الذي عنوناه بـ«ـالفينُومينُولوجيا والتأسيس لعالم المعيش» سوف نوضح بعمق مدى فعاليَّة الفينُومينُولوجيا الترنسندنتالية في عالم المعيش، أي ضمن فكرة هوسّرل عن أُفُق العالم والبرهنة عليه من حيث هو مصدر خبرة الذات باستعمال مفهومين أساسيين لهوسّرل «الفَعَّاليَّة والإنْفِعَاليَّة» اللذان هما مصدر كل فعل مدشَّن(Ürstiftung) ومؤسس في الوعي، وبالإضافة سوف نقوم بتوضيح مدي إمكانية الفعل التذاوت(Intersubjektivität) في تأسيس إنوجاد هذا العالم، لنعرج بعد ذلك على مسألة الأزمة كموضوع بارز لدى هوسّرل ومحاولته لتقديم حل؛ الذي هو بنفس الدور يتحدد في إمكانية صلاحية عالم المعيش بما هو إمكانية للجميع، لننتهي في الأخير إلى «خاتمة» ضمنَّاها أهم الاستنتاجات، والتي حاولنا فيها الإجابة مباشرة عن الإشكال المركزي لبحثنا «الفينُومينُولوجياوَ عالم المعيش» وإبراز أُفُقه على الصعيد الفَلسَفي.

ولقد اعتمدنا في بحثنا هذا على المنهج التحليلي، وإن تضمن جوانياً بعض أدوات المنهج الفينُومينُولوجي، والذي من خلاله سعينا إلى فهم جِنْيَالُوجِيا مفهوم عالم المعيش ولوجاً لفَلسَفات سابقة من أجل وضع الأسس الجذرية لفَلسَفة هوسّرل، معتمدين في ذلك على تحليل أهم الأفكار الإبستميَّة المؤسسة لهذا المنهج في موقف يجعلنا نلتمس المسألة بعمق. كما أن بحثنا ليس بجديد وإن تضمن ذلك بمعنى من المعاني إشكالية جديدة تتمثل في مسألة عالم المعيش في الفينُومينُولوجيا، التي ستجعله بدوره مفارقا-لربما- لبعض المواضيع المُقَدَمَات في تارخ الفَلسَفة.

إن دوافع الفينُومينُولوجيا، ولما تحمله من دقَّة وصرامة في البحث هي ما تجدب قصد أي مُشْتَغِل بَحْثِي قد يَتَعَثّر حَقَل إدراكها، والقصد هنا بيَّن من حيث يرمي إلى أهم المواضيع التي خاضت فيها فينُومينُولوجيا هوسّرل بالبحث، ولهذا إن رغبة متابعة البحث الفينُومينُولوجي هو ما يجعلنا دائما على خطى فينُومينُولوجية عينها وإن كانت هناك دائماً صعوبات، فهي دائما من وجهة بعض المؤلفات غير المترجمة، أو في صعوبة قراءتها والعثور عليها، أو حتى في بعض الأحيان صعوبة الصياغة أثنا إنجاز بعض الفقرات.

إن لكل بحث علمي أُفُقاً(Horizont) يحاول البرهنة عليه، ضمن إمكانات منهجية ملائمة بحسب طبيعة الموضوع، كـ ـالفينُومينُولوجيا ذاتها التي سعىت من خلال مؤسسها وتلامذته فتح أفاَق متشعبة تضمن مشيئتها  وإستمراريتها، ولهذا لا نريد من هذا البحث أن يكون نهائياً، وإلا تنافى مع ذاته؛ لأنه ما هو إلا جزء بسيط من مقدّمة لبحوث قادمة؛ بل هو شوط مقطوع في الفَلسَفةالألمانيَّة المعاصرة الموسُومَة.