تفصيل

  • الصفحات : 249 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2021،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-048-0.

ما من دارس لفترة الوجود الفرنسي في الجزائر – والتي امتدّت على ما يزيد عن قرن وربع – إلا ويدرك بعض الحقائق التي كانت في الواقع ثوابت لم يستطع إخفاءها حتى الاستعمار ذاته، بل لقد سعى – على عكس ذلك – إلى تجسيدها نهارا جهارا على أرض الواقع وبشتّى الوسائل والسبل.

ولعلّ من بين هذه الحقائق – التي تُذكر على سبيل المثال لا الحصر – أنه أراد أن يكون وجوده نهائيا وإلى الأبد، ومن أجل هذه الغاية وظّف كل ما بوسعه لكي يتدرج ذلك الوجود من أمر واقع (De facto) إلى أمر قانوني وشرعيّ (De jure).

كما انّه وبالرّغم مما طبع ذلك الوجود من سمات مميّزة بين مرحلة وأخرى، فإن القاسم المشترك بينها هو إمعان الاستعمار في غيّه، حيث حاول بشتى الوسائل – وهذا منذ أن وطئت قدماه أرض الجزائر-   فرض إرادته وتشريعاته على البلاد والعباد، فلم يسلم من تشريعه وتخطيطه لا البشر ولا الشجر ولا الحجر بل وحتى الحيوان لم يفلت بدوره من التشريع الاستعماري.

إذا نظرنا إلى الجانب العملي للاستعمار الفرنسي في الجزائر فإنّنا نجد أنفسنا أمام مؤسسة كبيرة تتمدّد وتتفرّع إلى ما لا نهاية في سعيها الدؤوب لابتلاع كامل الجغرافيا، واحتواء العنصر البشري وتكبيل إرادته حتى لا يبقى أمامه من خيار سوى الانقراض أو إفساح المجال أمام الغازي عن طريق الذوبان أو المغادرة أي الهجرة.

إنّ جرائم الاستعمار التي لم تعرف حدودا لا في الزّمان ولا في المكان، أصبحت من مسلمات الذاكرة الجماعية للشعبين الجزائري والفرنسي، فلم يعد تمجيد الظاهرة الاستعمارية يجدي نفعا أمام فظاعة الجرائم المرتكبة في حقّ الشعوب المستهدفة، وهي الجرائم التي حاول الاستعمار التغطية عليها بل وحتى إنكارها لعهود. ولكن كل هذا لم يجد نفعا أمام جهود المؤرخين من هذه الضفة للمتوسط وحتى من الضفة الأخرى لكشف الحقائق استجابة لواجب الذاكرة.

وكلامنا عن الذاكرة يقودنا إلى موضوع متشعب وحسّاس لا يكاد جانب من جوانب الاستعمار ينجو أو يتبرّأ منه. فبقدر ما كان الاستعمار آلة شمولية سعت إلى خنق كل إرادة حرّة لسكان أي بلد مستهدف، بقدر ما يجب على الذاكرة أن تسترجع كل التفاصيل عن معاناة الشعوب التي كانت ضحية ذلك الاستهداف. فمثلما لا يوجد جرم صغير وآخر كبير فلا يوجد كذلك جانب مشرق للاستعمار وآخر مظلم، فجرائم الاستعمار هي جرائم قائمة لا يمكنها أن تزول أو تختفي بالتقادم أو بطيّ الصفحة.

نعم. طي الصفحة يكون في بعض الأحيان ضروريا لبناء علاقات جديدة مبنية على الاحترام المتبادل، ولكن هذا لا يعني تمزيق تلك الصفحة أو التعامل معها من زاوية النسيان العمدي.

وفي هذا السياق نقول إن مبادرة الأقلام التي تقف وراء هذا المؤلَف مبادرةٌ مستحسنة ومرحّب بها لعدّة أسباب. فهي من جهة تتناول بالدراسة والبحث المنهجي الرصين موضوعا لطالما ذُكر في سياق عام دون الوقوف عند دقائق تفاصيله قصد إعطائه حقه من البحث والدراسة. وعليه فتناول موضوع النفي والإبعاد كموضوع مستقل يشمل كل الفترة الاستعمارية هو في حدّ ذاته تحدّ كبير وإنجاز يصب في خانة الواجب التاريخي الوطني المتمثّل في إحياء الذاكرة والحفاظ عليها وترقيّتها.

ومن جهة أخرى فإن عملية جرد شخصيات وطنية ممن استهدفهم النفي والإبعاد، وإفراد عيّنات منها مع مراعاة عملية اختيار النماذج بحيث تغطي العينات المختارة جل الفترة الاستعمارية وتشمل شخصيات عرفت بنضالها المتنوّع والذي اتخذ في بعض الأحيان شكل المقاومة الشعبية في شقيها السلمي والمسلّح أو الطابع السياسي أو الديني أو الثقافي.

هذا الاختيار الصائب يصبّ بدوره في سجل دحر مزاعم الاستعمار الرامية إلى تبرئة سلوكه بحجة أسطورة عبء الرجل الأبيض (White man’s burden) أو المهمة الحضاريةالمزعومة(Mission civilisatrice). فلو كان هدف الاستعمار هو الأخذ بيد البلدان المستعمرة لترقيتها حتى تصل إلى مستوى رشد يؤهلها إلى الاعتناء بنفسها لما وجدنا أن جل المستهدفين بقوانين النفي والإبعاد كانوا كلهم من النخبة الوطنية المثقّفة والواعية، وهذا باختلاف مشاربها الثقافية والنضالية. وعليه فلا يمكن إلاّ أن نستخلص أن سياسة النفي والإبعاد كانت تهدف إلى إفراغ البلد من كل نخبه الحرّة وإفساح المجال – في المقابل – أمام فئة بني “نعم نعم” كي تكتسح بلا قيد ولا شرط.

ذلك، وبتناولها لنماذج متنوعة شملت شخصيات وطنية استهدفها النفي أو الإبعاد والحرص على أن تكون العينات المدروسة تغطي كافة التراب الوطني فهذا أمر إيجابي آخر يحسب لصالح هذه الدراسة. فالجزائري حيث ما وجد كان مستهدفا من طرف آلة الإذلال الاستعمارية التي لم تراعِ لا الكبير ولا الصغير ولا الرجل ولا المرأة بل الكل كان ينظر إليه بعين الريبة طالما قال كلمة حق ولم يذعن لإرادة المتسلّط.

أخيرا وليس آخرا، أن يوسّع العمل ليشمل دراسات خاصة بممارسة الاستعمار في بلدان عربية أخرى – من باب المقارنة – فهذا كذلك نقطة إيجابية تضاف إلى ما ذكرنا من نقاط إيجابية. وعليه فما علينا إلا أن نبارك لأنفسنا بهذا المنتوج الجديد الذي سيكون إضافة طيّبة للكتابات التاريخية الوطنية.

 

أ.د. دحو فغرور أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

عميد كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية

جامعة وهران 1 أحمد بن بلّة

23/02/2020