تفصيل

  • الصفحات : 209 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-510-2.

الــمــقـــدمـــة:

لا يتضمن مصطلح إبيستيمولوجيا” في اللغة الفرنسية على معنى لتخصص فلسفي معين تكون معالمه محددة جيدًا. فهو مصطلح مأخوذ من اللغة الإنجليزية. ويستعمله الفلاسفة الفرنسيون بمعنى مختلف عن المعنى المستعمل دائمًا في اللغة الانجليزية. يُنسب إبداع مصطلح إبيستيمولوجيا إلى جيمس فريدريك فيرير (1808-1864). James Frederick Ferrier  في كتاب معاهد الميتافيزيقيا (1854)[1] Institutes of Metaphysics، إذ عارض هذا الفيلسوف _الذي كان على إطلاع واسع بفكر باركلي_ نظرية المعرفة بالانطولوجيا وبنظرية الجهل (Agniology). ورفض فيريير أن ينسب وجودًا مستقلًا إلى المادة. ومن هنا تأتي الأهمية الفلسفية الأساسية، فبالنسبة له تُفهم الإبيستيمولوجيا ” على أنها نظرية للمعرفة في الفعل.

في التقاليد الفلسفية الإنجليزية، أخذ مصطلح إبيستيمولوجيا لاحقًا المعنى الاصطلاحي لنظرية المعرفة، بالمعنى الكانطي لنظرية أسس المعرفة وحدودها. ومن ثم فإن الابيستيمولوجيا هي حجر الزاوية في الفلسفة النظرية، وتسبق مباشرة فلسفة العلوم، التي هي مصطلح تم الترويج له ونشره لأول مرة كتعبير اصطلاحي من قبل الفيلسوف الانجليزي ويليام وويل William Whewell,. ( 1794م _ 1866م) في كتاب فلسفة العلوم الاستقرائية[2] مرارًا وتكرارًا منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر. اعترض الفلاسفة الفرنسيون على هذا التمييز بين الابيستيمولوجيا وفلسفة العلوم. في كتاب الهوية والواقع (1908)، إذ يشهد إميل مايرسون Émile Meyerson على هذا الموقف بلغة سلسة: “ينتمي العمل الحالي، من خلال المنهج، إلى مجال فلسفة العلوم، أو الابيستيمولوجيا، وفقًا لمصطلح تقريبي بدرجة كافية ويميل إلى أن يصبح متداولا”[3]. يقتبس  اندري لالاند هذه العبارة من مايرسون في معجمه الشهير: موسوعة لالاند الفلسفية  1926، لكنه يتعامل بطريقة تختلف عن استخدام اللغة الإنجليزية للمصطلح، الكلمة الانجيليزية ” ابيستيمولوجيا” epistemology  مستخدمة بشكل متكرر عكس اشتقاقها اللغوي الذي يحدد ما نسميه “نظرية المعرفة”. لذلك في الفرنسية، يجب أن يقال بشكل دقيق فقط أنها فلسفة العلوم والتاريخ الفلسفي للعلوم. إذن على هذا النحو يستخدم لالاند مصطلح الابيستيمولوجيا عكس استخدامه في اللغة الإنجليزية تمامًا: فالابيستيمولوجيا ليست سوى فلسفة العلوم. ويجب تمييز فلسفة العلوم، بشكل متناسب، عن نظرية المعرفة

إن الجو السجالي الذي لطالما استخدم فيه الفلاسفة الفرنسيون مصطلح “إبيستيمولوجيا” يستحق الاهتمام. إذ لا يمكن الحديث عن الابيستيمولوجيا في فرنسا كما يمكن الحديث عن تاريخ علم النبات أو تاريخ المنطق. في فرنسا لم تحدد الابيستيمولوجيا قط تخصصًا ذا ملامح محددة جيدًا نسبيًا على نطاق عالمي، والتي كان من الممكن أن تتخذ طابعًا خاصًا في سياق محلي أو ثقافي. ولم تتحرر الابيستيمولوجيا في فرنسا أبدًا من الجدل الذي رافق تجنيس اسمها. لهذا السبب من المشروع أن نتحدث بالمعنى التاريخي الدقيق، عن ” الممارسة الابيستيمولوجيا في فضاء الفلسفة الفرنسية”. إن الابيستيمولوجيا الفرنسية هي اسم تقليد فكري غير متجانس يؤكد دائما _ إن لم يكن على الوحدة النظرية_على الأقل على تضامن المشاكل التي غالبًا ما تميل التقاليد الفكرية الأخرى إلى فصلها: مثل المنطق، أزمة الأسس، والفلسفة العامة للعلوم، وفلسفة المجالات العلمية الخاصة، وإلى حد ما تاريخ العلوم. إن الابيستيمولوجيا في فضاء الفلسفة الفرنسية تشبه الإسمنت الذي يبني الجسور بين مجالات البحث والتفكير من خلال انعطافات اللغة التي تؤكد أكثر الرغبة في عدم الانفصال. وهكذا فإن “الابيستيمولوجيا العامة” هي الحامل لفلسفة المعرفة والفلسفة العامة للعلوم، بينما تميل “الابيستيمولوجيا القطاعية” غالبًا إلى توحيد تاريخ وفلسفة علوم محددين.

في هذا السياق أظهر بوانكاريه في وقت مبكر جدًا اهتمامًا شديدًا بالممارسة الابيستيمولوجية، لا سيما فيما يتعلق بمشكلات فلسفة العلوم، ويشهد على ذلك تعاونه بانتظام مع مجلة الميتافيزيقاء والأخلاق  Revue de metaphysique et de morale  منذ تأسيسها، وكذا تأليفه العديد من المقالات حول “الفلسفة العلمية”، والتي تم جمعها في أربع كتب: العلم والفرضية (1902)، قيمة العلم (1905)، العلم والمنهج (1908) والأفكار الأخيرة (بعد وفاته، 1913). أصبحت هذه الأعمال، التي تتميز بوضوح العرض وسهولة القراءة، كلاسيكيات فلسفة العلوم في القرن العشرين.

وبدون تبني أي فلسفة معينة، طور بوانكاريه فكرًا نقديًا أصيلا، يركز على الطبيعة وعوامل المعرفة العلمية، والذي فيه أصر في نفس الوقت على دور التجربة والوقائع ودور عمل الفكر في تكوين النظريات العلمية. بيد أن هذه الفلسفة، التي تعكس تأمله في الرياضيات وعلاقتها بالعالم الواقعي من خلال “الفيزياء الرياضية”، مصدرها تفكيره في الهندسة، وفي تجربته الخاصة مع الهندسات اللاإقليدية.

بالنسبة إلى بوانكاريه، يفترض العلم الحتمية التي نفترضها. لها مجالها الخاص، ولا يمكنها أن تؤسس الأخلاق. الجزء الذي يبدو له الأكثر إثارة للاهتمام في فلسفة المعرفة هو الجزء المتعلق بالاختراع، والذي يكشف لنا أعمق خصائص الفكر العلمي. لا يعتقد بوانكاريه، خلافًا للمنطقين – لا سيما فريجه ورسل – أن الرياضيات قابلة للرد إلى المنطق: فالتفكير الرياضي له اتساق وديناميكية خاصة به؛ إنه ينطوي على إنشاء روابط ذات طبيعة غير منطقية تنشأ من الحدس، (على سبيل المثال، في عملية الاستقراء الرياضي).

على هذا النحو هل يمكننا الحديث عن فلسفة خاصة لبوانكاريه؟ هذا السؤال ليس له أي معنى إذا فهمنا الفلسفة على أنها “نسق” يريد أن يكون مستقلاً. إذ أن قيمة فلسفة بوانكاريه تنبع من علاقتها بالعلوم تمامًا كما يؤكد ذلك في كتاب “قيمة العلم” حسب تعبيره على حقيقة مفادها أن الواقعة العلمية تقوم على “واقعة خام”. وحتى في علاقتها بالعلوم فإن فلسفة بوانكاريه ليست نظرية ولا حتى تأملية. فمن الصعب  تمييزها عن الممارسة العلمية لبوانكاريه. إن فلسفته بالأحرى بمثابة جهاز مفاهيمي لتصنيف العلوم، جهاز مفاهيمي محكم لفهم وإدراك التماثلات والمقاربات التي يقوم بها بوانكاريه عادة، وبشكل جد مبتكر بين التخصصات. عندما يقترح أفكارًا جديدة، فهي غالبًا ما تعمل على إقامة علاقة بين أجزاء المعرفة والتي يتم التعامل معها عادة بشكل منفصل. فلسفة بوانكاريه هي ممارسة تصنيف وليست تفكيرا نظريا. فالمفاهيم الفلسفية التي يستخدمها لا تهمه في حد ذاتها: إذ يعرّفها مباشرة بالمفاهيم العلمية، كما فعل على سبيل المثال في الحكم التركيبي القبلي الذي هو مبدأ الاستقراء.

على الرغم من ضآلة تصنيف العلوم هذا، إلا أنه تصنيف فلسفي، يفترض وجود مصدرين للمعارف الترنسندنتالية للتصنيفات العلمية، هما: الفكر والتجربة. في الأعمال الفلسفية التي نشرها هو نفسه، تمسك بوانكاريه بترتيب المشاكل الثابتة. حيث يبدأ بالمشكلات التي  تأتي من الفكر وينتهي بالمشكلات التي تمنحها التجربة لنا: بكل ما يتعلق بالحساب والتحليل والهندسة والميكانيكا والفيزياء الرياضية والفيزياء التجريبية. لكن على هذا النحو الفكر والتجربة غير مهمين في حد ذاتهم بالنسبة لبوانكاريه. إنهما ليسا أسسًا، ولكنهما حدود، تسمح ببناء نظام معين. فمن ناحية، يوجد ما يأتينا من الفكر، مثل المنطق الكلاسيكي، الذي يتلخص في مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض وإمكانية تكرار العملية بمجرد اعتبارها ممكنة، بما في ذلك التفكير في نوع من الاستدلال الاستقرائي الكامل الذي يضمن لنا الإبداع. ومن ناحية أخرى يوجد ما يأتينا من التجربة، والتي تمنح قيمتها للعلم. من جهة أخرى فإن العلاقات بين التخصصات في مثل هذه المفاهيم الفلسفية تسمح لها بأن تكون  أصلية تمامًا وتعكس العمل الفعال لبوانكاريه.

عادة لا نولي اهتمامًا كافيًا لهذا التصنيف، كما أننا نجد النظام الذي ينظم به بوانكاريه أعماله الفلسفية “عاديا” دائمًا. أما بالنسبة له فهذا النظام ينتج التأويل الفلسفي للتخصصات كل منها في مجموعتها الأصلية. كما يُظهر الانتباه إلى هذا النظام أن فهم فلسفة بوانكاريه لا يمكن أن يكون كافيًا لما يقوله عن تخصص منعزل. إذ لا يكفي  لفهم مواضعاتيته، بمجرد فهم واستيعاب قضايا الهندسة، أو حتى بفهم ما يقوله عن الحساب والمنطق وكذا بفهم اعتراضه على المنطق الرياضي الناشئ. تندرج أسباب مواقفه هذه  في نطاق منظومة أعماله الفلسفية ككل. فالمواضعاتية التي غالبًا ما نقتصرها على الهندسة وحدها، يمكن تفسيرها ببساطة أكثر من خلال النظر في تصنيفه لها كليا. لا يمكن للتخصصات الموجودة في مركز جهازه المفاهيمي _ والتي هي ليست تجريبية بالكامل ولا قبلية تمامًا_ أن تجد مكانتها في خطاب فلسفي “حقيقي” وفقًا للمنطق أو التجربة. إن زاوية النظر هذه تعطي تأويلا إيجابيًا للطابع البارز من فلسفة بوانكاريه، ولكنها أيضًا تضعه في ظلال الشكية، التي تبحث عن هوامش الحرية والعلاقات أكثر من بحثها عن الأسس.

يوجد بعض الشيء من الطابع الاستقرائي في هذه الفلسفة. قطعا ليست مسالة وضع مبادئ فلسفية مستقلة عن الممارسة العلمية، وإنما وضع مبادئ تجريبية، بدورها يجب أن تشرح الطريقة التي ينبغي استخدامها في العلم. إن هذا متوافق تمامًا مع مفهوم بوانكاريه الذي يمكن وصفه بأنه استقرائي لفلسفته في الفيزياء التجريبية. هذا الاستقراء، يجب ألا نعطيه قيمة مذهب، إنما نعطيه قيمة نظام في كيفية صياغة الفرضيات. الاستقراء نفسه معمم بفضل فكرة تحليل لظاهرة مرصودة بالملاحظة بين ما يتبع القانون وما هو مخل بالنظام. على هذا النحو ستوفر لنا الهندسة والتحليل، اللغة اللازمة التي تسمح بالوصف – أي التصنيف بشكل غير مباشر – للظاهرة، وأيضا ما لا يمكن اختزاله قد يكون ضئيلًا اعتمادًا على التداخل المعتبر للتخصصات فيما بينها. وهكذا يتم اختزال ما هو قبلي واختصاره إلى كونه مصدرًا للمفاهيم الرياضية الأساسية، وذلك بفضل قدرتها على التكرار. وهذا بلا شك سبب معارضة بوانكاريه بشدة للمنطق الرياضي الناشئ. أما فيما يخص  التجربة فمن الضروري تفادي اقتراح الفروض بشكل عشوائي، ما يستلزم فكرة مفادها أن العلم هو لغة مواضعات ضمن حدود معينة.

بالنتيجة يمكن الحديث  عن عنصريين تتصف بهما فلسفة بوانكاريه. من ناحية، فلسفة العلوم التي تندمج بشكل جد ممتاز مع ممارسة ابيستيمولوجية لعالم متخصص، ومن ناحية أخرى فلسفته والتي تتميز بأسلوب الفكر العلمي الذي يجعل الفرضية جزءًا أساسيًا من العلم، والتي لا يمكن اختزالها فقط إلى طابعها الغامض. إذ من الممكن التوليف بين هذين المظهرين من خلال الحديث عن “براغماتية” بوانكاريه، وعلى الرغم من حقيقة أن بوانكاريه يتحدث في كتاب قيمة العلم عن “الواقعة الخام” ضد فلسفة إدوارد لوروي (ولكن يمكن أن يكون لديه مخاوف كثيرة من البراغماتية). فإن التأويل البراغماتي يُشرح حاليًا بطريقة ذكية ومقنعة. فكيف يمكن إذن تفسير البند الأخير من مبدأ الاستقراء، والذي وجدناه صعبا في كثير من الأحيان بالنسبة لبوانكاريه؟ يمكن تأويله كتأكيد من خلاله معرفة منظومة الاستدلال بالتراجع؛ أي يمكننا أن نبرهن عليه بالتراجع. كان بوانكاريه بلا شك متعاطفًا مع مؤسسي هذه الاتجاهات الفلسفية حيث أن المفاهيم ليست معطاة مسبقًا، ولكن يتم بناؤها، أو تكون موضوعا حدسيا. مثل ما هو الحال بالنسبة لفلسفة جيمس وفلسفة برغسون،

خلال القرن العشرين، فلسفة بوانكاريه حصلت على الاعتراف المستمر، ولكن على نمط ثانوي، إذ تم الاستشهاد ببعض أفكاره – خاصة المواضعاتية. ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح الآن هو : هل لدينا في الوضع الراهن عوامل تدعو إلى استخدام مواضعاتية بوانكاريه من جديد؟ الإجابة بالإيجاب. ففي الابيستيمولوجيا المرتبطة بالبحث عن المعايير، _والتي شغلت القرن العشرين تقريبًا_ طُرحت الأسئلة بشكل أساسي حول إشكالية المفاهيم الرئيسية: خاصة إشكالية العلاقة بين النظرية والتجربة، تلك العلاقة المتضمنة في أسلوب تعارض فلسفي. في هذه الإشكالية أعتقد أن الممارسة الابيستيمولوجيا لعالم متخصص تستعيد كل قيمتها في ممارسات النمذجة modélisation. لكن ما المقصود بالنمذجة؟ إنها عملية صياغة نماذج مبنية لحل مشكلة ما، والنظريات في هذا الإجراء لها وظيفة جديدة، وهي ضمان تماسك النماذج والنمذجة، ثم زيادة معرفتهم من خلال عمل النمذجة، لكنهم ليسوا دائمًا في المركز. فما يتغير هو العلاقات بين النظرية والتجربة التي لم تعد تعبير عن التعارض بين المفهومين، وبالتالي فإن سلسلة من المفاهيم الأخرى تأخذ مكانًا لم يعد ثانويًا في الابيستيمولوجيا: على سبيل المثال القياس، والنموذج، والنمذجة، والتماثل، والمفهوم، والمشكلة، والهدف. في هذا إثراء كبير للابيستيمولوجيا، وبحث أكثر مرونة وأقرب بلا شك إلى المشكلات التي يتعين حلها. تتناول هذه الابيستيمولوجيا العلاقات غير المتوقعة بين التخصصات العلمية، وغالبًا ما توضح هذه العلاقات نمذجة النماذج بناءً على نظريات علمية مختلفة، على سبيل المثال النموذج الهندسي مع النموذج الميكانيكي ومع النموذج المادي. على هذا النحو يمكننا من خلال النمذجة، مفصلة أجزاء تخصصات متباعدة بقدر ما نريد في خرائط المعرفة. ضمن سياق عمل كهذا، أين يكون التداخل بين التخصصات هو الوضع العادي، من هنا تستعيد فلسفة بوانكاريه أهميتها لأنها ابيستيمولوجيا عالم متخصص، تبتكر تماثلات سريعة وغير متوقعة بين التخصصات. ولذلك لم تعد التنقلات بين التخصصات التي أجراها بوانكاريه مجرد خصوصية فردية في طريقة العمل، وإنما تصبح بها ابيستيمولوجيا بوانكاريه قاعدة ثمينة. ولم يعد من الضروري تثبيت الجهاز المفاهيمي لبوانكاريه وإغلاقه. إنما أصبح جهاز مفتوح ينظم العلاقات الداخلية للمفاهيم، التي لم تعد  مجرد مفاهيم فلسفية للفكر والتجربة، وإنما أصبحت هي النظريات العلمية نفسها، والتي نعرف أنها تتغير مع العمل العلمي. وتبعا لذلك سيكون النظام ناتجًا عن المشكلات التي يجب معالجتها، وعن علاقاته بالنظريات التي تضمن النمذجة، أكثر من الحدود الفلسفية. كما تمثل الطريقة التي فكر بها بوانكاريه في العلاقات بين التخصصات وحدودها بالتأكيد واحدة من أكثر الطرق ملاءمة لفهم بعض الممارسات العلمية المعاصرة. ولا يجب أن ننس أيضًا حقيقة أن بوانكاريه كان من بين الأوائل الذين عملوا على إبراز قيمة فكرة النموذج في الابيستيمولوجيا.

في هذا الظرف، تميل فلسفة العلم، بالإضافة إلى عملها التوضيحي، إلى أن تصبح داخل العمل العلمي بمعنى أنها تصبح ابيستيمولوجيا لواجهات التخصصات. أعمال تاريخ العلوم المعاصرة حول النمذجة يجب أن تأخذ في الاعتبار الخيارات الابيستيمولوجية للعلماء، فهم المسؤولون عن بناء النماذج. يعتبر تطبيقها  أكثر واقعية من ذلك التطبيق الخاص بالنظرية، والذي   يسلط الضوء على الطريقة والوسائل التي ينطوي عليها حل المشكلات. لم تعد النظرية تعمل كإطار عام بما يكفي للسماح بوضع مسافة للقيمة الفلسفية للاختيارات الابيستيمولوجية للعلماء. في مثل هذا السياق العلمي، تأخذ مقاربة بوانكاريه قيمة جديدة، وتجد مظاهرها “البنائية” تطبيقات عينية ليس فقط في تفسير العلم، وإنما في ممارسته العادية. إذ لم يعد مثل هذا الاستخدام لفلسفة العلوم مقصورًا فقط على التخصصات التي أخذها بوانكاريه في الاعتبار، بل يشمل كل التخصصات.

والفلسفة خلال القرن العشرين، سواء في الأعمال “التحليلية” أو “القارية”، تم توضيح أبنيتها ومفاهيمها، التي كانت تعتبر ضمنية في السابق. وتعني هذه المعرفة أنه لم يعد بإمكاننا التعامل مع الفلسفة كتعميم في حدود العمل المنجز في التخصصات الأخرى. كما كان يعتقد بوانكاريه حين رأى في الفلسفة تعميمًا للعلوم، والكثير من نصوصه الفلسفية عبارة عن نصوص علمية أزال منها المعادلات، كما لو كان بإمكاننا إجراء انتقال بسيط من خلال التعميم بين العلم والفلسفة. إذ تجعل معرفة البنى الفلسفية مفهوم التعميم غير ممكن. من ناحية أخرى، أصبح الطابع الأدنى للفلسفة مظهرا جوهريا تمامًا ضد طابعها النظري الذي تطور في الأنساق. توجد الآن أسباب تجعلنا نتحدث عن النمذجة الفلسفية ونمذجة الفلسفة. هذا ما يشمل العلاقات التي لم يتنبأ بها بوانكاريه صراحة بين العلم والفلسفة، ولكن حيث يمكن أن يأخذ مفهومه للعلاقات بين التخصصات قيمته الكاملة. مرة أخرى يصبح النسخ في الفلسفة لفكرة بوانكاريه ممكنًا: أي مسألة الطابع المواضعاتي للفلسفات. إذا قبلنا تعددهم، كما فعل بوانكاريه مع تعدد انساق الهندسة، فيمكننا بعد ذلك الحديث عن الطابع المواضعاتي للفلسفات، وعن تعددها الشرعي. وهذا يمنحهم أيضًا استقلالية نسبية فيما يتعلق بالعلوم، ولكن بشرط أن يفترض  مثل بوانكاريه في سجاله ضد لو روي، الواقعي قبل الفلسفة.

يمكننا القول  إن فلسفة العلوم عند بوانكاريه لا يمكن اختزالها ببساطة في أي تفسير يمكن أن يُعطى لها، حتى خلال حياته. إنها ليست امبيريقية ولا استقرائية ولا مثالية ولا براغماتية ولا اسمية علمية ولا غير مواضعاتية. لا شيء من هذه التفسيرات يعطى منفردا لفلسفة العلوم عند بوانكاريه. أقترح أن أطبق على فلسفته فكرة مفادها : تصنيف فلسفته على أنها ما يبقى ثابتا من كل هذه التفسيرات، إذا أخذنا في الاعتبار أن كل هذه التفسيرات عبارة عن عناصر متغيرة لمنظومة ثابتة. يمكن تفسير مفاهيم بوانكاريه الفلسفية من خلال ثباتها الاستثنائي إلى حد ما، إذا قارناها، على سبيل المثال، بتنوعات مفاهيم معارضه راسل. إذا أخذنا خريطة بوانكاريه لجغرافيا العلوم على محمل الجد، فإن كل هذه التفسيرات ممكنة داخليا. لكن هذا لا يعني على الأرجح أن جميع التفسيرات متكافئة ولها نفس القيمة. فبعضها محدود بواحد أو بآخر من حدود المعرفة سواء الفكر أو التجربة، وبالتالي تظل جزئية. هناك صلة أكبر في توصيف فلسفة بوانكاريه بالبراغماتية لأنه يجب عليه أن يعطي مفتاحًا للعلاقات بين حدي الفكر والتجربة. في إطار النمذجة، يمكننا من هنا أن نصف فلسفة بوانكاريه بالبراغماتية، بشرط أن نبحث عن ظروفها الواقعية. وهذا الذي من أجله تم تأليف هذا الكتاب: يتعلق الأمر بتوضيح الممارسة الابيستيمولوجية لهنري بوانكاريه من خلال نزعته المواضعاتية، وتحديد ظروفها الواقعية ومشروعيتها المنطقية.

[1] James Frederick Ferrier, Institutes of Metaphysics. The Theory of Knowing and Being, Édimbourg, 1854

[2] William Whewell, Philosophy of the Inductive Sciences, Londres, J. A. Parker, 2 vol., 1840.

[3] Émile Meyerson, Identité et réalité, Paris, Félix Alcan, 1908