تفصيل

  • الصفحات : 643 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2021،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-181-4.

الإنسان هو الكائن العاقل الباحث عن الحقيقة، وبقدر ما يقترب منها تتحقّق ماهيته العاقلة، وخلافته الحقيقيّة في الأرض، والبحث العلمي أرقى أنواع هذا النشاط، حيث الدّقة والتّنظيم والموضوعيّة، إنّ العلم أنبل صنعة إنسانيّة على الإطلاق، حيث ديمقراطية الفكر، ووسيلة للتّواصل والاتّصال بين الإنسان وأخيه الإنسان عبر التّاريخ، ذلك لأنّ قصّة العلم الإنسانية شارك في إنتاجها كل النّخب العلميّة العالمة المتناثرة عبر الحضارات الإنسانيّة المتعاقبة.

وعليه فالتاريخ الحقيقي للإنسانية هو تاريخ العلم، وليس ظهور الامبراطوريات واختفائها،أو إشعال الثورات وإخمادها،والعلم والحضارة ظهرتا بشكل متزامن جنبا إلى جنب، متلازمتان في الحضور والغياب، يدوران وجودا وعدما، فمن الحضارات الشرقيّة القديمة التي ارتبط فيها العلم بالاحتياجات العمليّة، إلى الحضارة اليونانيّة التي أبدعت العلوم الصوريّة والفلسفة، مرورابالحضارة العربيّة الإسلاميّة التي كان العلم فيها الدّعامة الأساسيّة بعد الدّين، وجاءت حضارة علميّة بامتياز، وحديثا فإنّ الثورات العلمية الكبرى هي التي صنعت الحضارة والمدنيّة الأوروبيّة الحديثة. أمّا الحضارة المعاصرة فهي أغنى حضارات الإنسان علوما وتكنولوجيّة، لأنّ ما تحصّلت عليه البشريّة من معارف علميّة في القرن العشرين، يتجاوز ما أبدعته البشريّة خلال تاريخها الطويل، وعرف القرن العشرين أعظم الثّورات العلميّة وهي ثورة الكوانتم والنسبيّة. وأصبحت قوة الإنسان المعاصر تكمن في التّزاوج بين العلم والتقنيّة.

شكّلت المعرفة العلميّة-باعتبارها أنجع وأنجح مشروع ينجزه الإنسان- عقل الإنسان المعاصر وواقعه وأصبحت موضوعا لفلسفة العلم، التي تنظر للعلم كفاعلية متطورة متناميّة باستمرار، وليس كمشروع مكتمل الانجاز يتفاعل مع باقي العناصر الثقافية الحضارية الأخرى. وصارت فلسفة العلم وتاريخه أكثر الفلسفات فهما وشموليّة للإنسان.

غير أنّ التّشويه الايدولوجي الذي غذّاه الاستعلاء الغربي، جعل قصّة العلم الإنساني صنعة غربيّة أوروبيّة خالصة، كانت مع المعجزة الإغريقيّة قديما ولم تظهر إلاّ مع الحضارة الأوروبيّة الحديثة، وإن كان للأمم الأخرى إنجازات ما، فهي لا ترقى إلى مستوى الإبداع العلمي. وكأنّ هذه الأعراق معوقة ذهنياوعاجزة على الإنتاج العلمي. لهذا كان التأريخ الأوروبي للعلم وفلسفة ومنهجه عند المحدثين والمعاصرين تأريخا أيديولوجيًّا، ينسب الإبداع العلمي والمنهجي لذاته فقط.

لسنا بصدد الدفاع عن هذه الأطروحة وتقديم الحِجاج لإثباتها، ولا لتفنيدها ودحضها وإبطالها لإثبات نقيضها باعتبارها الحقيقة وكلّ ما سواها زعم باطل، فالطرح الموضوعي يقتضي منّا دراسة عميقة لتاريخ العلم من خلال كلّ مراحله المتصلة، وإعطاء كلّ مرحلة تاريخية حقّها، فكلّ مرحلة لها خصوصياتها التي تنفرد بها عن غيرها، ولكنّها لا تنفصل عن باقي المراحل الأخرى، فكلّ حلقة من تاريخ العلم تتزود بالانجازات العلميّة السّابقة، وهي بدورها غذاء للمراحل اللاّحقة، وهكذا يبقى العلم فاعليّة إنسانية متناميّة باستمرار كما يؤكِّد مؤرخو العلم. والتّراث العلمي العربيالإسلامي حلقة أساسية من حلقات هذا تطوّر الفكر العلمي، ملأ الخواء الفكري خلال العصور الوسطى، اسْتعرب خلالها العلم، واسْتعلم خلالها العرب، وأصبحت اللّغة العربيّة هي لغة العلم والحضارة في العصور الوسطى، والأداة المثلى للتفكير والتعبير العلمي الدّقيق.

شكّل العلم العربي تحولا هامّا في تاريخ العلم على المستويين المعرفي والمنهجي، وانتقل الفكر من الفلسفة الطبيعيّة اليونانيّة القائمة على التّأملات الميتافيزيقية، والمتعارضة مع الخطاب العلمي الحديث بشكل نهائي، إلى محاولة تفسير الظواهر الطبيعيّة بعناصر ماديّة خالصة وبعمليات طبيعيّة بحتة من خلال جمع الشّواهد ووضع الفروض وإقامة التّجارب للتحقق منها. ولمّا ينصرف العقل عن التأملات الميتافيزيقيّة ويتّجه نحو الظّواهر الطبيعيّة ويدخل في حوار مباشر معها، من أجل فهمها وإدراك حقيقتها والكشف عن العلاقات القائمة بينها والاستفادة منها يكون قد انتقل إلى مرحلة المعرفة العلميّة أي انتقل من اللاعلم أو ما قبل العلم إلى دائرة العلم.

إذا كان المنهج العلمي أهم أدوات العالم، وأنجع أداة وأقوى وسيلة امتلكها الإنسان لفهم الكون، والتعاطي مع الواقع وحلّ مشكلاته، والعنصر الأساس في بناء المعرفة العلميّة(لأنّ الطريقة أو المنهجيّة التي اكتشفت بها الحقائق العلميّة لا تقل أهميّة عن تلك الحقائق ذاتها) فإنّ هذه الدّراسة ركّزت بالأساس على أسلوب البحث العلمي في الطبيعيات عند علماء العرب الأوائل.

وجاءت هذه المقاربة التحليليّة للكشف عن المنهج العلمي التّجريبي عند أحد النّماذج العلميّة التي عرفتها الحضارة العربيّةالإسلاميّة وهو الحسن بن الهيثم(354-430ه)_(965-1039م)، وأحد العلماء القلائل في علم المناظر والبصريات عبر العصور. وذلك من خلال المقاربة والمقارنة بين المنهج العلمي الذي تبناه ابن الهيثم وبين المناهج اليونانيّة الاستنباطيّة، من جهة، وبين المناهج العلمية الحديثة من جهة أخرى. وما دفعنا لهذه المقاربة، هو أنّ الدراسات الابستيمولوجيّة عندما تتعرض للمنهج العلمي وتاريخه وخاصّة المنهج الاستقرائي، فإنّها تتعرض لدراسة المناهج اليونانيّةبما فيها المنطق الأرسطي وقياساته باعتباره خير تعبيرعن الرّوح اليونانيّة. وتُردفها بتلك الدراسات النّقديّة لهذه المناهج، لتنتقل مباشرة إلى رواد المنهج العلمي الحديث في القرن السابع عشر مع فرانسيس بيكون(1562-1626م) صاحب”الأرغانون الجديد” الذي أسّس من خلاله المنهج التجريبي بخطواته، منكرا ما للمنطق والمنهج الأرسطي من قيمة علمية في الكشف عن قوانين الطبيعة. ورنيه ديكارت (1596-1650م) الذي كان كتابه “مقال في المنهج” عبارة عن”ثورة كوبرنيكية” في الفلسفة. دون المرور بمرحلة هامّة من تاريخ العلم في العصور الوسطى، وهي مرحلة الحضارة العربيّة التي ازدهرت فيها العلوم الطبيعيّة والرياضيّة فضلا عن العلوم الشّرعيّة بناء على مناهج علميّة خاصّة ومتميّزة عن سابقتها اليونانيّة، تلك التّجربة التي عمّرت ثمانية قرون أو يزيد، قبل ظهور النّهضة الأوروبيّة الحديثة.

ولنا أن نتساءل: ألم يكن ابن الهيثم العالم الرياضي والفيزيائي الفذ وعالم البصريات والفلك وفيلسوف العلم، وصاحب التّجارب و”الاعتبارات” أكثر معرفة بالمنهج العلمي تنظيرا وممارسة من إمام المنهج التجريبي في العصر الحديث فرنسيس بيكون؟ ألم يجمع ابن الهيثم في منهجه بين منهج العلوم التعليميّة(الرياضيات)، ومنهج العلوم الطبيعيّة(الفيزياء) كما هو الحال في المناهج العلمية الحديثة والمعاصرة، ويتجاوز بذلك كل من بيكون ومل-الذين كانوا فلاسفة ولم يكونوا علماء أصلا- بمراحل رغم أنّهم عاصروا الثورة العلمية الحديثة؟. ألا تدل تلك الصورة التي جمعت بين قطبي الفيزياء غاليلييو رائد الفكر العلمي الحديثروحا ومنهجًا وممارسة.وابن الهيثم أكبر عالم في البصريات في العصور الوسطى على أنّ ابن الهيثم كان اقرب إلى روح العلم الحديث مقارنة بعلماء اليونانوبكثير من فلاسفة العصر الحديث؟ ولمّا تحدّث الجابري عن تلك القطيعة الابستيمولوجية التي أحدثها غاليلييو مع الفكر القديم، والعلم الأرسطي، تساءل هل قام غاليلييو بقطيعة مع ابن الهيثم؟ كانت إجابته بالنفيّ طبعا.

ألم يقم ابن الهيثم بثورة علمية في علم المناظر وفي الفيزياء على غرار تلك الثورات العلمية التي عرفها تاريخ العلم كما أكد رشدي راشد؟ ألم يصنف ريشنباخ في كتابه “نشأة الفلسفة العلمية” ابن الهيثم في قائمة العلماء التجريبيين رغم أنّه عاش في عزّ العصور الوسطى التي يعتبرها الغرب ظلام في ظلام؟

تبعا لذلك، تكتسي هذه المقاربة أهمية بالغة على المستويين الابستيمولوجي والميتودولوجي خاصّة، كما أنّ هذه الدّراسة تحاول تقديم مقاربة بين فلسفة العلم ومنهجه عند ابن الهيثم وفلاسفة العلم القدامى والمعاصرين، وبالتالي فهي تسلط الضوء على جوانب من العقل العلمي العربي وبالتالي معرفة الثقافة العربية الاسلامية خاصة في بعدها العقلي والعلمي، ومحاولة فهم تاريخ العلم بين القرن التاسع والقرن السابع عشر، والكشف عن العلاقة بين العلم العربي والعلم الغربي الحديث.

والإشكاليّة الرئيسة التي تتمحور حولها هذه المقاربة هي قيمة العمل الميثودولوجي الذي قدّمتهإحد النماذج العقلية العلمية العربية، وهو الحسن بن الهيثم العالم والفيلسوف، ودوره في تأسيس تصور علمي للمنهج التجريبي الاستقرائي على مستوى التنظير والممارسة، فقد قامت بحوثه وكشوفه في البصريات والضوء على أساليب علميةقريبة جدّا من المنهج العلمي الحديث، أوحتى المعاصر، بعد أن تجاوز المناهج الاستنباطيّة العقليّة اليونانيّة وتجاوز تصوراتها لمفهوم الطبيعة والعليّة والقانون العلمي. واستثمر المنهج الاستقرائي الذي تأسّس في دوائر العلوم الشرعيّة واللغويّة(علم الفقه والأصول، والحديث واللغة) في دراسة الظواهر الفيزيائيّة. أي كيف جمع في عمل علمي ميتودولوجي بين الأصيل والدخيل وبين التّجربة والعقل وبين الاستقراء والاستنباط  والقياس مساهماً في إنتاج معارف علمية فيزيائيّة وفلكيّة وبصريّة، واضعا علم المناظر على أسس علميّة. وكان عنوان هذ الكتاب هو”المنهج العلمي عند علماء العرب الأوائل، الحسن بنالهيثم نموذجا”

طرحنا جملة من الفرضيات لعلى أبرزها:

إنفراد العقل العلمي العربيبخصائص جعلته أكثر أصالة واستقلالية عن نظيرتهاليوناني.

المنهج العلمي الهيثمي أقرب إلى روح العلم الحديث أو المعاصر ممارسة وتنظيرًا.

ابن الهيثم وسيط بين أرسطو وغاليلييو، وبين بطلميوس وكبلر، وبين أرخميدس ونيوتن.

شكّلت الثورة العلميّة الهيثميّة براديغما ترك آثاره في الأجيال العلميّة الحديثة.

اعتمدنا المنهج التحليلي المقارن بحكم تناسبه مع طبيعة الموضوع، لأنّ تحديد مفهوم العلوم الطبيعية ومنهجها عند علماء العرب الأوائل يستلزم مقارنتها بنظيرتها اليونانية، كما أنّ تحديد خصائص المنهج العلمي عند ابن الهيثم وقيمته ومكانته يقتضي منا مقاربته بالمناهج اليونانية السابقة، والمناهج الإسلامية(المنهج الاستقرائي عند علماء أصول الفقه) المعاصرة له، والمناهج الأوروبيّة الحديثة اللاحقة به، ومعرفة أهمية الإصلاحات العلميّة لابن الهيثم وقيمةالثورة العلميّة الهيثميّةوأثرها، ومعرفة مدى تجاوزه لمعارف السابقين…إلخ كل ذلك يقتضي منّا المقابلة والمقارنة بين النّظريات العلميّة لابن الهيثم في الضّوء والبصريات، ونظيرتها الإغريقيّة  من جهة، ومن جهة أخرى تتبع أثر النّظريات الهيثميّة ومنهجه في الأجيال العلميّة اللّاحقة له على مستوى العالم الإسلامي والعالم الأوروبي اللّاتيني والحديث.

لم تكن هذه الدراسة الأولى من نوعها التي تتناول هذه القضيّة، فقد سبقتها دراسات علمية لعلى أهمها كتاب”الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية بجزئيه لمصطفى نظيف الذي طُلع في (1942/1943)، وكتابالحسنبنالهيثموأثرهعلىالمسيرةالعلميةالحديثة لبشار محمد سعيد قاسم ووعلي يوسف فرح (1984) وكتاب موسوعة العلوم العربية لرشدي راشد(1997) وكتابالحسنبنالهيثمعالم الهندسة الرياضية علي عبد اللطيف(1993) وكتاب التراث العربي فؤاد سزكين (2008) وكتاب “فكرة المنهج التجريبي عند ابن الهيثم” لمسعود طيبي(2003)، التي تناولت المحيط الثقافي والاجتماعي لابن الهيثم، ومفهوم الطبيعة ومنهج دراستها عند أرسطو والمسلمين، والروح العلميّة لابن الهيثم ونزعته الحسية، ومفهومه للطبيعة ومنهجه العلمي ومراحله.. ومقارنته بالمناهج اليونانيّة والمناهج الحديثة. ومذكرة دكتوراه دولة في الفلسفة لبوكرلدة زواوي والموسومة ب”الأسس التجريبية لنظرية المعرفة عند الحسن بن الهيثم”(2003-2004). التي تناولت مصادر المعرفة عند ابن الهيثم وفلسفته التجريبيّة، ونظرية المكان والضّوء عنده، والمنهج الرياضي وخصائص المنهج العلمي لدى ابن الهيثم(الاعتبار، الاستقراء، الأخذ بالعناصر الحسيّة والعقليّة) إلا أنّ ما تنفرد به هذه الدراسة عن سابقاتها هي الوقوف بشكل دقيق على كلّ خطوات هذا المنهج العلمي الهيثمي وخصوصياته ومواطن قوّته بحيث مكّن ابن الهيثم من تفنيد نظريات علميّة عمّرت طويلا وتأسيس نظرياته العلمية على أسلوب علمي يقترب كثيرا من الأسلوب العلمي الحديث، ومكانة هذا المنهج مقارنة مع المناهج اليونانيّة، والمناهج العلميّة الحديثة.

رغم الكتابات والمؤلفات العديدة التي تناولت هذا الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر، ورغم أنّ الموضوع قد يبدو بسيطا مستهلكا لأوّل وهلة، إلا أنّ الوقوفحقيقة العلم العربي وخصوصياته لا يزال في بدايته، ولا يزال يحتاج إلى دراسات ابستيمولوجيّة وميتودولوجيّة متخصصة، ولمّا حاولنا تحديد خصائص المنهج العلمي لابن الهيثم ومقاربته بالمناهج اليونانيّة العقليّة أوالأوروبيّة الحديثة، والمقابلة بين ابن الهيثم وفلاسفة العلم المعاصرين أدركنا أنّ ذلك ليس بالعمل اليسير، لأنّ ذلك يقتضي الإلمام التام بالتراث العلمي لابن الهيثم العالم الموسوعي الذي جمع بين تخصصات مختلفة رياضيّة وفيزيائيّة وفلكيّة وبصريّة، ومقابلته بغيره من العلماء السّابقين له واللّاحقين به، وحتى بمناهج فقهاء الإسلام وعلماء الحديث واللّغة المعاصرين له…وهذا المشروع الضّخم يحتاج إلى جهد كبير وزمن طويل. وليست كل مؤلفات ابن الهيثم المحّققة متوفرة، ناهيك عن ما ضاع منها أو لم يٌحقق(مثل الكثير من المخططوطات العلمية العربية)، فقد أكّد الكثير من المفكرين أنّ مصنفاته وكتبه ورسائله قد نيفت على المئتين ضاع أكثرهاوإذا علمنا أنّ ابن الهيثم لم يٌفرد مقالا خاصّا بالمنهج العلمي، فحديثه عن المنهج جاء متفرقا بين مؤلفاته مثل كتابه”المناظر” و”الشّكوك على بطلميوس” ورسالة في الضّوء”…فمن المحتمل جدّا أن تكون لابن الهيثم رسالة خاصّة بالمنهج، أو على الأقلّ مقالة يخصّص فيها جزءا مستقلا لتحديد منهجه، من بين مؤلفاته الضائعةخاصّة وأنّنا لاحظنا كيف أنّه يركز على مسألة المنهج، ويولي له أهميّة بالغة.

إنّ فهم الكتابات العلمية المتخصّصة لابن الهيثم ليس متيسر إلاّ لعالِم عارِف بالتّخصصات العلميّة التي كتب فيها، لهذا ركّزنا على تلك المقدمات الموجزة التي يستهل بها مصنفاته، والتي تكشف عن منهج وفلسفة العلم عند ابن الهيثم. ولأنّه كتب بلغة ومصطلحات نحتها بنفسه، أو استمدها من ثقافة عصره واعتمد الأدوات والمناهج التي سادت في بيئته العلمية، لأنّ كلّ إبداع علمي وفني وفلسفي وأدبي مهما كان فرديّا، فهو يرتبط بالشروط الاجتماعية والثقافية والحضارية التي نشأ فيها، لهذا لا يمكن فهم المشروع العلمي العربي عامةوالهيثمي خاصة إلاّ في سياقه الثقافي والحضاري الذي ظهر فيه. خاصّة إذا علمنا أنّ ابن الهيثم ظهر في ذروة الحضارة العربيّة والإسلاميّة حيث الابتكار والإنتاج العلمي الغزيروالأصيل، وقد يكون أحد العلماء الذين عبّروا بصدق عن هذه الحضارة العلميّة.

كلّ ذلك يستدعي منّا قراءات عميقة ومتنوّعة لكلّ ما له علاقة بإنتاج ابن الهيثم العلمي، وقراءات متعدّدة لمؤلفات العالم ذاته، مع التّدقيق والتّركيز الشديدين، لأنّه كتب بأسلوب علمي قديم قد يختلف عن الأسلوب العلمي الحديث. يضاف إلى جانب ندرة المّادة المعرفيّة، لأنّ الكتابات حول ابن الهيثم تركّز على إبداعات ونظريات ابن الهيثم كثيرا ولكنّها لا تولي اهتماما كبيرا للمنهج الذي كان سببا لكل ّتلك الإبداعات إلاّ نادرا، وهو مقصدنا في هذا العمل…كل ّذلك وغيره عسّر من مهمتنا.

ورغم ذلك اجتهدنا على قدر طاقتنا البشريّة المحدودة والمتواضعة، مستمتعين بلذة المعرفة وحلاوتها، طالبين العون من الله وحده مسترشدين بتوجيهات أساتذتنا الفضلاء، مستأنسين بمؤلفات العالم ذاته والدّراسات والكتابات التي تناولته بالبحث والدّراسة لكي نحدّد خصائص منهجه العلمي، لعلّنا نأتي بالجديد والأحسن والأفضل فالكمال مطلوب ومرغوب لذاته كما أكد ابن الهيثم ذاته إلاّ أنّ ذلك ليس في متناول النّفس البشريّة الموصوفة النقص والتّقصير، فضلا عن العوارض التي تقف حاجزا عن بلوغ المقاصد.

قسّمنا هذا العمل مقدمة وثلاث فصول وخاتمة:

أوجزنا في المقدمة التعريف بالموضوع وطرحه في سياقه المعرفي والتاريخي.

خصصنا الفصل الأوّل المعنوّن ب” العقل العربي  من التجريد إلى التجريب لتحديد خصائص العلوم الطبيعيّة ومنهجها عند علماء العرب باعتبارها انتاجات علميّة أصيلة تتميز عن علوم اليونان في الموضوع والمنهج والنتائج. وتم تفريعه إلى مبحثين رئيسين:

عنونا المبحث الأول ب”الشبكة المفاهيمية والجذر التاريخي” حاولنا فيه ضبط المفاهيم الرئيسة التي تتمحور حولها الأطروحة وهو مصطلح “المنهح” ومصلح “الاستقراء”، حددنا مفهومها لغة واصطلاحا، وقمنا بقراءة كرونولوجية للمنهج العلمي.

وعنونا المبحث الثاني ب”أصالة العقل العلمي العربيحددنا فيه أبرز خصائصالعقل العلمي العربي خلال الحضارة العربيّة الإسلاميّة وكيف أنّ خطابه العلمي كان أقرب إلى مفهوم العلم الحديث مقارنة بنظيره اليوناني الميتافيزيقي. وكيف انتقل الفكرمن التّجريد إلى التّجريب،ومن المنهج العقلي الاستنباطي الصِّرف إلى المنهج التجريبي الاستقرائي(أو الاستقرائي الاستنباطي) وتحرّر وابتعد عنالتفكير اليوناني العقلي واقترب كثيرا من الخطاب العلمي الحديث.

أمّا الفصل الثاني وهو محور أطروحتنا والمعنوّن ب” المنهج العلمي عند الحسن بن الهيثم“أبرزنا فيه خصائص المنهج العلمي الهيثمي، مركزين فيه على مواطن القوّة التي مكّنته من تفنيد الكثير من النّظريات السّابقة، وتأسيس نظرياته العلميّة التي عمّرت حتّى عصر الثورة العلميةومقارنته بالمناهج اليونانيّة القديمة والأوروبيّة الحديثة وحتى المعاصرة. وقسّمنا هذا الفصل إلى مبحثين اثنين:

عنونا المبحث الأوّل ب”خصائص المنهج التجريبي الاستقرائي عند ابن الهيثم” حدّدنا فيه المخطّط العلمي لابن الهيثم، بداية من تفنيده للنّظريات العلميّة السابقة والكّشف عن مواطن الخطأ فيها، ثمّ دخوله في حوار مباشر مع الطّبيعة انطلاقا من الملاحظة الإشكاليّة والفرضيات العلميّة إلى تجاربه و”اعتباراته” لاستنطاق الطّبيعة والكّشف عن قوانينها، وركّزنا كثيرا على تجاربه العلميّة وأعطينا أمثلة كثيرة عنها مع ذكر الرسومات البيانيّة والأشكال التي توضِّح ذلك، وكيف عمّم قوانينه على كل ِّالظواهر المتشابهة أو حتّى ظواهر أخرى، وجمع بين الاستقراء والاستنباط والتّمثيل، وكيف أصبحت الرياضيات أداة للكّشف والبرهنة على الحقيقة إلى جانب الملاحظة والتّجربة، أي التآزر بين الرياضيات والفيزياء لفهم الظّواهر الطّبيعية، وكيف أصبحت الرياضيات لغة للقوانين العلمية الطبيعية، وهذا ما لم يستسيغه التّصور اليوناني سابقا، إضافة إلى استخدامه للأجهزة العلميّة باعتبارها عنصرا هامّا في البحث العلمي.

وخصّصنا المبحث الثاني المعنون ب”الرّوح العلميّة الهيثميّة” للحديث عن تلك الرّوح العلميّة الهيثمية التي كانت أقرب إلى روح القرن العشرين رغم أنّه مات في القرن الحادي عشر، حيث الشّك الفلسفي والرّوح النقدية والمنهجية الصّارمة والنّزاهة والموضوعيّة والنسبيّة والخيال العلمي والعبقريّة المتميزة والدّقة العلميّة…يشهد على ذلك إبداعاته العلميّة…وهو أيضا صاحب القيم الأخلاقيّةالسّاميّة، لأنّه نذر نفسه لطلب الحقيقة الموصل إلى الله تعالى، وكان نموذجا للباحث العالم حيث العمل الدّؤوب والصّبر والمثابرة والأمانة العلميّة والاستقلاليّة في التفكر.

وفي الفصل الأخير والمعنوّن ب”ابن الهيثم وسيط بين أرسطو وغاليليو“أبرزناالمكانة والقيمة العلميّة لابن الهيثم على المستويين الابستيمولوجي والميتودولوجي في تاريخ العلم، وكيف أنّه شكّل مرحلة وسطى بين أرسطو وغاليلييو، وبين بطلميوس وكبلر، وبين أرشميدس ونيوتن وقسمناه هذا الفصل إلى مبحثين:

عنونّا المبحث الأوّل ب”القيمة العلميةللمنهج العلمي الهيثمي” تناولنا فيه المكانة العلميّة للمنهج العلمي عند ابن الهيثم، وذلك من خلال مقارنته بالمناهج اليونانيّة الاستنباطيّة، من جهة، والمناهج العلميّة الحديثة ولاحظنا كيف أنّه منهج يقترب كثيرا من المنهج العلمي الحديث.

أمّا المبحث الأخير والمعنوّن ب”أثر الثورة العلمية الهيثمية في الأجيال العلمية اللاحقة” فخصّصنا للحديث عن تأثير”البراديغم الهيثمي” في الأجيال العلميّة من بعده على المستويين الابستيمولوجي والميتودولوجي وفي العالمين العربي والغربي(اللّاتيني الوسيط والأوروبي الحديث).

وأخيرا توّج هذا البحث بخاتمة استخلصنا فيها أهم ّالنتائج، لعلّى أبرزها كان التأكيد على أنّ علم الطبيعة عند علماء العرب علم أصيل يختلف في الموضوع والمنهج والنّتائج عن نظيره العلم اليوناني. وإبراز الدّور الكبير لابن الهيثم في اكتشاف المنهج العلمي التّجريبي الاستقرائي وتطبيقه على الظّواهر الفيزيائيّة والبصريّة، والجمع بين الاستقراء والاستنباط والتّمثيل، والدّمج لأوّل مرّة بين الرِّياضيات والفيزياء. وتأسيسه لتيار علمي(براديغم) ظلّ قائما حتّى عصر الثورة العلميّة أو ما بعدها.

لعلّنا بهذا البحث المتواضع أن نفتح آفاق جديدة أمام أجيالنا الباحثة للدخول في حوار مباشر مع تراثنا العلمي الذي يمثّل بحقّ أساس أصالتنا وثقافتنا المتميّزة والغنيّة، وإحدى مكوّنات العقل العربي وربّما كان روح حضارتنا وجوهرها الحقيقي، فقد كان العلم خير معبر عن قوة الأمم، والجهل دليل على ضعفها وتخلفها. نفتح أبواب البحث من أجل دراسة العلوم العربيّة ذاتها معرفيًا ومنهجيًا، وليس دراسات حولها، لعلّى ذلك يبعث فينا روح البحث العلمي، وروح النّهضة العلميّة، ونعود إلى حلبة السِّباق والمنافسة الحضاريّة كما كنّا سابقا وما ذلك على الله بعزيز.