تفصيل

  • سنة الطباعة : 2019،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الاولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-728-02-3.

مثلت الثورة الجزائرية (1954-1962 م) أهم معالم القرن العشرين كحدث معلمي حضاري بارز بين الثورات العالمية الكبرى، وكمنعرج حاسم في مصير الشعوب، وتاريخ العلاقات الإقليمية والدولية، لأنها كانت عبارة عن ردود فعل وطنية شعبية واعية عسكريا وسياسيا وفكريا لتحقيق التغيير الجذري، وجسدت حركة تحررية ثورية شاملة امتدت إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكل ما يتصل بالإطار الحضاري للشخصية الجزائرية العربية الإسلامية والإنسانية، في مواجهة المشروع الاستعماري الفرنسي الاستيطاني الاستغلالي والعنصري الإقصائي، وشكلت عملة ذات وجهين:

  • يمثل الوجه الأول الوقائع المسلحة والأعمال البطولية التي أبهرت العالم، فركزت الدارسات على التغني بها كممارسة ميدانية على المستوى الداخلي والإقليمي والقاري والدولي.
  • ويمثل الوجه الثاني قيمها الحضارية بأبعادها المتنوعة التاريخية والجيو – سياسية

والروحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، والذي تعرض للتهميش والتشويه لإفراغه من أي محتوى إيديولوجي، أو خاصية المشروع الحضاري، حيث لا يزال يثار التساؤل حول مضامينها الإيديولوجية وقيمها الحضارية، سواء من طرف مجموعة من الدراسات الفرنسية الاستعمارية التي درسته من خلال إيديولوجية الحقد والمرارة، أو حتى من طرف بعض الدراسات الجزائرية والعربية التي تأثرت بإيديولوجية الحماس والعاطفة الوطنية والقومية والإسلامية، أو بتأثيرات إيديولوجية أجنبية، فأشاعت الدعاية المغرضة أن الثورة الجزائرية مجرد “عصيان” ( (Insoumission في شكل أعمال تخريبية تقوم بها مجموعة من العصاة والفلاقة

( (Fellagas، أو”انتفاضة مسلحة” ( (Soulèvementدون مشروع سياسي أو اجتماعي، في شكل “تمرد”(Révolte ) ضد السلطة القائمة من أجل مطالب اجتماعية،

وفي أحسن الأحوال “حرب” ((Guerre في شكل قتال مسلح لا يتضمن معنى القطيعة ضد المحتل الأجنبي، بل مجرد انقلاب ((Complot كحركة هادفة للاستيلاء على السلطة،

لم تنته بانتصار عسكري، وإنما مجرد انسحاب وتخلي الطرف الاستعماري الأقوى، دون أثر لتفكير نظري معمق انعكس على الضعف الإيديولوجي للثورة إلى درجة تشبيهها ب:

« فيل برأس بعوضة » بدعوى عدم انسجام الثورة  مع حجمها الفكري.

 

ولا يعقل اليوم بعد مرور سبعة وخمسين سنة عن انتصار الثورة الجزائرية( 1954-1962م)

وتجاوز مرحلة الشرعية الثورية في السياسة الداخلية من جهة، والانفتاح في السياسة الخارجية لطي صفحة مآسي الماضي في العلاقات الفرنسية الجزائرية، وإقرار مبدأ التعاون الجزائري الفرنسي في إطار العولمة ومشاريع الاتحادات الإقليمية، واتساع موجة ما يعرف بثورات الربيع العربي – كمحاولة لتشويه مفهوم مصطلح ثورة الشعوب العربية – أن يظل البحث التاريخي متوقفا عند التغني ببطولاتها ومعاركها العسكرية وأحداثها السياسية وانتصاراتها الميدانية، دون طرح جوانبها النظرية لمشروعها الحضاري الكبير في مواجهة الصراع الفكري المرير ضد الإيديولوجية الاستعمارية، واستعادة المعالم الحقيقية للذاكرة الجماعية الوطنية للأمة الجزائرية، بإعادة الاعتبار للعطاء التاريخي الحضاري في الكفاح التحرري الوطني، وربط تواصل الأجيال في المجتمع الجزائري.

ومهما حاولت هذه الدراسات تأكيد غياب مشروع حضاري على الساحة الجزائرية خلال الثورة (1954-1962) – وهي نفسها التي حاولت من قبل تأكيد انعدام أي تصور إيديولوجي – تحت تأثير ضياعها الإيديولوجي بفعل قناعات إيديولوجية استعمارية، وليبرالية، ويسارية، فإنه لا يمكن أبدا تجاهل الطاقات الروحية والقدرات الحضارية للشعب الجزائري الأصيل، القائمة على البعدين الروحي الإسلامي والقومي العربي، واللذين مكنا الثورة الجزائرية من أن تحمل مشروعا حضاريا سياسيا واجتماعيا وثقافيا للحاضر والمستقبل، لأنها كانت مفعمة بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية النبيلة من ديمقراطية وحريات أساسية وتضامن وإخاء وتسامح في علاقاتها بالأصدقاء والأعداء على حد سواء، بين أفراد المجتمع الجزائري من جهة، وتكامل في إطار انتمائها الحضاري العربي الإسلامي، وتعاون وتبادل بين المجتمعات الإنسانية المختلفة من جهة أخرى، ظهرت في نصوصها ومواثيقها، وخطب قادتها، ومقالات صحفها ومناشيرها، وفكر مثقفيها، وأدبيات منظريها.

وتجسد المشروع الحضاري لهذه الثورة في الإطار الجزائري من خلال بعدها الشعبي الوطني، الذي تمثل تاريخيا في بعث الشخصية الوطنية الثورية، وجيو- سياسيا في بعدها الاستقلالي لإحياء قواعد الدولة الوطنية ذات السيادة الديمقراطية الشعبية في نظام جمهوري برلماني يقوم على أساس مجالس شعبية وقيادة جماعية في كامل التراب الوطني، وصمودها عسكريا، ونجاحها في الدعاية والإقناع إعلاميا، وتطورها اجتماعيا في العمل عن طريق التعبئة الشعبية العامة، وبعث منظمات وطنية جماهيرية، مهامها هيكلة وتعبئة كل القوى الحية في المجتمع الجزائري، وتجنيدها لخدمة أهداف الثورة داخليا وخارجيا، على أساس إرساء أسس العدالة الاجتماعية في مجتمع جديد لا يعترف بصراع الطبقات ويمقت التمييز العرقي والديني، واقتصاديا في رسم مشاريع التنمية والإصلاح الاقتصادي الوطني الشامل في مواجهة المخططات الفرنسية الإغرائية ومشاريعها الاقتصادية لاحتواء الثورة.

وتجاوز هذه المشروع الحضاري الإطار المحلي الوطني، لتمتد إلى الإطار الإقليمي والدولي بتحديد الثورة لدوائر الانتماء الحضاري للجزائر، حيث أكدت  الثورة الجزائرية بعدها المغاربي في إطار وحدة شمال إفريقيا، وتمسكت بأصالتها بترسيخ قيم الانتماء القومي العربي الإسلامي في إطار دعم وحدة تضامن شعوب الوطن العربي والعالم الإسلامي، لتوسع الثورة انتماءها الحضاري بتأكيدها على وحدة المصير التحرري بتحقيق الاتحاد الإفريقي ضد الاستعمار، والدفاع عن الإخاء الأفرو- أسيوي خاصة والتحرري عامة، والتزامها اللامشروط بتدمير كل ركائز الاستعمار في العالم.

وكان الأهم في مشروعها الحضاري هو تجاوز كل الأحقاد والضغائن لانفتاح الثورة الجزائرية على المستوى العالمي بالتأكيد على أبعادها الإنسانية والأخلاقية، والتزامها المبدئي بميثاق هيئة الأمم المتحدة، ودفاعها عن شرعية النظام الدولي، وخاصة دفاعها المستميت عن المبدأ العالمي المعترف بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها، ومساهمتها في القضاء النهائي على النظام الاستعماري البغيض، وتخليص فرنسا ذاتها من أزماته التي هددت مصالحها العليا، وهزت سمعتها الدولية، وكادت أن تعيش حربا أهلية جديدة تحت تهديد فساد وانقسام الجيش الفرنسي، وحرصها الشديد في بعدها الدبلوماسي على نبذ كل مظاهر العنف ضد الإنسانية، وتمسكها بأسس السلام والتعاون الدولي النزيه، والتزامها بحفظ حقوق كل الأقليات داخل المجتمع الجزائري دون تمييز عرقي أو ديني، باعترافها بالحقوق الفرنسية المكتسبة المشروعة، في إطار علاقة الثورة الانفتاحية على كل الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية، والأقليات العرقية في علاقتها بالمستوطنين الأجانب