تفصيل

  • الصفحات : 488 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،

الأستاذ (المعلم سابقا) متهم من الجميع دون إستثناء، متهم قبل كل إنسان وبعد كل إنسان بالخيبة والفشل والتقصير في التّربية والتعليم والفشل الدّراسي للأبناء،  فإذا خرجت كلمة نابية أوإنحراف في سلوك لا يليق من فم الصّغير، أو حقق نتائج متدنية لا يرضا عنها الأولياء، لا يكلف هؤلاء أنفسهم عناء البحث عن الأسباب، فالمتهم موجود على الدّوام ومعلوم -إنّه الأستاذ- نعم هو الأستاذ، ولا أحد علمناه يحسن الظّن والعون به أو يفكر بمنطق القاضي العادل أو المحقق المحايد الّذي يزن الحقائق بميزان العدل والحكمة، علما أنّ كل فرد وكل جماعة دينية أو حزبية او إجتماعية أو أمنية مسؤول عن هذا الصغير ومآلاته وأوضاعه، لأنّ مهمة التّربية بما فيها التّعليم بصفة عامة يساهم فيها أبناء المجتمع كافة وعلى رأسها الأسرة التي لا يمكنها بأي منطق أنْ تتحرر من إلتزاماتها وأنْ ترمي اللّوم بالتّقصير على غيرها، ولعل أحدا مهما تدنت معرفته لا تفوته أنْ يدرك أنّ الأستاذ يقوم من جانبه  ولو بالحد الأدنى بما يتطلبه الواجب الوطني والإلتزام الدّيني والأخلاقي وهذا ديدنه، هذا حين يكون للعقل منطق لدى الآخرغير منطق العواطف والحساسيات والخلفيات وحين تجلو الأبصار فترى الأمور على حقيقتها صافية غير مشوهة بعدسات ذات ألوان مختلفة.

وهنا أريد أنْ أذكر الجميع بحقيقة يتجاوزونها أو يتجاهلونها، هي أنّ عمل الأستاذ لا يبدأ من النقطة صفر وإنما من مخلوق وكائن حي اسمه طفل، والذي تشكلت بعض ملامح شخصيته في جوانبها الجسمية والعقلية والنفسية والإجتماعية في البيت لمدة ست أو خمس سنوات، ولأنّ البيت في الحقيقة بيوت تختلف ثقافتها ومستوياتها الاقتصادية ومراتبها  الثقافية والعلمية والاجتماعية والسياسية ومدى تقديرها لأهمية العلم والدراسة وهذا ما يشكل عاقا آخر لمهام الأستاذ التعليمية والتربوية.

فإذا افترضنا أنّ بعض الأسر فشلت في تربية وتعليم أبنائها ليكونوا أفرادا ناجحين وأصحاء وصالحين في ذواتهم وسالمين من الانحراف والجريمة والمخدرات وعلى قدر من النجاح المدرسي وغيرها، فهذا لا يعفيها من المسؤولية ولا يعطيها الحق في كيل الاتهامات ولوك بعض المزايدات غير المسؤولة، فإنجاب الاطفال يعني ببساطة تحمل المسؤولية وقبول التبعة.

ثم هناك مغالطة أخرى يتحمل وزرها البعض وهي أنّ الاستاذ هو من تسبب ويتسبب في بعض الظواهرالاجتماعية من خلال اتهام المدرسة (كالمأساة الوطنية) وهو اتهمام ضمني موجه للأستاذ بالإضافة الى بعض التهم الغريبة التي بات المجتمع يعاني منها وبالمختصر المفيد هو من ولد العنف بأوصاف شائنة  لا تليق حتى بالانذال والمجرمين.

وهنا يستغرب العاقل جرأة أولئك الفارغين شغلا والفاشلين والحاقدين ولا أزيد…ربما  قفزوا على الحق وتعدوه أشواطا فشوهوا وزوروا، وهي تهمة جد خطيرة قد تكون باطلة في حق طرف أساسي من أبناء المجتمع وبُناته الأصلاء حمّلته الأمة رسالتها الوطنية ثقة به ثم اتهمته أطراف ربما تكون مغرضة وأخرى جاهلة تنعق بما لا تدري، بخيانة الأمانة، وهذه الاتهامات والشطحات الصبيانية والتصرفات المذمومة أسست لمرحلة سيئة وسخة راح ضحيتها الأستاذ، فأصبح مسخرة الجميع الصغير والكبير-الشريف والخسيس، المتعلم والجاهل-الكل يُنكت ويتفنن في صناعة وصياغة النكت، فجاء هذا الكتاب البسيط ليفند هذه المزاعم والأكاذيب، أو يثبت صحتها  ثم ها هو الأستاذ ينتج ويساهم في حقل التربية والتعليم، ولكل أجر وحسنة، ولله يرجع الأمر كله من قبل ومن بعد.

كما أنني حريص على إفادة الصغار من خلال المعرفة المتراكمة من اثنان وثلاثون سنة ويزيد من العمل استادا، منها أربعة وعشرون عاما مكلفا بإدارة المدرسة وعشرات العمليات التكوينية والمطالعات غير المحدودة لعلوم التربوية وعلم نفس الطفل والخبرات الناتجة عن عملية تربية وتعليم الأبناء، باعتباري ربُ عائلة وأبٌ لأربعة أبناء ناجحين كل هذه الأمور ولّدت لدي الرغبة في إفادة الغير.

ومغادرة أعداد لا يستهان بها من الأساتذة الكرام إلى التقاعد حرم الحياة المدرسية من خبرات واسعة ومهمة الجميع من ذوي الخبرات والمعرفة بالشأن التربوي المساهمة في رسالة وجهود تحضير الشباب المقبل وتكوينه تكوينا صحيحا وفقا لما تتطلبه المدرسة والبلاد من إيطارات حية واعية لائقة للعصر وقادرة على تحمل الأعباء وإدراك المهمات الصعبة التي تنتظرها لقيادة المجتمع والدولة نحو التقدم والرقي والأمان والحق يفتقد بالضرورة جميع الأساتذة الذين يلتحقون بمهمة التدريس لأول مرة الى الخبرة الميدانية وهذا أمر طبيعي وليس عيبا لذا يتطلب مساعدتهم على تنميتها، أي الخبرة لخلق عامل النضج المهني الضروري الذي يحتاجه الأستاذ ويمكن ان نقتصر الطريق بنقل خبرة آبائهم الأساتذة وربما حتى خبرة الأجداد.

وبسبب هذه المهة النبيلة وانطلاقا من الاحساس بالمسؤولية لم اشأ أن أفك ارتباطي وانتسابي لميدان التربية والتعليم ذاك العالم الواسع الرائع النبيل بما يحمله من مشاق ومتناقضات والذي قضيت فيه اثنان وثلاثون سنة متمرغا في تبر بساتين الطفولة والأبوة والأستذة والإدارة، ومازال يشدني إليه الحنين قويا لهاذا فكرت في وسيلة تبقيني موجودا ومنتسبا  لهذا الحقل المقشوشب بأزهار المعرفة ومختلف  العلوم فلم أجد غير البحث والكتابة وسيلة أوقع بها محضر تنصيب جديد  تحت عنوان: تأثيرالأولياء والأساتذة على التحصيل الدراسي للأبناء.

ومن خلال هذا المحضرأقدم أوراق اعتمادي كأستاذ قديم جديد إلى الجيل الجديد بل إلى كافة أبناء الجزائر تلاميذ وأساتذة وأولياء، فالجزائر بحاجة بل مشتاقة لجهود وعرق أبنائها الأحرار وأملي أن يقبلني الجميع بينهم أبا وأخا وصديقا  تارة ناصحا وطورا لائما وأخرى مرشدا ومفيدا باعتباري شاهدا على عصر عشته واختبرته وكابدت الآلامه وعشت أفراحه وأتراحه ونجاحاته وخيباته وزبدة الرحلة هي ما أود أن أسلمه إلى الجيل القادم مع إضافة مزيد من الجديد  بإذن الله العلي القدير كل ما أمكن ذلك.

وهناك دافع آخر لكتابة هذا الكتاب وهو مسألة التقاعد والفراغ الناجم عنه وكيف تعامل معه كل متقاعد سابق رأيناه بأم العين، ويختلف المتقاعدون في نظرتهم واستثمار هذه الفترة الممتدة من لحظة التقاعد إلى موافاة الأجل، فمنهم من يتحمس للخروج لحسابات وهمية وظنية ووقتية غير محسوبة العواقب كأن يُمَني أحدهم نفسه بفتح مكتبة أو دكان أو امتهان عمل مناسب للسن والجهد يبعد عنه شبح الفراغ القاتل ويدر عليه بعض المال لتعزيز راتبه الشهري وتحسين أحواله والإبقاء على وضعه الاجتماعي لائقا لكن واقع الحال مختلف تماما.

في أغلب الأحيان يفشل المشروع فلكل مشروع شروط ومستلزمات وفترات عمرية على رأسها عنصر الشباب والطاقة الحيوية والخبرةفي المجال وهذا مفقود وغير وارد على الإطلاق في مثل هذا السن.

نعم فشل المشروع وارد جدا ولا يكاد يستسيغه عقله فيصاب البعض بالهوس والقلق، فيخرج من البيت يهيم على وجهه لا يعرف ماذا يفعل ثم يبحث عن أحد الرفاق يشاركه الحديث عن الذكريات، فالذاكرة مليئة بالمحتويات المشتركة وغير المشتركة، فالمكان المقهى أو أرصفة الطرقات وبعض دكاكين الزملاء والرفاق فيجترون النجاحات ويتجنبون في الغالب الاخفاقات ثم لا تدوم اجتماعاتهم طويلا حتى يعود المسكين إلى البيت، فينغص على جميع أفراد الأسرة حياتهم بالأوامر والنواهي أكثرها توافه-اطفئ المصباح، أوقفي الموقد (الكانون)، زيحي المقعد، إغلقي الحنفية…ومثلها الكثير، حقٌ وبدون حق ثم لا يطبق الأمر من طرف المأمورين لأنّ معظمهم يتحاشاه ولا يضع أوامره موضع التنفيذ، فيتعاظم في نفسه الحنق والشعور بعدم الثقة في أنه بات غير نافع، وهو مجرد وهم يصنعه الفراغ ومزاعم السلطة يا له من شعور قاتل مشحون بالانفعالات والصراعات النفسية الحادة-حقا صدق من قال :حبيبة الرجل عمله-والذي لا تشغله ولادته تشغله وفاته-.

أما أنا فأردت أن يكون تقاعدي إمتداداً للحياة المدرسية والإتصال بأبنائنا في المدرسة ولو من بعيد عن طريق البحث والكتابة والمشاركة في حقل المعرفة التربوية التي تعود عليهم بالفائدة والبركة، فكل ما أحتاج إليه هو عقل سليم يفكر وقلم بيدٍ لا ترتعش تنسخ وتسجل، فحين أشرع في البحث والتفكير والكتابة أكون هنا بين الكتب ومستلزمات البحث، وهنالك بين أبنائي أروح وأغدو بين الصفوف في أفق الخيال أتمثلهم أمامي أجساما حية أخاطبهم ويخاطبونني حتى يخيل لغيري أنني غائب عن الوعي، فلا أشعر بأحد دخل أو خرج من البيت ولا ألتف إلى مصباح فأراه مشتعلا أو منطفأ ولا أدخل مطبخا فأراقب الموقد (الكانون)، فيصبح غير مجدٍ عندي ما يحدث في البيت فللبيت ربته ولي مكتبي وأقلامي ودفتري.