تفصيل

  • الصفحات : 83 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-639-0.

1- مقدمّة:

بسم الله الرّحمن الرّحيم، والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأولين والآخرين محمّد بن عبد الله رسول الله ()، وبعد:

أسهَمتِ القِيم والفضَائل الجَدِيدة الّتِي جَاءَ بِهَا الإسلَام فِي تَطوّرِ فنِّ المدحِ عامّة منذ القرنِ الأول هجرِي، حيثُ انبرَى شعراءُ الرّسولِ () وعلَى رأسِهم: حسّان بنُ ثابِت، وعبدُ اللهِ بنُ رَواحَة، وكعبٌ بنُ مالك إلَى التّغنِي بهذهِ الفضَائلِ، والدّعوةِ إليها، والتّصدِي إلَى المُشركينَ وهِجائهِم والرّدِ عليهم؛ بعدَ أن حثّهَم الرّسولُ () علَى ذَلك مَا دَامتِ اللّفظةُ آنذاك أشَدَّ وقعًا علَيهِم منَ السَّيفِ والرُّمحِ.

واستَمرّت الأشعارُ المادحة لشَخصِ الرّسولِ () إلَى غايةِ وفاتِهِ وَمَا بعدهَا إلى يَومِنا هذَا فِي مُختلفِ أنحاءِ البِلَادِ الإسلَاميّةِ، وممَّا لا شكَّ فيهِ أنّهَا تَطوّرَت وتميّزَت فِي كُلِّ عَصرٍ مِنَ العُصورِ الأدبيّةِ بتسميات وميزاتٍ وخصَائصَ كَثيرةٍ تَستَدعِي التّحدِيد والتّصنِيفَ والدّراسَةَ الدّقيقةَ لِكشفِ فنِّياتِها وجَمالِياتِها، ومَا وراءَها مِن خَلفياتٍ دِينيّةٍ وعَقَائديّةٍ واجتِماعِيّةٍ وثَقافيّةٍ… إضَافةً إلى كَشفِ مدَى صِحَّةِ مَا يقالُ عنْ كلِّ عصرٍ مِن إيجابياتٍ وسِلبياتٍ حولَ هذهِ الأشعارِ.

وتُعتبَر المَدائح النّبوِيّة من المَواضِيع التُراثيّة القَدِيمَة المُتسحدَثَة والمُتجدّدَة الّتي تَستَهوِي كَثيرًا مِنَ البَاحِثين والنّقاد، وَسَنجتَهِد فِي هَذا الكتاب الوجيز أن نسلّط الضّوء على العَديدِ منَ القضَايا الّتي تتَعلّقُ بمَوضوعِ شِعرِ المَديحِ النّبويِ وأعلامه في العصر الحديث، فمَا مِن قارئٍ -بادِئ ذِي بدءٍ- إلاّ وقد يتسَاءل في قَرَارَةِ نفسِهِ: مَا هُوَ شِعرُ المَديحِ النّبويِ؟ ولمَاذا لا يُسَمَى رثاءً بحكمِ أنَّ الرّسُول () قد توفاهُ أجلهُ منذُ أكثرَ مِن 1440 سنة؟ وكيفَ كانت بداياتُ هذا الغَرضِ الشّعرِي؟ وما هيَ أسبابُ شيوعهِ فِي كُلِّ مَكانٍ مِن بِقاعِ العَالمِ؟ وما هيَ أنماطُهُ وأشكالُهُ؟ ومن هم أعلامه في مختلف العصور؟ وغَيرهَا مِنَ الأسئِلة الهامّة الّتي سَعَينَا أن نجيبَ عَنها في مؤلفنا هذا

2- مَفهوم المَدِيحِ النَّبوِي وَعَلَاقَتَهُ بِالرِّثَاءِ:

2-1. المدح لغةً واصطلاحاً:

المَدح لغةً فِي معجمِ العَين للخليلِ بن أحمَد الفراهيدِي “هوَ نقيضُ الهِجاءِ، وهوَ حُسن الثّناءِ، والمِدحةُ اسمُ المَديح، وجَمعُهُ مَدَائحٌ ومِدحٌ”[1]، وذَكَر ابنُ فارسٍ في مُعجمهِ مقاييسُ اللّغة أنَّ: “الميم والدّال والحاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على وَصفِ مَحاسِن بكلامٍ جميلٍ، ومَدَحهُ يمدحُهُ مَدحًا، أَحسنَ عليهِ الثّناءَ”[2]، ودقَّقَ ابنُ منظورٍ في مفهومِ المدحِ في مُعجمِهِ لِسَان العَربِ: “الصّحيحُ أنَّ المَدحَ المَصدرُ، والمِدحةُ الاسمُ، والجمعُ مِدحٌ، وهو المديحُ، والجمعُ المدائحُ والأماديحُ، قالَ أبو ذُؤيبٍ:

لَو كَانَ مِدْحَةُ حَيٍّ مُنشِرا أَحَدًا      أَحْيَى أَبَاكُنَّ يَا لَيلَى- الأَمَادِيحُ

والمدائحُ جمعُ المديحِ منَ الشّعرِ  الّذي مُدح بهِ كالمدحةِ والأمدوحةِ، ورجلٌ مادحٌ مِن قومٍ مُدَّحٍ ومَمدوحٌ[3]، ومُمَدَّحٌ كمُحمَّد: مَمدوحٌ جدّا، وتَمَدَّحَ: تكلّفَ أن يمدَحَ، وافتخرَ، وتشبّعَ بما ليسَ عندهُ[4]، من كمالِ صِفاتِ الممدوحِ وأخلاقهِ ومحاسنهِ، “ووردَ في قاموسِ الفَيرُوز آبادِي علَى أنَّهُ: المدحُ مِن مَدَحَهُ مدحاً ومِدحة، أي حُسْن الثّناءِ على الشّيءِ، والمديحُ والأُمدوحةُ هيَ كلُّ أمرٍ يُمدَح بهِ، وتُجمعُ على مدائحَ، وأماديحُ”[5] وكِلاهُمَا يصُبُّ في مَعنًى واحدٍ.

وبِهذَا إذًا، فالمَدحُ لُغةً هوَ حُسنُ الثّناءِ والافتِخارِ والإشادةِ بالممدوحِ بِكلامٍ بليغٍ جميلٍ يَليقُ بِهِ، ويُعدّدُ صِفاتَهُ ومَحَاسنَهُ ومَناقبَهُ ومَكانتَهُ بَينَ عَارفيهِ، وذِكر كلِّ مَا يجعلُهُ مَوضِعَ ثناءٍ وإشَادةٍ وفخرٍ.

أمّا اصطلاحًا فالمدحُ هوَ فِي الأصلِ تعبيرٌ عن إِعجابِ المادحِ بصفاتٍ مثاليةٍ، ومَزايا إنسانيّةٍ رفيعةٍ يتحلَّى بِها شخصٌ منَ الأشخاصِ، أو تتجلَّى فِي مآثرِ قومٍ، أو فِي مآثرِ أمّةٍ منَ الأُممِ، أوْ شعبٍ منَ الشُّعوبِ”[6]، وهوَ مِن أكثرِ  الفُنّونِ الأدبيّةِ شيوعًا الّتي مَالَ إليهَا مُعظمُ الشّعراء، ونَظمُوا فيهَا القصائدَ الكثيرةَ، الّتي تُعدِّدُ مآثرَ الفردِ أو الجماعةِ[7]، وتُثنِي عليهِم وعلَى مَواقفهِم وَبُطولَاتهِم.

والمَدحُ أيضًا كغرضٍ شعريٍّ عامّةً ظاهرةٌ أصيلةٌ، وغرضٌ تقليديٌّ عرَفهُ الشّعراء قديمًا، مَهمّةُ الشّاعر فيهِ هِي إرضاءُ الممدوحِ، بل تتعدَّى ذَلكَ إلَى القبيلةِ، أوِ الّتيارِ السّياسِيّ أوِ الدّينِيّ،[8] حيثُ كانَ هَمُّ الشّاعر أن يرفعَ مِن شأنِ قبيلتهِ وأحلافِهَا، والتّغنِي بالكرمِ وحُسنِ الضّيافةِ والبطولةِ والشّرفِ والعِرضِ وصِحَّةِ النّسبِ.[9]

وبِهذَا، فالمَدحُ اصطِلاحًا هوَ بيانٌ لجميلِ مزايَا المَمدُوحِ وإيجابياتهِ، ووصفٌ لشّمائِلهِ وأخلَاقِه، وإظهارٌ للحبِّ والتّقديرِ الشّديدِ الّذي يكنّهُ الشّاعر لمن توافَرت فيهِ تلكَ المزايَا والشّمائِل ومَا يتعلّقُ بها من أخلَاق حَمِيدة وصِفات ومناقب ومواقف تسمُو بالمَمدُوحِ إلَى أعلَى دَرَجَاتِ الكَمَالِ، والنّموذَجِ المَنشُودِ.

2-2. مَاهِية المَدِيح النّبَوِي:

المديحُ النَّبوِي كمَا يُجمعُ الأدباءُ والنّقادُ غرضٌ شعريٌ جوهرهُ الثّناءُ والشّكرُ والتّنويهُ بمناقبِ الرّسولِ ()، وصفاتِهِ وأخلاقِهِ وسلوكاتِهِ عامّةً، والمَدائِح النّبوِيّة كمَا يُعرّفها الدّكتورُ زكِي مُبارك:[10] “فنٌّ مِن فُنونِ الشِّعرِ الّتي أذاعهَا التّصوّفُ، ولونٌ من ألوانِ التّعبيرِ عنِ العواطفِ الدّينيّةِ وبابٌ منَ الأدبِ الرّفيعِ، لأنّهَا لا تصدرُ إلّا عن قلوبٍ مُفعمةٍ بالصّدقِ والإخلاصِ”[11] التّامِ للمَمدوحِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ.

وهوَ شِعرٌ يَنْصَبُّ علَى نَظمِ سِيرَةِ رَسولِ اللهِ ()، وتِعدادِ صِفاتهِ الخَلقيّةِ والخُلقيّةِ، وإظهارِ الشّوقِ لرؤيتهِ وزيارةِ  قَبرهِ، والأمَاكنِ المقدّسةِ الّتي ترتبطُ بحياتِهِ، معَ ذِكرِ مُعجزاتهِ الماديّةِ والمعنويّةِ، والإشادةِ بِغَزَواتهِ ضدَّ الكفّارِ والمُشركينَ، والصّلاةُ عليهِ وعلَى آلهِ وصَحبهِ تقديرًا وتعظيمًا[12]، بَعيدًا عن ظَاهرةِ التكسُّبِ[13] بالشّعرِ وامتهانِهِ، الّتي يكونُ دافعُها هوَ مدحُ الأشخاصِ والأعيانِ والأمراءِ والملوكِ وحاشيتِهِم للتّقرُّبِ مِنهم، وتَمتِينِ العلاقةِ بِهم لقضاءِ المصالحِ الشّخصيّةِ، مثلمَا كانَ يحدُثُ فِي عصرِ الجاهليّةِ معَ كثيرٍ منَ الشّعراء أمثالُ: الأعشَى، والأخطَل، والحُطَيْئَة، والنّابِغةُ الذبيانِيّ، والشّمَاخُ بنُ ضِرارٍ[14]، وغيرهم منَ الّذينَ كانُوا يتكسّبونَ مِن وراءِ نظمِ أشعارِهم.

2-3 . علاقة المَديحِ النَّبوِي  بالرِّثَاءِ:

تعدّدت الآراءُ حولَ تَصنيفِ شِعرِ المَدائحِ النّبوِيّة وتَحديدِ طَبيعةِ العَلاقةِ بينَها وبينَ الرّثاءِ، وبعبارةٍ أُخرَى: هل شعرُ المديحِ النَّبوِي مدحٌ أم رثاءٌ؟ وللإجابةِ علَى هذَا السّؤالِ بدقّةٍ علينَا أن نستَوضِحَ مفهومَ الرّثاءِ أيضًا، ثمَّ نوازِنُهُ بنظيرِهِ (المَديح النّبَوي) حتَّى تتّضحَ لنَا العَلاقةُ بينَهُمَا إلَى حَدٍّ مَا.

فالرّثاءُ لغةً: منَ الفعلِ رَثَى، والرّاءُ والثّاءُ والحرفُ المعتلُ أُصَيلٌ على رِقَّةٍ وإشفاقٍ، يُقالُ: رَثيْتُ لِفُلَانٍ: رَقَقْتُ[15]، “ورَثَى فُلَانٌ فُلَاناً، يَرثيهِ رَثْيًا ومَرثيَّة إذَا بَكَاهُ بعدَ موتهِ، قالَ: فإنَ مدحهُ بعدَ موتِهِ، قيلَ: رَثاه يَرثِّيه تَرثِية. ورَثَيتُ الميّت رَثيًا، ورثاءً ومَرثاةً ومَرثيةٌ، ورَثيتُه: مَدحتُه بعدَ المَوتِ وَبَكيتُه، ورَثَوت الميّتَ أيضا إذا بكَيتهُ وعدّدتَ محاسنَهُ، وكذلك إذا نظَمتَ فيهِ شِعْرا”[16] بعدَ موتهِ.

أمَّا اصطلاحًا؛ فالرّثاءُ فنٌّ مِن فنونِ الشِّعرِ الغنائِي، يُعبّرُ فيهِ الشّاعر عَن حُزنِهِ وتفجّعهِ لفقدانِ حَبيبٍ[17] عزيزٍ عليهِ، فيَبكيهِ فِي شعرِهِ ذاكرًا صفاتَه النّبيلَة، ومَا كَانَ يتحلَّى بِهِ من مَناقِب وخصالٍ حسنةٍ، مُصَورًا لنَا حُزنهُ وألمَهُ وبكاءَهُ عليهِ، ومَا

[1] أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي: كتاب العبن، تح: مهدي المخزومي، إبراهيم السّامرائي، دار مكتبة الهلال، بيروت، لبنان، دط، دت، ج3، ص188.

[2] أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللّغة، تح: عبد السّلام محمّد هارون، دار الفكر، القاهرة، مصر، دط، 1979م، ج5، ص308.

[3]– أبو الفضل جمال الدّين محمّد بن مكرم بن منظور الإفريقيّ المصريّ: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط2، دت، مجلد2، ص589.

[4]– أبو طاهر مجد الدّين محمّد بن يعقوب بن محمّد بن إبراهيم الشّيرازي الفيروز أبادي: القاموس المحيط، مؤسّسة الرّسالة للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان، ط8، 2005م، ص240.

[5]– سمر حسن سليمان: مفهوم شعر المدح، نقلا عن الموقع الإلكتروني: https://mawdoo3.com، تاريخ النّشر: 06 أكتوبر 2018، تاريخ الاطّلاع: 16 ديسمبر 2018م.

[6]-أميل بديع يعقوب وميشال عاصي: المُعجم المفصّل في اللّغة والأدب، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1، 1982م، مج1، ص1133.

[7]– سراج الدّين محمّد: المديح في الشّعر العربيّ، دار الرّاتب الجامعية، بيروت، لبنان، 2008م، ص06.

[8]– يُنظَر.. سامي سويدان: في النّص الشّعري، مقارنات منهجيّة، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط1، 1989م، ص108.

[9] – يُنظَر.. سراج الدّين محمّد: المديح في الشّعر العربيّ، ص7.

[10]– زكي مبارك: دكتور في الآداب من الجامعة المصريّة، وقامة أدبيّة ونقديّة معروفة، حائز على دبلوم الدّراسات العليا في الآداب واللّغات الشّرقية من جامعة باريس، ولد سنة 1892م، وتوفي سنة 1952م بمدينة القاهرة بمصر، أثرى المكتبة الأدبيّة العربيّة بأكثر من 45 مؤلفا، من بينها اثنان باللّغة الفرنسيّة.

[11]– زكي مبارك: المدائح النّبويّة  في الأدب العربيّ، دار المحجّة البيضاء، بيروت، لبنان، 2015م، ص17.

[12]– يُنظَر.. جميل حمداوي: شعر المديح النّبويّ في الأدب العربيّ، منشورات المكتبة المصريّة، بيروت، لبنان، ط1، 2007م، ص11.

[13]– التكسّب: هو ظاهرة قديمة ارتبطت بالسُّلطة والسّياسة في العصر الجاهليّ، كانت تقوم مقام وسائل الإعلام في عصرنا الحالي، وهي تعني احتراف الشّعر؛ أي جعلُه حِرفة ومهنة يكسب الشّاعر من ورائها مالا ومكانة هامّة.

[14]– الشّماخ بن ضرار:  شاعر جاهليّ مخضرم شهد الإسلام، يقال أنّ اسمه معقل ولقبه الشّماخ، أجمع علماء الشّعر على أنّه أوصف الشّعراء للحمير والقوس، ويقال أنّه كان أرجز النّاس على البديهة، قال المَرْزبَانِي أنّه توفي في غزوة “موقان” في زمن الخليفة عثمان بن عفان.

[15]– أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللّغة، ج2، ص488.

[16]– أبو الفضل جمال الدّين محمّد بن مكرم بن منظور الإفريقيّ المصريّ: لسان العرب، ج14، ص309.

[17]– يُنظَر.. إيميل ناصيف: أروع ما قيل في الرّثاء، دار الجبل، بيروت، لبنان، دط، دت، ط2، ص5