تفصيل

  • الصفحات : 260 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-297-2.

لقد أضحى التغير سمة العصر الحديث. وقد حدثت في العالم تغيرات على مستويات متعددة مست الأنساق القائمة، على وجه الخصوص ابتداء من تسعينات القرن الماضي، من أنظمة سياسية بدأت تتفكك وبروز أنظمة اقتصادية جديدة، وتحولات جذرية على مستوى الأنساق الثقافية بفعل العولمة التي أثرت في كل الأنساق، وبفعل تأثيرات داخلية داخل المجتمعات المحلية بحد ذاتها، مما خلق أزمات في العالم من طبيعة مختلفة.

ولعل أشهر هذه الأزمات في العصر الحديث أزمة 1929 التي أدت إلى انخفاض التعاملات التجارية العالمية، مما أسفر عن “الكساد الكبير” الذي مس الأنشطة المختلفة. بيد أنه في الواقع، منذ 1929 لم يعرف العالم أزمة أثرت في الأنساق برمتها. كان لتلك الأزمات كل الأثر في تغيير طرق التفكير ومواجهتها بأفعال متباينة، بعد تمحيص وتدقيق لعوامل حدوثها، بشكل يختلف تبعا لطبيعة الأزمة ولطبيعة المجتمع الذي تحدث فيه.

ولكن، تتميز الأزمة التي تمر بها البشرية اليوم والتي هي نتاج تفشي فيروس كورونا المستجد والمعروف أيضا ب Covid-19 بأنها انتقلت من مستوى الوباء (epidemic) إلى الجائحة (pandemic)، وهذا راجع إلى سرعة انتشارها عبر العالم.

فاليوم، أضحى بإمكان الأفراد التنقل بسرعة وبأعداد كبيرة ومن الاتصال بالآخرين بشكل سهل وسريع، في وقت قياسي مقارنة بالماضي، لتنتقل معهم الأفكار والرموز المختلفة التي تسير الحياة الثقافية للبشر، ولتنقل معهم أيضا الأوبئة، في وقت قياسي، مما يسهم في انتشارها الموسع.

وبالتأكيد أن تطور أنظمة النقل عبر العالم، خصوصا تطور مجال الملاحة الجوية هو الذي كان سببا مباشرا للانتشار الموسع لهذه الجائحة، إذ مكن ذلك التطور من زيادة التواصل بين المجتمعات المتباعدة.

فقد أدى تطور الملاحة الجوية إلى انتقال الملايين من الأفراد –بمن فيهم المصابين بالعدوى- في وقت واحد وإلى أماكن مختلفة من أرجاء الكرة الأرضية، مما يضاعف احتمال نقل الوباء بكثير، مقارنة بما كان عليه الحال فيما مضى.

كما أن طبيعة السكن الذي يقرب بين الأفراد بشكل كبير هو الذي يؤدي إلى انتشار الأوبئة في زماننا، إلى درجة أن تفشي المرض يصبح حتميا على نطاق واسع. ففي إفريقيا مثلا، كان الناس يعيشون في أكواخ بسيطة تبعدهم في الكثير من الأحيان عن بعضهم البعض العشرات من الكيلومترات. وبفعل الاستعمار (الفرنسي أو الانجليزي) الذي نقل نموذج المدينة الأوربية إليهم، أضحى الذي يفصل مسكنا عن آخر -مع نموذج العمران الأوربي، المتمثل في العمارة- هو مجرد متر أو مترين، مما سيزيد من حدة الاتصال بين الأفراد ويزيد في ذات الوقت من احتمال انتقال العدوى إلى أعداد كبيرة من الساكنة.

كان ذلك عن الخاصية الأولى للأزمة الحالية التي تتخبط فيها البشرية.

أما الخاصية الثانية فتتمثل في أن هذه الأزمة كانت في بدايتها أحادية الأبعاد، إذ إنها أحدثت اضطرابات على النسق الصحي. ولكنها سرعان ما تغلغلت وتداخلت مع الأنساق الأخرى، مما يمنحها تلك الصبغة النسقية.

أما الخاصية الثالثة لهذه الجائحة والتي تتمخض عن الخاصية الثانية فتكمن في أنها تركيبية، بمعنى أن المتغيرات التي أدت إلى حدوثها متعددة ومتنوعة ومتداخلة، إلى درجة أنه يصعب فصلها عن بعضها البعض، وهذا ما يفسر طول مدتها إلى يومنا هذا (إضافة إلى طابعها النسقي).

أما الخاصية الرابعة لهذه الأزمة، فتكمن في إعلام المجتمع المدني بالتطورات المرتبطة بالجائحة، عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة.

فمقارنة بالأزمات السابقة التي كان يتعامل معها صناع القرار ضمن دائرة ضيقة-حيث لم يشرك المجتمع المدني في التصدي لها- تكمن خاصية الأزمة المترتبة عن تفشي فيروس كورونا المستجد في أن العديد من الدول توجه اهتماما خاصا للفرد قبل النسق، وتعلم ساكنتها بكل التفاصيل المرتبطة بتطور الوباء، من عدد الإصابات والوفيات والذين هم في الإنعاش، وذلك يوميا، عبر كل القنوات التلفزيونية المتاحة. كما تبين الدور الفعال للمجتمع المدني في التصدي لتبعات هذه الجائحة، خصوصا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، عبر أشكال التكافل والتضامن المختلفة.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أصبحت تمس هذه الأزمة الحياة اليومية للبشر على نطاق واسع، إذ تأثر المعيش اليومي بفعل هذه الجائحة، مما غير الممارسات اليومية وطرق العيش المألوفة التي انعكست على طبيعة التواصل بين الأفراد والمجتمعات، لا سيما مع تبعات ما يسمى بالتباعد الاجتماعي، مما كان له الأثر الكبير في تغيير العلاقات الاجتماعية، في علاقة الأفراد بذويهم وبأصدقائهم بخلق نماذج جديدة للفعل، على أنقاض نماذج التصرف التي كانت سائدة إلى وقت طويل، خصوصا وأن الأزمة إلى غاية بداية أكتوبر 2020 كانت لا تزال قائمة.

وقد بينت هذه الجائحة مسألة في غاية الأهمية والمتمثلة في عدم قدرة الأنساق القائمة –وفي مقدمتها النسق الصحي- على بناء نظرة استشرافية وعدم قدرته على التنبؤ بالأزمات التي أضحت مستعصية.

هي أزمة كانت لها تبعات مباشرة وفورية حتى في أكثر البلدان تطورا. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وبعد مرور خمسة عشر يوما فقط على حدوث الجائحة، سجل هذا البلد 10 ملايين باطل عن العمل كما أن 900000 إسباني فقدوا عملهم في هذه الفترة لوحدها، وما بالكم بالدول غير المتقدمة والتي يعتمد اقتصاد البعض منها أساسا على عائدات المحروقات التي تراجع سعرها في تلك الفترة، مسجلا أرقاما خيالية!

وبفعل التطور الذي شهدته البشرية على عدة أصعدة بما فيها على المستوى الصحي، بحيث اكتشفت أدوية لعدة أمراض كانت مستعصية وبحيث ارتفع متوسط العمر لدى الأفراد، لم يكن أحد يتوقع أن تمر البشرية بجائحة تزحزح العالم بأسره وتكشف اختلالات الأنساق القائمة فيه بهذه الحدة.

فما يميز اليوم هو أننا نعيش في سياق سمته التغير المستمر، وهذه الحالة تجعل هذا السياق هشا قابلا للمرور باضطرابات وحتى بأزمات حادة. ومرد هذه الحالة هو وجود أنساق مركبة، هي في تداخل بينها نظرا للعلاقات التي تربطها ببعضها البعض، والتي لا يمكن الاستغناء عن إحداها. وبالتالي، كلما كان هنالك تغير في مستوى معين، إلا ويسفر عن تغيرات في المستويات الأخرى.

كما لم تعد اليوم الأزمات متشابهة؛ فكل أزمة لها خصائصها وأسباب حدوثها، وبالتالي فهي متعددة الشكل ويصعب التكهن بالبعض منها. لذلك، يتعين التصدي لكل واحدة منها بطرق مختلفة.

بيد أننا اليوم أضحينا نعيش عولمة المشاكل والحلول، من خلال وضع خطط للتصدي لهذه الأزمة، تستند إلى التجربة الإنسانية التي لا مفر منها. فبالرغم من تباين المجتمعات واختلاف البشر من حيث لونهم وعقيدتهم وثقافتهم، بيد أنه أضحى أكيدا أنه لا يمكن لأي مجتمع التصدي لهذه الأزمة بمعزل عما تقوم به المجتمعات الأخرى من إجراءات. كما لا يمكن بتاتا التحدث عن نجاح مجتمع ما للتصدي لهذه الأزمة، بدون أن يتم التصدي لها في المجتمعات الأخرى.

وبالتالي، التغيرات التي تحدث في أي مجتمع إثر تفشي هذا الوباء، ستؤدي لا محالة إلى تغيرات في المجتمعات الأخرى، ككرة ثلج كلما تنقلت كبرت وجرفت معها كل ما يوجد في طريقها، مما يدفع إلى الإقرار بأنه لا يمكن الحديث بتاتا عن انتهاء هذه الأزمة إلا إذا اختفت عن العالم بأسره.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أفشت هذه الأزمة عن الاختلالات التي كانت موجودة في الأنساق المختلفة وبينت مدى تداخل الأنساق مع بعضها البعض، بحيث لا يمكن لأي نسق أن يعمل بمعزل عن الأنساق الأخرى. كما بينت هشاشتها، مسألة لا يمكن تغافلها من اليوم فصاعدا.

فالأزمة عالمية، ولا يمكن أن تكون الحلول إلا شمولية…

فلم تعد الأوبئة محلية –حتى وإن كانت كذلك في بدايتها- فقد أضحى لها امتداد عالمي خطير.

ويوما بعد يوم، تأخذ الأزمة المترتبة عن تفشي فيروس كورونا المستجد ملامح أزمة عالمية، تطال كل المجتمعات.

وقد تطور مفهوم الأزمة في القرن التاسع عشر وتوسع استخدامه في مجالات علمية متعددة، نظرا للبعد الذي تأخذه الأزمات في المجتمعات المعاصرة، وما تحدثه من تغيرات في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات. هو مفهوم متعدد المعاني (polysemic)،  بحيث يتم استخدامه في سياقات متعددة ومتباينة.

وقد حاولت تخصصات علمية مختلفة الإلمام بهذا المفهوم وتحديده، تبعا للمشاكل التي يعالجها. وحتى وإن تباينت التعريفات التي  يحددها كل تخصص علمي، إلا أنها تجمع بأن الأزمة تنشأ في زمن 1 بعد فقدان النسق لحالة التوازن التي كان يعيشها في زمن0.

فتحدث في البداية حالة اختلال، فعدم توازن فقطيعة مع الزمن 0، نظرا لعدم قدرة المسيرين على التحكم في الوضعية الجديدة، في محيط يعمه بشكل مستمر الارتياب.

وقد أضحى توظيف هذا المفهوم شائعا إلى درجة أنه يستخدم حتى في الحياة اليومية؛ فعندما نتحدث عن مشاكل داخل الأسرة، فإننا عادة ما نربط ذلك بمرور الأخيرة بأزمة؛ وعندما نتحدث عن مشاكل تنظيمية داخل مؤسسة ما، فإننا نقرن ذلك أيضا بمرور المؤسسة بأزمة؛ وعندما ندقق في بعض المشاكل المرتبطة بالقيم في مجتمع ما، فإننا أيضا نتحدث عن أزمة على هذا المستوى؛ وعندما نتحدث عن صراع يحدث على مستويات أخرى، فإننا نربط ذلك أيضا بمسائل مرتبطة بوجود أزمات…

فما من مجال مهما كانت ضآلته أو اتساعه إلا ونتحدث عنه بربطه بوجود أزمة ما: أزمة مالية، أزمة اقتصادية، أزمة سياسية، أزمة اجتماعية، أزمة أخلاقية،  أزمة بيئية، أزمة صحية، إلخ…

ويكمن الهدف المتوخى من هذه الدراسة في أنني سأبين فيها أن الأزمة التي انجرت عن جائحة فيروس كورونا المستجد –شأنها شأن كل الأزمات- تمر بمراحل ثلاث: مرحلة ما قبل الأزمة ومرحلة الأزمة ومرحلة ما بعد الأزمة. ولا يتعين الاهتمام بمرحلة الأزمة فحسب، بل أيضا بالمرحلتين الأخريين، إذ تعتبر مرحلة ما قبل الأزمة مرحلة أساسية في عملية التصدي للأزمات للتقليل من آثارها. كما تعتبر مرحلة ما بعد الأزمة مرحلة مهمة في حياة الأزمة، لوضع حصيلة للأزمة التي تم تجاوزها، وتذكير المتلقي بشكل دوري بمسبباتها، بتجميع قوى المؤسسات التي مستها الأزمة وإعادة الثقة في فاعليتها، حتى تتمكن في المستقبل من التصدي لأزمات مماثلة.

وتفادي الأزمات قد يكون من سابع المستحيلات، بيد أنه يمكن تقليص الآثار التي قد تتسبب في حدوثها. في هذا الشأن، سأوضح أهمية دراسة البيئة المحيطة بالأنساق لاكتشاف المؤشرات التي تعلن عن اندلاع أزمة مهما كانت طبيعتها، وذلك عبر تبيين كيفية تصدي المجتمعات لأزمة فيروس كورونا المستجد.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، سأبين في هذه الدراسة مدى هشاشة الأنظمة القائمة –بداية بالنظام الصحي- حتى في الدول التي تدعي التطور.

كما سأبين تركيبية هذه الأزمة التي تطال الأنساق برمتها، بل والمجتمعات برمتها. وفي الأخير، سأفسر أسباب عدم اعتبار الأزمة سلبية في الأساس، فهي إيجابية أيضا، عبر توضيح الوظيفة الكامنة التي تؤديها.

فالأزمة لا تعني وجود حالة فوضى واضطراب داخل النسق فحسب، بل أيضا احتواؤه على عناصر تركيبية متنافرة، مبينة الطبيعة التكاملية والتنافرية وحتى التصارعية لعناصره، ضمن معادلة جدلية بين التنظيم فالفوضى فإعادة التنظيم بشكل مستمر، كضرورة نسقية لاستمرارية النسق.

وعليه، تنقسم هذه الدراسة إلى فصلين اثنين. أعددت الفصل الأول الذي حمل عنوان:

الأزمة: عناصرها، مراحلها وأنواعها، بتقسيمه إلى خمسة محاور. المحور الأول خصص لتعريف النسق بحيث لم يكن ممكنا الشروع في التحدث عن الأزمة بدون تحديد ماهية الأنساق وتركيبيتها في المجتمعات الحالية. ثم خصص المحور الثاني لتعريف الأزمة. أما المحور الثالث فعرضت فيه العناصر المكونة للأزمة.أما المحور الرابع فحددت فيه أنواع الأزمات. وفي المحور الخامس، عرجت إلى عرض مراحل الأزمة. وفي الأخير، قمت بمناقشة كل المسائل التي تطرقت لها في هذا الفصل.

فيما يتعلق بالفصل الثاني، فقد خصص للدراسة الميدانية التي تفرعت إلى محورين اثنين. تم في المحور الأول عرض الإطار المنهجي للدراسة، بداية بالدراسة الاستطلاعية ونتائجها، فتحديد الأهداف المتوخاة من هذه الدراسة، فصياغة الإشكالية، فتحديد المنهج المستخدم، فالتقنيتان المتبنتان في هذه الدراسة. فيما بعد، تم تحديد مجتمع البحث، فالمعاينة فعينة الدراسة. ثم تم الانتقال إلى تحديد الإطار الزمني والمكاني للدراسة. وفي الأخير، تم عرض المقاربات النظرية المتبناة.

أما المحور الثاني، فقد قمت فيه بتحليل محتوى المقابلات، بداية بعرض السمات العامة للعينة، ثم الشروع الفعلي في تحليل المقابلات.

بعد ذلك، تم تقديم نتائج الدراسة الميدانية، ثم عرض نقاط للتركيب التي تمثل الخاتمة المألوفة عند الانتهاء من أي عمل علمي، لأنني أعتقد بل وإنني متأكدة بأنه بقي الكثير ليقال حول الموضوع المدروس.

فالخاتمة توضع لمسألة عولجت بالقدر الكافي ولن يكون هنالك ما سيقال فيها أو يضاف إليها. أما هذه الدراسة فلم يقل فيها إلا القليل، وقد بقي الكثير للاكتشاف.

ثم قدمت مجموعة من التوصيات. وفي الأخير، قمت بعرض قائمة المراجع المعتمدة في هذه الدراسة.

وبادئ ذي بدء، سأتعرض في الفصل الأول إلى بعض المسائل المتعقلة بالأزمة، من خلال عرض عناصرها وأنواعها ومراحلها.