تفصيل
- الصفحات : 343 صفحة،
- سنة الطباعة : 2024،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى ،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-834-9.
لبسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيّنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا ونور أبصارنا وبصائرنا وتاج رؤوسنا سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا طيبا مباركا فيه جزيلا جميلا دائما بدوام ملك الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فهذا كتاب جمعت فيه ما أمكننا جمعه وعُثر واطلع عليه بين دفتي الكتب والمقالات والمنشورات والمؤلفات العامة الفقهية والاقتصادية والمعاملاتية الخاصة بالتمويل أو الاستثمار الربحي أو الخيري، مستهدفا إمعان النظر في ما يتصل به، مع تركيز البحث في بيئة الوقف وحقول إنشائه ومواضع تسييره ومجالات تمويله وسبل استثماره ومسارات تنميته وطرائق استدامته واستبقائه، باعتبار الأصل الوقفي المتموّل موجودا من قبلُ أو منشئا مستحدثا من بعدُ.
ولا أشكّ أنه معلوم لديكم أنّ الأوقاف أدَّت ولا زالت دورا تنمويا اجتماعيا ومهمةً اقتصادية في مختلف المجالات وفي شتى الميادين، ففضلا عن المأكل والمشرب والملبس والمأوى، فقد ساهمت مساهمة جادّة مشهودة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والدّيني والمعرفي والطبي وسواها، والحضاري عموما، بل تعدّت هذه المجالات البشرية لتمسّ الجانب البيئي والحيواني، نعم… حتى البيئة والحيوانات كان لها نصيب وأي نصيب من أموال وأوقاف المسلمين، وإنّ مردّ هذا التطور والاستمرار إلى الواقفين أولا، ثم إلى نظّار الأوقاف والجهة المتولية والنائبة والمسيّرة لهذه الأموال التي أصبحت تعرف فيما بعد بالمؤسسة الوقفية، وما ذاك إلا بما جادت به من حرص وعناية وخبرة وإخلاص وحسن إدارة وحفاظ وتثمير، قاصدة تثميرها وتنميها والتصدّق بغلاتها وفق شروط الواقفين تحقيقا لوظيفتين: وظيفة اقتصادية إدارية ربحية ووظيفة اجتماعية خيرية تبرعية.
وفي كثير من الأحيان، تجد هذه المؤسسات نفسها محتاجة وغير قادرة _بإمكانياتها الخاصة التي بين يديها_ على تمويل عقاراتها ومؤسساتها ومشاريعها: القائمة لغرض صيانتها وإصلاحها أو تثميرها وتنميتها، أو القادمة لغرض إنشائها وجعلها مُنتجة ذات ثمرة وغلّة، مما يضطرها إلى أن تلجأ إلى البحث عن تمويلٍ من خارج أسوارها، وهذا ما يُعرف بالتمويل الخارجي، المتعدِّد المصادر والروافد.
وفي هذا السيّاق تطوّر التمويل الوقفي وعَرف تقدّمات هائلة وتغيرات محمودة ملحوظة، خصوصا بعد أن تعمّم العمل بالوقف النقدي في غالب بلدان العالم الإسلامي، وقد كان قبل ذلك محصورا في المذهب المالكي وبعض الحنفية، وهذا بعد أن أجمعت عليه المجامع الفقهية والهيئات الشرعية بعلمائها وفقهائها.
ويقف المتأمل على تنامي الاهتمام بالأوقاف النقدية وصورها الحديثة _التي من أهم وسائلها[1] الحسابات المصرفية (أو البريدية)، والصناديق الوقفية الحقيقية الملموسة كالخشبية أو المحسوسة المعنوية كالحسابات الجارية أو الاستثمارية، والأوراق المالية الوقفية كالصكوك والأسهم والسندات الوقفية، ثم ما لبثت أن تطورت لتصبح وقفا إلكترونيا والوقف من الرّصيد بـ sms والوقف عبر البلوكتشين (Blockchain)_، والدافع إلى ذلك كلّه إحياء الأوقاف والنهوض بها واسترجاع سابق دورها التنموي الريادي المتميّز، بعد أن ساهمت أيّما مساهمة في إنشاء الحضارة الإسلامية بمؤسساتها العريقة اجتماعية كانت أو دينية أو اقتصادية أو سواها.
ذلك، وقد أصبح بالإمكان التمويلُ بطرح وثائق (أو سمّها سندات أو صكوك) يقدّم الواقفون (أو سمّهم المساهمون المشاركون) قيّمها المكتوبة عليها نقدا للمؤسسة الوقفية لتجميع الحصيلة السائلة، وهذا هو التصكيك أو التسهيم أو التسنيد أو التجزئة أو التقسيم للأصول والمواردِ إلى وحداتٍ وأجزاء وأسهم، لتستهدف نوعا من الأوراق المالية الوقفية فإما على التأبيد وإما على التأقيت، حسب عدة اعتبارات منها المشروع ورأس ماله والبيئة والواقفين وامكانياتهم المالية وغيرها، وهذا ما يعرف بالتمويل الخيري الجماعي في الإسلام، والذي اشتهر عند الغربيين بـ(crowdfunding)، بعد أن أضحى معتمَدا من قبل الكثير من المنظمات والمؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية والغربية.
ثم إنّ وسيلته قد تغيّرت -وإن حوفظ على الطريقة والمبدأ- وذلك بعد أن ظهرت النقود الالكترونية، فبات بالإمكان المساهمة إلكترونيا عن بعدٍ من الحساب إلى الحساب أو حتى عبر سلاسل الكتل (البلوكتشين)، كما ستقف على ذلك في لاحق الفصول، إن شاء الله تعالى.
غير أنّ الأوراق المالية الوقفية والصناديق الوقفية لقيت شيوعا ولاقت قَبولا وإقبالا عليها من قبل الكثير من المؤسسات الوقفية الإسلامية، فبين مستغل لصيغة الأسهم الوقفية المؤبدة كالسودان وماليزيا والكويت والسعودية وقطر وعمان وبين محاول للعمل وفق صيغة الصكوك الوقفية المؤقتة كالأردن ونيوزيلندا، أو العامل بالصناديق الوقفية كالكويت مثلا، تسعى المؤسسات الوقفية _المذكورة وسواها_ لتوفير وتدبير موارد لعقاراتها وأراضيها ومؤسساتها ومشاريعها الوقفية التنموية ذات البعدين الاقتصادي والخيري، للمساهمة في التنمية الاجتماعية الوطنية والمحلية ومن ثمّ الاقتصادية بالتبعية ولو نسبيا، وتوزيع غلاتها على مصارفها وجهاتها المحدّدة وفق ما اشترطه الواقفون.
ومستعينا بالله تعالى في هذا الكتاب، حاولت أن أقف على ما يمتّ للتمويل الوقفي بصلة وفق المستطاع والمتاح والمطلّع عليه، مبتدأ ومنتهى قديما كان أو حديثا، نظريا كان أو تطبيقيا، عِلما كان أو عَملا، كان غرضه الإقراض أو الاستثمار، ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
ومتوكلا على الله تعالى رأيت تقسيم هذا الكتاب إلى بابين اثنين:
وهو مدخل أساس لفهم كنه النظام الوقفي ودقائق مكوناته وحقيقة أدوارها، إذ من غير اللائق على الباحث في مجال الأوقاف أن يجهل هذا الإطار العام بما احتواه من عناصر وتفاعلات وتأثيرات وتأثرات.
وفيه سعينا أن نجمع ما أمكن من طرائقَ* وصيغ تمويلٍ، اتخذتها مؤسسات الأوقاف المستقلة والحكومية أدواتٍ لأوقافها صيانة وإنشاء وتشغيلا واستثمارا، طلبا للغلات والثمرات المراد توزيعها على أبواب الخير للمستحقين المتقرَرين من شروط الواقفين.
وقد حاولت قدر المستطاع أن أذكر هذه القضايا التمويلية والمسائل الوقفية والأعمال الاستثمارية، معتنيا بالأمور المستجدة بين المؤسسات الوقفية أو بين ورقات الباحثين والمتخصصين والفقهاء والعلماء، مع كثرة المشاغل وعزِّ التفرغ وقلة الزاد ويسير الاجتهاد، وسأكتفي في المباحث المطروحة على ما له صلة مباشرة بالموضوع من غير تزييد ولا إسهاب إلا استطرادا نادرا مناسبا للمقام، إذ:
“ما يناسب المقامَ يُذكر — تبحرا في العلم وهو أشكَر”
وحرصا على التوضيح المبسِط والبيان المعين على تعميق الفهم وتشكيل المعرفة المناسبة للطلاب والباحثين والأكاديميين والنظّار والمؤسسات الوقفية وأصحاب الاهتمام عامة، ضمّنت هذا الكتاب جدولين اثنين، وستة عشر (16) شكلا، كما أوردت ما أمكن من نصوص تشريعية وقوانين تنظيمية ولوائح استرشادية وترتيبات عملية وخطوات تطبيقية ميدانية، خاصة بإنشاء المؤسسات والمشاريع الوقفية أو الأدوات والوسائل من صناديق وأوراق مالية وقفية لتجارب إسلامية في هذا الشأن.
هذا ولا أدعي لهذه الوريقات استيعابا أو إلماما في محتواه أو موضوعاته ومباحثه، فالكامل الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وناقصو المعارف والقدرات والأفكار والملكات لا يكمل لهم عمل مهما طالت مدة تحضيره أو جدّ صاحبه في تأليفه وتنقيحه وتحريره، وسهر في تصفيفه وتخريجه وتحسينه وتجويده، فما كان فيه من صوابٍ فمن الله وحده توفيقا ومنّا وفضلا، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، واستغفر الله عزوجل.
فمن وجد ما يوافق الحقّ والصّواب ويستحق الدعاء والثواب فليحمد الله تعالى على ما وفقنا إليه، وليذكرنا بدعوة صالحة فإنّا راحلون مغادرون، ومن وجد نقصا أو زلة أو هفوة أو خطأ علميا كان أو لغويا أو شكليا أو منهجيا، أو سوى ذلك فليستغفر لنا ربنا، وليسعنا عفوه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فالعذر العذر، فهذا مبلغ الجهد وقصارى العمل، وهذا ما أثمره شغلنا في البحث وعملنا في الجمع والتأليف، وذاك ما به جادت النفس وعنه عبّر الفؤاد وتحركت الأنامل، فأثمر ما ترى، والله المستعان وعليه التكلان وإليه المصير.
واللهَ وحده نسأل أن يقبل هذا العمل لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا المؤلَّف في ميزان حسناتنا مسعدا لنا يوم لقائه، نافعا لنا ولعباده، ناشرا للعلم والعمل الوقفي الخيري، وأن يكتب لنا ولجميع المسلمين التوفيق في
شؤون ديننا ودنيانا وأخرانا، والإخلاص في عقائدنا وأقوالنا وأفعالنا،
والعون لنا في سائر أعمالنا، والقَبول بمنّه وفضله وكرمه،
والعفو عن تقصيرنا والمغفرة لأخطائنا
والصفح عن زلاتنا،
فهو سيدنا وربنا وحسبنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الجزائر، يوم: 24 ماي 2023 الموافق لـ 04 ذو القعدة 1444 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلّم
كتبه الفقير إلى ربه: عبد القادر بن جيلالي قداوي
[1] مقاصد الوقف من جهة المؤسسة الوقفية هي توفير الضروريات ودعم الحاجيات وسد مواضع المهمات والخِلال (الخَلَّةُ: الحاجةُ والفَقْر، جمعها خِلال) وتلبية المتطلبات والأساسيات، عبر فتح باب الوقف للنظارة على أصول مالية يقفها الواقفون، ولهذا المقصد مجموعة من الوسائل، وأستحضر قول المقاصديين “للوسائل حكم المقاصد” فما كان مقصِده واجب فوسيلته واجبة، وما كان مقصِده محرّم فوسيلته محرّمة، وهلمّ جرا.
* نكتة لغوية: كلمة طرائق جمع طريقة على نحو حقيقة وحقائق، أما كلمة طُرُق فهي جمع طَرِيق على نحو سَبِيل وسُبُل.