تفصيل

  • الصفحات : 484 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : ْمقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 9789931728658.

يشمل التراث مكونات حية، توارثتها الأجيال المتعاقبة، وطورتها لتتوافق مع معطيات بيئتها المحلية، الطبيعية والثقافية والعقائدية والاجتماعية، وإن كان من الصعب حصر هذه المكونات وتحديد معالمها لتنوعها وارتباطها بكافة الأنشطة البشرية. إلا أنَّه تم الاتفاق على تصنيفها وفقاً لطبيعتها، فمنها المادية؛ كالمساجد والكنائس والقصور والمسارح، والحرف اليدوية والصناعات التقليدية والحلي والأزياء والمخطوطات، ومنها المعنوية؛ كالأدب الشعبي، والعادات والتقاليد، والمعتقدات والمعارف الشعبية، وفنون الطبخ.

وقد حافظت أغلب المكونات التراثية على صلتها المعنوية، بينها وبين مُبدعيها، أفرادًا كانوا أو جماعات، فيما فقدت بعضها هذه الصلة، وذابت في الهوية الجماعية للدولة، مثلما هو شأن العديد من عناصر الأدب الشعبي مجهولة المؤلف، ورغم أهمية هذا الجانب في التراث، إلا أنَّه لم يُؤخذ بعين الاعتبار من الناحية القانونية، حيث دخلت كل المكونات التي تم توارثها، سواء عُرف مُبدعها أو كان مجهولاً في نطاق الملك العام للدولة التي تتولى مسؤولية الحفاظ عليها، واستغلالها، دون الرجوع للأفراد أو الجماعات التي أبدعتها، وطورتها وحافظت عليها وعلى أبوتها الفكرية عند توارثها، ودون إشراكهم في منافع هذا الاستغلال. إلا أنَّ مطالبة المجتمعات التي تمتلك عدة مكونات تراثية لا تزال تُنسب إليها؛ بمعاملتها معاملة مختلفة عن باقي المكونات التراثية مجهولة هوية المبدع، وذلك بالاعتراف بحقهم المعنوي في نسبتها إليهم، والسيطرة على عملية استغلالها، وبالتالي إخراجها من نطاق الملك العام.

تُعرف هذه المكونات التراثية، التي تنسب لمجتمع معين له الفضل في إبداعها، بصورة جماعية وتطويرها والحفاظ عليها بالمعارف التقليدية، التي تتضمن كمًا هائلاً من الخبرات والتجارب والمهارات والتقنيات والفنون، والتقاليد المرتبطة بمختلف الأنشطة البشرية؛ كالزراعة والطب، والصيد والعمارة وصناعة العطور، والحرف التقليدية، والموسيقى والأهازيج والطقوس، التي تولدت في سياق جماعي تقليدي في مجتمع معين، وتراكمت وتطورت عبر كل انتقال بين أجياله المتعاقبة، لتلبي احتياجاتها وتتكيف مع معطيات بيئتها المحلية.

فالمعارف التقليدية جزء من المكونات التراثية، التي تغوص جُذورها عميقًا في ماضي مُجتمع معين، وتمتد لحاضره، حاملةً هويته الجماعية، وما تحويه من تقاليد ثقافية، واجتماعية ومعرفية، وُمعتقدات ومُمارسات عُرفية؛ ممَّا يُضفي عليها قيمة معنوية تجعلها مصدر فخر واعتزاز، ومقياس تميز هذا المجتمع عن المُجتمعات الأخرى داخل الدولة الواحدة أو خارجها، وأداة لتعزيز الشعور بالانتماء وتقوية روابط التماسك بين أفراده.

وقد كانت القيمة المعنوية للمعارف التقليدية حتى زمن قريب، السبب الجوهري في توارثها والحفاظ عليها في نطاق أجيال المجتمع المالك لها ورقعته الجغرافية، حتى كشف التطور العلمي والتكنولوجي عن قيمتها الاقتصادية والعلمية؛ التي تجلت من خلال قدرتها على تقديم الحلول الناجعة لمختلف الآثار السلبية الناتجة عن نمط الحياة العصري؛ كاستنزاف التنوع البيولوجي، وندرة المياه، وتناقص الثروة السمكية والحيوانية، وقلة المحاصيل الزراعية وانتشار الأمراض، وعلى منح قطاع التجارة نماذج إبداعية متميزة قابلة للحماية بموجب أنظمة الملكية الفكرية؛ كالموسيقى التقليدية، والأساطير والأغاني الشعبية، والأزياء، والدلالات والرموز الثقافية والدينية.

إنَّ تزاوج القيمة المعنوية والاقتصادية والعلمية للمعارف التقليدية، جعلها محل أطماع مخابر البحوث والشركات الكبرى، التي رأت فيها مصدر مجاني لتكوين الثروة وإنعاش تجارتها، ولم تسلم من سطوتها الكثير من عناصرها؛ حيث استخدمت الموارد الوراثية، والمعارف المرتبطة بها، كأساس للعديد من الاختراعات، والأصناف النباتية الجديدة المسجلة دون موافقة مالكيها، أو حتى الاعتراف بدورهم المحوري في التوصل لهذه الابتكارات، ودون تقاسم الأرباح والمنافع العائدة من استغلاها. كما سُجلت الكثير من التعابير والرموز والدلالات الثقافية، كعلامات مرتبطة بسلع وخدمات خاصةً في مجال الأزياء والحلي والسياحة، والسيارات، دون ترخيص من المجتمعات المالكة لها، أو مشاركتهم عائدات هذا الاستخدام الذي ينطوي على أذى معنوي كبير؛ لأنَّه لا يقتصر فقط على سلب القيمة الاقتصادية لهذه الشارات، بل يمتد لقيمتها المعنوية التي تصل حد القداسة أحيانا.

ولم تسلم منتجات الحرف التقليدية، والإبداعات الفنية والموسيقية، التي تشكل عناصر هامة للمعارف التقليدية، من عمليات السطو التي قامت بها هذه الشركات؛ حيث تتعرض الكثير من منتجات الحرف التقليدية، التي تعتمد على مواد أصلية، ومهارات ومعارف يدوية، وزخارف ورسومات، وألوان ذات دلالات ثقافية ودينية للمجتمعات المالكة لها، قلنا تتعرض لماكينة الاستنساخ الصناعي، والتي لا تقضي فقط على القيم المرتبطة بعملية إبداع هذه المنتجات، خاصة قيمة العمل الجماعي، بل تقضي أيضا على مصدر قوت الحرفيين؛ لأنَّ مُنتجاتها المُستنسخة، توزع على أوسع نطاق وبأسعار منخفضة، أما الإبداعات الفنية والموسيقية، فتسوق تجاريا كمصنفات تُسْنَد أبوتها الفكرية لغير مُبدعيها، ودون مُوافقتهم أو مشاركتهم عائدات هذا الاستغلال.

عمليات السطو التي طالت مكونات أساسية للمعارف التقليدية، ومعاملتها كسلع مادية بحتة وتجريدها من قيمتها المعنوية، وصعوبة جمعها وتوثيقها؛ لأنَّ أغلبها شفوية محفوظة في ذاكرة المُسِّنين، الذين برحليهم ستدفن معهم مدونة تراثية كاملة، وكذا افتقار مُبدعيها للإمكانيات المادية والبشرية والتكنولوجية لاستثمارها بما يحقق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، كلها أسباب جعلت المجتمعات المالكة لها تعي أنّها على وشك فُقدان مورد تنموي بالغ الأهمية، وعامل حاسم من عوامل بقاءها واستمرارها مُحَافِظَةً على خصوصيتها الثقافية والحضارية، وهو ما دفعها والدول التي تنتمي إليها للبحث عن إطار قانوني من شأنه صون وحماية هذه المعارف.

وقد تبلورت بوادر الاعتراف بالمعارف التقليدية على المستوى الدولي دون توفير إطار شامل لحمايتها في نصوص اتفاقيات عديدة، كالاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003، واتفاقية حماية وتعزيز أشكال التعبير الثقافي لسنة 2005، واتفاقية التنوع البيولوجي لسنة 1992، وبروتوكول ناغويا الملحق بها، وإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، ولا تزال الجهود متواصلة على مُستوى المنظمة العالمية للملكية الفكرية من أجل إقرار صك دولي للحماية في إطار المنظومة القانونية للملكية الفكرية، وهو ما يتطلب إعادة تكييف القيم والمبادئ التي تقوم عليها هذه النُظم لتتماشى مع طبيعة المعارف التقليدية الجماعية والمؤبدة من جهة، ومع مطالب المجتمعات المالكة لها في نسبتها إليهم، وإخراجها من نطاق الملك العام، لتتمكن من التحكم في مسألة النفاذ إليها، واستغلالها لأغراض علمية أو تجارية، ومتابعة هذا الاستغلال، مع ضمان الاشتراك في أي منافع قد تعود منه.

أما على المستوى الوطني، فقد سنت بعض الدول قانون خاص لحماية المعارف التقليدية وأطلقت مبادرات لتوثيقها وصونها، فيما لا تزال حمايتها في دول كثيرة مُجزأة بين عدة أنظمة قانونية، حيث نجد المعارف التقليدية المرتبطة بالموارد الجينية محمية في قانون الموارد البيولوجية، أما أشكال التعبير الثقافي التقليدي فهي محمية بموجب قانون التراث، وقانون المؤلف، رغم عدم فاعلية هذه الأنظمة في توفير الحماية الكافية لجميع مكونات هذه المعارف.

فإقرار اتفاقية دولية، وتشريعات وطنية لحماية المعارف التقليدية، في إطار الملكية الفكرية شكّل ولا زال مطلبًا أساسيًا للمجتمعات المالكة لها، والاستجابة له ستشكّل تحول جذري في منظومة الملكية الفكرية؛  لأنّه سيتم الاعتراف بالحق الاستئثاري الجماعي والمؤبد للمجتمعات، في ملكية معارفهم التقليدية والمشاركة في القرارات التي تتعلق باستغلالها، وهذا ما سيعيد الاعتبار لمنظومة التراث باعتبارها رافعة تنموية وثقافية واقتصادية، وفي نُظم حمايتها والتقسيم التقليدي لمضمونها الذي لم يأخذ بعين الاعتبار معرفة المجتمع المُبدع لها، وحقه في الحفاظ على تقاليده وعاداته ومعارفه ومهاراته التي تجسد هويته الثقافية والاجتماعية والعقائدية، وفي الحصول على حق استئثاري جماعي في استغلالها  والحصول على منافع من هذا الاستغلال، وبالتالي إخراجها من نطاق الملك العام، وفي هذا السياق جاء المصنف الجماعي الموسوم ب” المعارف التقليدية وحمايتها في إطار الملكية الفكرية” بمبادرة  كريمة من طرف مخبر القانون والتكنولوجيات الحديثة لجامعة مولود معمري (تيزي وزو)، الجزائر، للتعريف بهذه المعارف عن طريق عرض نماذج عنها، وتسليط الضوء على وضعها التشريعي وأهميتها الاقتصادية، أملين أن يلقى القبول والترحيب من الباحثين في هذا المجال، وأن يكون مُعينًا ثمينًا لهم في مسيرتهم العلمية.

                                                      الدكتورة: أيت تفاتي حفيظة

                                              كلية الحقوق والعلوم السياسية

جامعة مولود معمري- تيزي وزو- الجزائر.