تفصيل

  • الصفحات : 178 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 9789931728689.

ربما قرأت أو سمعت عن مدن من التاريخ السحيق مسحها الزمن وأضحت مهجورة تروي حكايات غابرة لأناس وأقوام عاشوا فيها وفنوا عليها ، مدن كانت فيما مضى تعج بالحياة والنشاط والحيوية، مدن لها شهرة ومكانة وأهمية، لكنها أضحت من المدن المنسية؛ فمنها من دمرتها الغزوات والصراعات والنزاعات، ومنها من قضت عليها الكوارث الطبيعية، وما دهى المناخ بعضها الآخر من تحولات وبقيت منسية أو مجهولة أمكنة.

كثيرة هي المدن والبلدات والقرى القديمة المندثرة وعديدة هي المواقع التاريخية والمواضع الطبوغرافية المندرسة، التي تشير إليها كتب التاريخ وسجلات التراث، أو توثق أسماؤها مصنفات الرحالـة من التي تكتنزها منطقة الدراسة في محمل سفرها الطويل وبين تجاعيد أرضها الطيبة.

عليه فقد وضعت هذا الجهد الفكري الذي يجيء ليستعرض الدلالات الميدانية على مظهر التمدن الذي فجره الأوائل ممن سكنوا المكان المتربع وسط حوض دجلة والفرات (قلبه) والـذي أسميته افتراضيا (إقليم المنطقة المتموجة) ليكون مبرزا لشواهد عينية لفجر التحضر والتمدن فيه.

انه التحقق العيني للعديد من المدن والبلدات والقرى التي تصادفنا أسماؤها في كتب التراث والتاريخ، وانه التحري عن مدن لا تحمل أسماؤها الخرائط الحديثة، ولا يوجد لها مكان بين المدنية المعاصرة. مدن لعبت أدوارا مهمة في تاريخ وادي الرافدين أو تاريخ بلاد ما بين النهرين… مدن عاشت فيها أجيال، وتعاقبت عليها أحداث، وتعددت في مساراتها الزمنية حقب ومراحل وعصور، مدن توقفت عندها المضان التاريخية كثيرا، وتردد ذكرها عند أكثر من مؤرخ مخلدا بذلك ذكرها وما شكله وجودها من أهمية على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو التجاري أو غير ذلك، مدن اندثرت وبقيت أسماؤها، وبلدات انتقلت بأسمائها إلى مواقع أخرى، أو نبتت من جديد فوق المطمور القديم الذي كان بمسميات جديدة. وإذا ما كانت حياض أعالي نهر دجلة غنية بتاريخها وتراثها ومآثرها وبرصيدها الحضاري الشاهدة عليه مواقع متعددة ومتنوعة، فهناك جزء كبير من هذا الرصيد لازال مجهولا، وما تزال شواهده مطمورة في العديد من المواضع التي تصدح كتب الإخبار والجغرافيا والآثار بالإشارة إليها وباستعراض الأحداث المهمة والحوادث الملمة التي مرت فيها.

إن هذا الكتاب الذي بين ايديكم انما هو بفكرته ومادته يجسد الحالة الشيئية المطلوبة لطمر الهوة الكبيرة التي تنخر جسم القراءة التاريخية عندنا حول هذا الموضوع بسبب انه يعالج المبرزات المادية الملموسة لما هو مذكور تاريخيا ووارد أثريا.

كما إن الكتابة عن مدن انقرضت واندثرت معالمها وشواهدها التاريخية، بل وطمست أدنى الإشارات المكانية إليها هي للتذكير الداعي إلى العظة والتدبر والتأسي، فالذي لم يندثر خبره لم ينته أمره، ولن يزول نفعه مادامت هناك أسطر وكلمات تخلده في كتب التاريخ، ولا مناص من تذكره واستحضاره، خاصة إذا ما كانت طيات الخبر فيه تحتفظ بما يساعد على فهم الحاضر واستشراف المستقبل.  فالقيمة المعنوية والحضارية والثقافية لهذه المدن بالنسبة للعموم وبدرجة أكبر بالنسبة للباحثين الأثريين وللمهتمين بتاريخ منطقة الدراسة، تفرض الاقتراب منها وإثارة الانتباه إليها. هذا لأن هذه المدن المعنية تختزن في تاريخها الكثير من الأحداث المليئة بالحركية والعبر والبطولات والمسارات التي يمكنها تشكيل مصادر إلهام للتطلعات المدنية المستقبلية بمختلف الأجناس التعبيرية الأدبية والفنية، بل إن فيها للتصور الحضري المعاصر خزانا هائلا من الأفكار والخلق والجمالية.

فضلا عن إن من بين أبرز الأسباب لهذه الكتابة ، هو إثارة الانتباه إلى مواقع هذه المدن التي ما يزال الكثير منها مطمورا تحت التراب، والبعض القليل منها معروف كأسماء راقدة في المصادر التاريخية، أو متواترة الذكر بين الحكايات الشعبية كحكي أسطوري أو خرافي في حين أن الكثير من الإشارات على ندرتها ـ تؤكد وجودها التاريخي. من ناحية أخرى نجد النزر القليل، والقليل جدا منها متداولـة أسماؤه بين التكارتة، والتي اشتهرت بفضل الأبحاث الأركيولوجية التي تمت خلال فترة الماضي القريب، في حين أن مدنا مندثرة كثيرة غيرها، والتي تصدح بالإشارة إلى أسمائها العديد من المصادر والمراجع التاريخية، ما تزال مطمورة مندثرة مجهولـة الموقع معدومة الملامح.

فضلا على إنني أؤسس بهذا البحث التاريخي لأرضية ثقافية ومعلوماتية للباحثين المحدثين في علم الاجتماع والمجتمعات. إذ إن الكم المذكور من المدن والبلدات والقرى المندثرة، يفرض طرح تساؤلات جوهرية وأساسية وإعداد دراسات اجتماعية: حول ذلك المصير الذي انتهت إليه مدنيات، وحول زوال الحياة الحضرية، وتلاشي التمدن من مواقع هي اليوم إما بقايا آكام فوق سطح الأرض، أو دفائن ماتزال مطمورة تحت التراب.

إنني عندما اصدر هذا الجهد فإنني أريد أن اثبت إن تاريخ ما بلاد بين النهرين وشرقي الجزيرة الفراتية مازال يحتاج إلى إعادة نبش وإعادة تمحيص إذ لا يزال حتى الآن أكثر من ثمانين بالمائة من تراث وبقايا حضارة هذه البلاد مدثورا تحت الأنقاض ، ولعل الدليل على ذلك هو انه في كل يوم تكتشف البعثات العلمية معلومات جديدة عن هذه الحضارة، ونعتقد انه لو تم اكتشاف جميع الآثار الموجودة في بلاد ما بين النهرين لقلبت وجهة التاريخ رأسا على عقب .

وقد يكون هنالك كثيرون يغلّبون تراث عهود معينة على تراث وآثار هذه الحضارة أو المنطقة على أساس أنها أشبعت بحثا الأمر الذي أصبحت أخبارها معادة. لكنه قد تناسى هؤلاء ان التاريخ إن هو إلا سلسلة متصلة الحلقات كالعقد إذا انفرطت منه حبة فقد العقد خاصته، فدراسة تاريخ الحضارات القديمة يجعلنا نستوعب بشكل أوسع حضارة هذا القرن والقرن الذي قبله والعلاقات الاجتماعية بين الماضي والحاضر، فالكثير يقف اليوم مبهورا أمام التقدم الحضاري الذي وصلت إليه الهندسة المعمارية مثلا في حضارة القرن العشرين ، ولكن ليسوا كثيرين أولئك الذين التفتوا إلى التاريخ وشاهدوا القمة والروعة الهندسية والمعمارية التي احتوتها حياة القدماء، قامت تجارب بلغت شأنا عاليا من الرقي والتقدم الأمر الذي يجعلها تكون بحق الأساس الذي قامت عليه حضارة العالم في القرن العشرين ،

وبما أننا الآن بصدد دراسة التراث المدني لمجموعة مدنيات داثرة من هذه المنقطة ، فأننا نؤكد وبكل صدق ان أكثر من ثمانين بالمائة من معالم هذه الحضارة لا يزال تحت الأنقاض ومنه ما ضاع بسبب الكوارث أو الحروب التي ألمت بالمنطقة وحتى ان ما ظهر منها هو أيضا تناولته الأيدي الجاهلة بحسب الأهواء والغايات الخاصة. فمنها ما برز بوجهه الصحيح ومنها ما بقي بين نين ، عليه فان دراسة دراسة التاريخ يجب ان تكون غاية بحد ذاتها ، وان تخدم الحقيقة مهما كانت نوعيتها ، ونحن في هذا الأطلس ان كنا مقصرين في بعض النواحي سواء كان هذا التقصير من ناحية دقة المعلومات أو قلتها ، فذلك عائد لصعوبة أو ندرة الحصول على المراجع المختصة وقلة المعلومات المتوفرة في هذه المراجع ، وإذا كنا قد قدمنا هذا الجهد سائرين على الطريق لكشف معالم جديدة عن حضارة بلادنا فنتمنى ان يسعفنا الحظ لنتمكن وبمشاركة المخلصين في ان نعطي صورة مقبولة تنصف نوعا ما الحقيقة الزائلة التي غذت العالم على مدى آلاف السنين ثم شاء القدر ان تبقى مطمورة تنتظر دون ان تفصح عن نفسها

ارجوا ان أكون قد وفقت في بحث هذا الموضوع، كما ارجوا عدم المؤاخذة على سهو أو خطأ قد بدر أو جاء خلال المتن بشكل عفوي.

وخاتمة مقدمتي هي شكري وامتناني الخالصين لكل من مد لي يد العون والمساعدة بتوجيه أو برأي أو إشارة أو لفتة ويأتي في مقدمتهم:  العلماء الذين لم يبخلوا علي بمشورة ورأي: بروفسور الآثار المغترب، الأستاذ الدكتور فاروق ناصر الراوي والبروفسور الأستاذ الدكتور نائل حنون والبروفسور المغترب الأستاذ الدكتور أمير حراق والعلامة الأستاذ بنيامين حداد والعلامة الأستاذ الدكتور جابر خليل.

                                 الباحث المؤرخ

                                  إبراهيم فاضل الناصري