تفصيل

  • الصفحات : 414 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-515-7.

مقدمــــــــة:

تعتبر ظاهرة الفساد من أكبر الآفات انتشارا في الوقت الراهن كونها أحد أهم الأسباب التي تؤدي لضعف الدول داخليا وخارجيا، وهي في جوهرها حالة انحراف نتيجة لعدم احترام القانون، وتستخدم كلمة “فساد” للتعبير عن عدد كبير من السلوكيات المجرمة مثل الرشوة والابتزاز وتبييض الأموال، والإثراء غير المشروع.

وعلى الرغم من تعدد وتنوع اجتهادات الفقهاء في تعريف ظاهرة الفساد، إلا أنها تشترك في عاملين يتعلق الأول بإساءة استغلال السلطة في القطاعين العام والخاص، أما الثاني فيتعلق بسعي الأشخاص الذين يسيئون استخدام سلطاتهم ويسعون لتحقيق مكاسب ومنافع من وراء ذلك دون وجه حق.

فالفساد ظاهرة قديمة عرفتها البشرية على مر الأزمنة والعصور، إذ كانت العامل الأساسي في انهيار أغلب الحضارات والأنظمة السياسية على اختلافها، بل أنها أصبحت محركا فعالا للثورات والانتفاضات في الوقت الراهن والتي جعلت من مكافحة الفساد شعارا لها وسندا في التعبير عن انتفاضتها، وهي ظاهرة لا تعترف بالحدود الزمانية ولا المكانية، فوجودها لا يقتصر على مجتمع ما، أو دولة دون أخرى، فلا يوجد على وجه البسيطة مجتمع فاضل يخلو من الفساد والمفسدين.

والواقع يؤكد أن الفساد هو ظاهرة عالمية تعاني منها كل البلدان، حتى أكثرها شفافية وديمقراطية، لكن بتأثير متفاوت من بلد لآخر، وذلك تبعًا لمجموعة من العوامل المتداخلة والمختلفة، من أهمها الظروف القانونية والقضائية والتعليمية.

وقد أخذت جرائم الفساد في العصر الحديث في الازدياد بشكل كبير ومضطرد من حيث عددها ونطاقها، ويرجع هذا الازدياد السريع إلى أسباب عدة، منها التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات بشكل لم تعد أية دولة بمفردها قادرة على أن تكافح بنجاح كبير تلك النوعية من الجرائم، بل أصبحت هناك حاجة ماسة للتعاون الدولي في مواجهتها[1]، ومع إدراك دول العالم المختلفة لهذا الخطر المشترك بدأت هذه الدول في إطلاق محاولات تعزيز للتعاون الدولي لمكافحة الجرائم العابرة للحدود، وقد توصلت دول العالم إلى إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية، الثنائية والجماعية في مجال مكافحة جرائم الفساد تجنبا لآثار الفساد المدمرة على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية[2].

و رغم اتساع نطاق الفساد الذي امتد ليشمل كل المجتمعات، إلا أننا لا نجد له تعريفا موحدا لأن الآراء تختلف حول مفهومه كونه يأخذ أشكالا مختلفة بحسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد، الأمر الذي حال دون إيجاد تعريف جامع مانع له، وإن كانت غالبية المفاهيم تشترك في أنه يأتي بمعنى الشيء المضاد للنزاهة أو السيئ وهو نقيض الصلاح[3]، إلا أنه كلما ظهر مفهوم للفساد إلا ووجهت له أوجه النقد، وهو الأمر الذي حصل عند سن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المنعقدة بميريدا في المكسيك سنة 2003 والتي على الرغم من تضافر الجهود واجتماعها للوصول إلى مفهوم موحد إلا أن الأمر لم ينجح واستمر ذلك لغاية 2005 أين تم الاتفاق على عدم إدراج أي مفهوم للفساد وقد اتفقت معظم التشريعات المنظمة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ومنها الجزائر على عدم إعطاء أي مفهوم له وتم الاعتماد  على إعطاء صور له فقط، وهناك قواعد كثيرة من شأنها الحد من ظاهرة الفساد يمكن الاعتماد  عليها في مكافحة الفساد والحد منه، وهذه القواعد يتم تحيينها بحسب متطلبات كل مرحلة.

و تتمحور دراستنا لهذا الموضوع حول القواعد الإجرائية التي وضعها المشرع الجزائري لمكافحة جرائم الفساد خلال المراحل المختلفة للدعوى العمومية أي قبل وبعد تحريكها، إضافة لآليات التعاون الدولي في المجالين القانوني والقضائي على ضوء قانون الوقاية من الفساد ومكافحته وكذا اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

أهمية الموضوع:

لقد ارتبط تنظيم العلاقات بين الأفراد والأشخاص في المجتمع بالقواعد القانونية ارتباطا وثيقا، إذ أصبحت هذه القواعد هي الميزة الأساسية التي تطبع حياة البشر في العصر الحديث، متأثرة بمتغيرات الحياة الاجتماعية تأثرا مباشرا، ونتيجة لذلك فهي في تحول مستمر نظرا للمستجدات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تغير باستمرار المعطيات الاجتماعية، ولعل الجزائر منذ استقلالها سنة 1962 عرفت العديد من المتغيرات الاجتماعية، أسفرت في الغالب عن تأثر في المنظومة التشريعية، بل وأصبحت هذه الأخيرة مصدرا لهذا التغير وسببا فيه، وقد كان التغير التشريعي المشهود في الجزائر يشكل تجاوبا فرضته مراحل ومقتضيات سياسية واقتصادية وأمنية داخلية وخارجية، التي أدت بالمشرع إلى سن القواعد القانونية الملائمة لها، وخاصة تلك القواعد القانونية الموضوعية والإجرائية المتعلقة بالتصدي لظواهر إجرامية برزت في مرحلة زمنية معينة، وتبعا لذلك مرت قواعد القانون الجنائي في شقيه الموضوعي والإجرائي بتغيرات كثيرة خلال فترات مختلفة، ففي الجانب الموضوعي بادر المشرع إلى استحداث نصوص تجريم جديدة تتعلق بتصرفات لم تكن مجرمة من قبل، كما هو الحال عند ظهور أفعال وتصرفات تمس بالاقتصاد الوطني، أما في الجانب الإجرائي فيتمثل في استحداث المشرع لقواعد إجرائية خاصة أو استثنائية متعلقة بالتحقيق في جرائم بعينها، كالجرائم الاقتصادية ومحاكمة مرتكبيها من طرف جهات قضائية خاصة.

و لم تكن تلك التعديلات التي طرأت على قواعد القانون الجنائي خاصة في شقه الإجرائي تستجيب دوما لمقتضيات تحقيق العدالة القضائية التي تتضمنها دولة القانون، إذ انحرف المشرع في الكثير من المرات عن ذلك الهدف المنشود، ولا أدل على ذلك من لجوئه إلى النص على جهات قضائية ومحاكم استثنائية ذات إجراءات خاصة تتسم بعدم التوازن بين سلطة المتابعة والتحقيق وحق المتهم في الدفاع، إذ اتسمت في أغلب قواعدها بالخروج عن المألوف من القواعد العامة التي تحكم سير الدعوى العمومية التي أنشأت في الأصل لإحداث توازن بين أطراف المنازعة الجزائية، بل التوازن بين الأمن والحرية، وهو ما يصبو له التشريع الإجرائي في هذا الجانب.

وقد اعتبر خروج المشرع الجزائري عن القواعد الإجرائية العامة مساسا بضمانات المحاكمة العادلة، وانتهاكا لحقوق الإنسان، مما عرض الجزائر إلى الكثير من النقد من طرف الهيئات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، الأمر الذي دفع بالمشرع إلى التخلي عن القواعد الإجرائية الاستثنائية، والشروع في إصلاحات تشريعية هامة مست خاصة قانون الإجراءات الجزائية بغرض توفير المزيد من الضمانات للدفاع ومنع أي تجاوز أو تعسف في السلطة.

و على اعتبار أن الظاهرة الإجرامية كما سبق القول وليدة المجتمع، فإنها تنمو وتتطور بتطور اقتصاد الدول ومدى تفتح سياستها وتفتح العالم في إطار العولمة، هذه الظروف تعتبر تربة خصبة لظهور جرائم أخرى ذات نمط مختلف على الإطلاق عن الجريمة التقليدية والتي بالضرورة أدت إلى تنامي الجريمة وتعاظم خطرها وتزايد أعمالها الإجرامية الماسة بأمن المجتمع ونظامه الاقتصادي والمهددة لاستقراره، وقد أصبحت جرائم الفساد تحتل الصدارة في مجتمعنا على غرار باقي المجتمعات، الأمر الذي دفع بالمشرع إلى إعادة تكييف التشريع الجنائي بما يضمن ردعا فعالا لهذه الظواهر الإجرامية الخطيرة، التي أصبحت تعصف باقتصاديات الدولة.

كل هذا التطور الحاصل في ميدان الجريمة كان دافعا وضرورة حتمية انطلق منها المشرع في مراجعة قانوني العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية بغرض استحداث قواعد إجرائية وموضوعية جديدة مناسبة لتحقيق الوقاية والمكافحة الفعالة لتلك الظواهر سيما ما تعلق منها بالفساد، فبادرت إلى الانضمام لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بمجرد دخولها حيز النفاذ وذلك بتاريخ 19-04-2004 وقامت بعدها بسن قانون داخلي يتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته والذي تضمن جميع الأحكام الواردة في الاتفاقية كما قامت بإنشاء أقطاب جزائية متخصصة لمكافحة الجرائم الخطيرة ومن بينها جرائم الفساد.

و يعد موضوع مكافحة الفساد من الموضوعات الأكثر تعقيدا وصعوبة نتيجة لتشعب هذه الظاهرة واتخاذها صورا عدة وتظهر أهمية دراسة موضوع القواعد الإجرائية لمكافحة جرائم الفساد في التشريع الجزائري كونه يتناول مختلف القواعد التي كرسها المشرع لمكافحة هذا النوع من الجرائم خصوصا ما تعلق منها بالشق الإجرائي وذلك من خلال دراسة هذه القواعد تفصيلا خلال مراحل سير الدعوى العمومية ووصولا إلى التعاون الدولي في هذا المجال كما تبرز أهمية دراسة هذا الموضوع استنادا لاعتبارين أساسيين، الاعتبار الأول هو الاعتبار العلمي النظري ومفاده أن التقارير والإحصائيات الدولية تشير سنويا إلى أن الجزائر وباقي الدول العربية تحتل ترتيبا متقدما في الدول الأكثر فسادا في العالم خلافا للدول الأوروبية التي تعتبر الأقل فسادا على غرار السويد والنرويج وهو الأمر الذي يحتم على الباحثين تناول هذه الظاهرة بالدراسة للبحث في كيفية التخلص منها سيما أن الجزائر تمتلك من المؤهلات والأجهزة ما يمكنها من ذلك.

أما الاعتبارات العلمية التي تؤكد أهمية البحث في هذا الموضوع فتتمثل في معرفة مدى نجاعة الجهود المبذولة لمكافحة ظاهرة الفساد في الواقع العملي ومدى كفاية أجهزة الوقاية وآليات الرقابة المكرسة من أجل محاربة هذه الظاهرة على المستويين الوطني والدولي سيما مع الانتشار الواسع لهذه الأخيرة وتفشيها بشكل مخيف على أعلى المستويات، إضافة للبحث في كيفية تسيير المرافق العامة والضمانات المقدمة لعدم انتشار الفساد وفتح باب المساءلة للحد منه، خاصة أمام جهاز القضاء الذي يمثل الجهاز الردعي لهذه الجرائم[4]، خاصة وأن القضاء في كل دول العالم هو الجهاز المكلف بحماية الحقوق والحريات والممتلكات العامة ورد الاعتداء الواقع عليها.

الإشكالية المطروحة

و بناءا على ما سبق تبيانه فإن هذا الموضوع يطرح إشكالية تتعلق أساسا بمدى فعالية القواعد الإجرائية المستحدثة في مجال مكافحة وقمع جرائم الفساد ؟  ومدى ملاءمتها ونجاعتها للحد من هذه الظاهرة والمحافظة على المال العام واسترجاع الأموال المنهوبة من جهة، وما هي العقبات التي تحول دون الوصول إلى النتائج المرجوة من وراء سن تلك القواعد والآليات على المستويين الوطني والدولي من جهة ثانية؟.

أهداف الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على مدى نجاعة السياسة الجنائية في مكافحة الفساد في شقها الإجرائي والبحث عن مختلف العوامل التي تؤدي أو تساهم في انتشار جرائم الفساد وكذا مختلف الآليات المكرسة قانونا لمكافحة هذه الجرائم، والبحث عن مدى فعاليتها في الوصول للأهداف المرجوة منها إضافة للبحث في مدى تأثير العقاب والزجر في محاربة الفساد وهو الدور المنوط بالجهات القضائية خلال جميع مراحل الدعوى بدءا بمرحلة البحث والتحري مرورا بمرحلة التحقيق ثم المحاكمة لتوقيع الجزاء المناسب عند ثبوت قيام الجريمة في حق المتهم من أجل صيانة المال العام.

كما تسعى هذه الدراسة لتحقيق جملة من الأهداف، تتمثل فيما يلي:

– إعطاء نظرة شاملة حول القواعد الإجرائية لجرائم الفساد، وجمعها في مرجع واحد يمكن للدارس أو الممارس الانطلاق منه للوصول إلى مغزاه العلمي أو كيفية تطبيق النصوص المتشعبة.

– طرح الإشكالات التي تعترض القضاة العاملين سواء كانوا من فئة النيابة، أو التحقيق، أو حتى قضاة حكم، سيما أن المشرع في الآونة الأخيرة قد خص جرائم الفساد بقانون خاص، مما أدى إلى وضع نصوص جزائية تحد من استفحال جرائم الفساد، تماشيا مع تطور القواعد الإجرائية التي جاء بها من خلال القانون رقم 04/14 المؤرخ في 10/11/2004 الذي أجاز تمديد اختصاص وكيل الجمهورية وقاضى التحقيق والمحكمة في بعض المحاكم إلى دائرة اختصاص محاكم أخرى في جرائم المخدرات، والجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية، والجرائم الماسة بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات، وجرائم تبييض الأموال والإرهاب، والجرائم المتعلقة بالتشريع الخاص بالصرف، وجرائم الفساد والذي تم تعديله مؤخرا بموجب الأمر رقم 20/04 المؤرخ في 30غشت سنة 2020 المعدل والمتمم لقانون الإجراءات الجزائية.

– إبراز جانب من الدور الفعال لإنشاء التشريعات وتطويرها للأنظمة القانونية المقارنة في تعزيز وسائل البحث والتحري الخاصة في مجال جرائم الفساد، التي استمد منها المشرع الجزائري الكثير من الأحكام بعد تكييفها مع نظامنا القانوني من أجل مكافحة هذا النوع من الجرائم.

– تقييم القانون 06/01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته وهذا من خلال تبيان النتائج التي حققها هذا القانون على الصعيدين النظري والعملي استنادا للتقارير والدراسات الدولية التي تعمل على مكافحة الفساد خاصة وأنه قد مر على قانون الوقاية من الفساد ومكافحته وقت كاف لتقييم مدى نجاعة أحكامه من عدمها.

– إبراز أهمية التعاون الدولي في المجالين القانوني والقضائي في مواجهة جرائم الفساد والجرائم المرتبطة بها.

[1]– عادل عبد العال إبراهيم خراشي، مكافحة جرائم الفساد في ضوء اتفاقية الأمم المتحدة بين القانون الوضعي والفقه الإسلامي دراسة مقارنة، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2016، ص 8.

[2]– مصطفى محمد محمود عبد الكريم، اتفاقية مكافحة الفساد، نفاذ وتطبيق اتفاقية مكافحة الفساد اتفاقية مكافحة الفساد في القانون الداخلي وأثرها في مكافحة الفاسدين واسترداد الأموال، دار الفكر والقانون للنشر والتوزيع، ط1، سنة 2014، ص 8 وما يليها.

[3]– عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داوود، الفساد والإصلاح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص 25.

[4]– هنان مليكة، مظاهر المساءلة في التشريع الجزائري كآلية للحد من الفساد، مجلة دراسات في الوظيفة العامة، العدد الرابع، كلية الحقوق، المركز الجامعي نور البشير، البيض، جوان 2014، ص 24.