تفصيل

  • الصفحات : 197 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 9789931691884.

قامت الدراسات اللسانية منذ نشأتها ، و اتضاح معالم البحث فيها على الانشغال بالحقائق اللغوية في واقع التخاطب دون غيرها ، ذلك ما كانت – و لا تزال أيضا – النزعة العلمية الموضوعية تدعو بإلحاح شديد إليه ، بعدما ظل البــــــاحثون فترة طويلة من الزمن ، و عبر أجيال متباعدة يفتقدون هذا التوجه ، في عهود سطوة المعيارية سواء عند متـــأخري النحاة العرب ، أو في الدراسات اللغوية الأوروبية السابقة للقرن التاسع عشر ، أو حتى بعد انتشار الدراسات التاريخية و المقارنة في تلك الفترة .

لقد وجدت اللسانيات أن تلك الدراسات لم تكن لتنهض بالمفاهيم العلمية للغة البشرية بسبب بعدها عن تحقيق رؤية علمية و عملية للظاهرة اللسانية ، خصوصا و أن الحضارات القديمة التي عرفت بوعي متقدم في دراسة لغتها كحضارة الهنود أو حضارة العرب ، ركزت جل اهتمامها على محــــــــــــــــــــــــــــاولة النفاذ إلى ضوابط التحكم في لغاتها خدمة لنصوصها المقدسة ، و محافظة على شكل راق يوصف بالسليم أو بالصحيح لتلك اللغات .

إنّ منهجا كالمنهج القواعدي المعياري الذي يفرض على المتكلمين نمطا رفيعا من اللغة ، قد انتفت الأسباب التي تبرر العمل به في لغات كثيرة اليوم ، باستثناء اللغة العربية الفصيحة لغة النص القرآني الخالد ، و الذي يقتضي خلوده و استمراره الإبقاء على صورة اللغة التي نزل بها ، و إذا كان النحو العربي بشكله الذي وصل إلينا يهدف إلى المحافظة على أرقى أشكال الآداء اللغوي – و بالرغم مما وجه إليه من انتقاد – ، فلا سبيل إلى إلغاءه من البحث اللغوي بأي حال من الأحوال ، لأن السلامة اللغوية في اللغة العربية كـــــــــــــــــــــــــــــانت و ستبقى من أهم وسائل المحافظة على القرآن و فهمه ، و إحدى مقومات المشروع الحضاري و الفكري و القومي للشعوب العربية .

و لكن ، و تبعا لهذا ظل كثير من اللغويين على الاعتقاد الخاطئ أن دراسة اللغة دراسة جادة إنما تقتصر على دراسة اللغة الفصيحة و الراقية في كل بقعة من العالم ، و ظن بعض الدارسين العرب أن النحاة العرب القدامى على سبيل المثال اقتصروا في دراسة لغتهم في عصر الفصاحة على الهيئة المثلى للعربية ، التي تراءت لهم في اللغة الرسمية الكـــاملة أداء و نطقا ، و أنهم إنما استفادوا جميع ما تختص به العربية من لغة الشعر و الخطابة فحسب أو من القرآن الكريم ، و ظنوا كذلك بالمقابل أن الفصاحة العربية إنما هي هذه اللغة التي تلقن في المدارس للمتعلمين ، أو توجد في لغة الخطــــــــــــابة و البحث العلمي و المناسبات الثقافية ، حيث يحذر المتكلم بها من تجاوز الحركــــــــــــــــات الإعرابية أو تحقيق الأصوات ، هكذا خالية من أي مظاهر للتخفيف و التسهيل  و هذا خطأ .

لقد نسي كثير من المحسوبين على التيار المحافظ أو المتشدد أو تناسوا ، أن النحاة العرب دونوا في كتبهم كثيرا مما سمعوه عن العرب الفصحاء من كلامهم اليومي العفوي ، بل و ذهب بعض المنشغلين الدرس باللساني كالدكتور تمام حسان إلى القول أن النحاة لم يأخذوا من كلام العرب في تخاطباتهم اليومية العادية ، و أن استشهادهم في مجال النحو و علوم العربية اقتصر على لغة القرآن و الشعر و الفنــــــــــــــــــون النثرية الأدبية ، و هذا ما لا يمكن التسليم به البتة ، خصوصــــــــا إذا عرفنا ما تحويه كتب المتقدمين من النحاة من أمثال الخليل و سيبويه و الأخفش و الفراء و غيرهم .

نحن بحاجة ماسة إلى تأصيل لمتن اللغة التي لابد من دراستها و تحليلها ، بعيدا عن الفهم الخاطئ الذي لا يزال مسيطرا على عقول الناس عموما و فئة من الدارسين خصوصا ، و هو أن دراسة اللغة هي دراسة للغة الراقية و العالية ، لغة المناسبات الرسمية الموصوفة بالفصاحة و الضبط ، و ان لغة المشافهة التي ما هي إلا صورة لها في الاستعمال لا تمت إلى الدراسة و البحث بأي شكل من الأشكال .

هذا البحث ، هو محاولة تنظيرية و مفاهيمية لتسليط الضوء على لغة التواصل اليومي ، أو لغة التخاطب اليومي ، التي يحلو للبعض تسميتها لغة الحــــــــــــــــــاجات أو لغة الأنس أو لغة الشارع أو لغة الحياة اليومية ، و تسميات كثيرة من هذا القبيل ، و اتخذنا لغة العرب القديمة الفصيحة كنموذج لا على سبيل تحليلها و التطبيق المفصل على مدونتها ، و إنما على سبيل الإشارة إلى وجودها في الدراسات اللغوية القديمة من غير لغة الشعر و النثر ، و بعض خصائصها العامة ، على أمل أن نتعرض لتحليلها في مستوياتها المعروفة ضمن كتاب آخر يلحق هذا البحث إن شاء الله .

و هي مساعدة لبعض طلبتنا اليوم ، المنشغلين على دراسة التخاطبات اليومية في بيئات مختلفة ، محاولين لرصد تلك الخصائص في جو أكاديمي و جامعي ، صور لأكثرهم ان دراسة اللغة العربية أو اللغات عموما تقتصر على دراسة الجانب الفصيح فيها ، و الذي لا يجدونه سوى في اللغة العربية الرسمية التي تسمى لغة التعليم أو لغة الثقافة .

و نأمل أن يكون هذا الكتاب إضافة إلى البحوث اللسانية التي تحاول ضبط المفاهيم ، على شكل منفتح على الدرس اللغوي الغربي و العربي على السواء .

و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل .