تفصيل

  • الصفحات : 243 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-508-9.

رغم أن المغرب الأقصى والمغرب الأوسط، الذي أضحى منذ العهد العثماني يعرف بالجزائر، قد انفصلا سياسيا منذ نشوء دولة بني زيان وانفصالها عن الموحدين سنة 1235م، ومن ثمة نشوء دولة بني مرين بالمغرب سنة 1269م على أنقاض دولة الموحدين، لكن ظل الارتباط وثيقا بين شعب البلدين اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، خاصة خلال العهد العثماني، الذي رغم كل النزاعات العسكرية التي شهدها والصدامات الدامية التي وقعت خلاله بين إيالة الجزائر العثمانية وبين الدولة السعدية ثم العلوية اللتين حكمتا المغرب الأقصى إبان تلك الحقبة، فإنه لم يعرف وجود حدود فاصلة بين مواطني القطرين، وظل كل مغربي مرحب به في الجزائر، مثل ما كل جزائري مرحب به في المغرب، لا فرق بينهما في الحقوق والواجبات متى ما وطأت أرجلهم أرض القطر الذي يختارون.

وقد سجل التاريخ وجود علاقات وطيدة على صعيد الاجتماعي والثقافي بين الجزائر والمغرب الأقصى خلال العهد العثماني، كان أبرز مظاهرها التنقل الدائم للمواطنين بين القطرين، وتواجد جالية كبيرة من كل قطر في القطر الآخر، لدواعي كثيرة منها ما هو سياسي، حيث كانت الجزائر ملجأ المغاربة المتمردين على سلطات البلد هناك، مثل ما وقع مع أبناء السلطان السعدي محمد الشيخ، عبد الملك وأحمد وعبد المؤمن، أين غادروا المغرب بعد وصول أخيهما عبد الله الغالب إلى السلطة سنة 1557م، واستقروا بمدينة الجزائر وعاشوا بها فترة حتى عودتهم مدعومين من عثماني الجزائر إلى الحكم سنة 1576م، ومثل ما كان مع أحمد التجاني الذي لجأ إلى المغرب بعد خلافه السياسي مع سلطات الجزائر العثمانية، وعبد القادر بن الشريف الدرقاوي الذي عاش بالمغرب زمنا قبل إطلاق ثورته وتمرده بالجزائر.

ومن تلك العلاقات ما كان لأسباب ثقافية مثل هجرة الطلبة والعلماء بين البلدين، خاصة من الجزائر نحو المغرب، بسبب الركود العام للحياة الثقافية والعلمية بالجزائر في العهد العثماني وازدهارها بالمقابل في المغرب مع وجود الكثير من المراكز العلمية المرموقة بمدن المغرب العريقة مثل فاس ومكناس ومراكش، حيث ساهم الجزائريون بشكل وافر في تنشيط الحياة العلمية في حواضر المغرب ومناراته العلمية، ونذكر من علماء الجزائر الذين قصدوا المغرب واستقروا به: محمد بن محمد بن العباس التلمساني وأحمد بن أبي جمعة الوهراني وسعيد المقري وأحمد بن قاسم العقباني وأحمد المقري التلمساني ومحمد بن مرزوق السبط وأحمد بن محمد العبادي التلمساني وموسى بن سعيد الحافظ الزواوي ومحمد بن عزوز الديلمي ومحمد بن هبة الله شقرون وأبو الطيب البسكري ومحمد بن رأس العين الأندلسي ومحمد بن محمد التواتي وعبد الرحمن العنابي، ومن علماء المغرب الذين استقروا بالجزائر هناك: عبد الواحد بن محمد المكناسي ومحمد السوسي الفاسي وعلي بن عبد الواحد السجلماسي ومحمد بم سليمان الروداني.

ومثّل تواجد الجالية الجزائرية والمغربية بالقطر الآخر عامل إضافة على الصعيد الاقتصادي والثقافي، حيث ساهم المغاربة في اقتصاد الجزائر على الصعيد الفلاحي والتجاري والحرفي، كما ساهم الجزائريون في تنشيط الحياة الاقتصادية بمدن مثل سلا وتطوان، والتي كانت ملجأ لبحارة الجزائر لتصريف سلعهم والتزود منها بما يحتاجون، بل ساهم أولئك البحارة في التأسيس لنشاط بحري جهادي بتلك المدن مماثل لذلك الذي كان بمدينة الجزائر خاصة في عهد السيدة الحرة حاكمة تطوان.

كما نتج عن تواجد الجاليتين مظاهر اجتماعية حقيقية مثل تملك الأراضي ومثل المصاهرة، حيث وثّق التاريخ زواج بعض الأمراء المغاربة اللاجئين بالجزائر من بنات المسؤولين الجزائريين، مثل زواج الأمير الوطاسي أبي بكر بن السلطان أحمد الوطاسي من ابنة صالح رايس وزواج عبد المؤمن بن محمد الشيخ السعدي من ابنة حسن بن خير الدين باشا وزواج عبد الملك بن محمد الشيخ السعدي من ابنة حاجي مراد أحد وجوه السلطة في الجزائر في النصف الثاني من القرن السادس عشر ميلادي، ومثل زواج العالم الجزائري أبي مهدي عيسى الثعالبي من ابنة شيخه علي بن عبد الواحد الفيلالي المغربي، الذي قدم إلى الجزائر رفقة أسرته في منتصف القرن السادس عشر وتصدى للتدريس بمدينة الجزائر.

وبعد سقوط الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي سنة 1830م، انطلقت موجة هجرة جماعية للأسر الجزائرية نحو مدن المغرب، شبهها بعض المؤرخين بهجرات الأندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، واستقرت عائلات جزائرية كثيرة بالمغرب وتشكلت جاليات جزائرية كبيرة خاصة بمدينتي فاس وتطوان، كان لها تأثير كبير في الحركية الحضارية بالمغرب، حيث نقلت معها عاداتها في اللباس والطعام والكلام والسكن والعمل، وقدمت مساهمات علمية وسياسية معتبرة، حيث كان للجالية الجزائرية بمدينة تطوان دور مهم سواء في الحياة الاجتماعية العادية كما يورد أحمد الرهوني صاحب مصنف “عمدة الراوين في تاريخ تطاوين”، أو على الصعيد السياسي والعسكري، كما كان في حرب تطوان 1859-1860م التي شاركت فيها الجالية الجزائرية بقوة دفاعا عن المدينة في وجه الهجمة الإسبانية، وهو ما أرخه بحسرة جزائري مجهول من جزائري تطوان شارك في هاته الحرب ودون مذكراته عنها.

ومن أبرز وجوه الجالية الجزائرية بالمغرب خلال القرن التاسع عشر هناك محمد المشرفي المعسكري صاحب مصنف “الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية”، الذي ولد بغريس قريبا من معسكر سنة 1839م، وهاجر إلى فاس رفقة عائلته سنة 1844م فرارا من الاحتلال بعد سقوط عاصمة الأمير عبد القادر ووصول الفرنسيين للمنطقة، وكما يستشف من العنوان، فكتابه عبارة تأريخ للدولة العلوية منذ نشأتها إلى حدود سنة 1902م في عهد السلطان عبد العزيز، وقد تطرق المشرفي في كتابه هذا لهجرة الجزائريين إلى المغرب وتعامل سلاطين المغرب معهم في تطوان وفاس.

وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، انطلقت هجرات أخرى لعناصر جزائرية نحو المغرب، تمثلت هذه المرة في هجرة النخبة أو الجزائريين الذين تعلموا في المدارس الفرنسية، تحت تأثير عاملين مهمين:

الأول هو رغبة العناصر الجزائرية، التي نالت قسطا وافرا من التعليم الحديث في المدارس الفرنسية بالجزائر، خاصة من معاهد “المدْرسة”، التي أسستها فرنسا سنة 1850م بكل من مدن الجزائر وتلمسان وقسنطينة، من أجل تخريج إطارات جزائرية تتقن الفرنسية والعربية لمساعدة فرنسا في حكم البلاد، في البحث عن فرص عمل بالمغرب مع الخبرة العلمية والمهنية التي راكمتها بالجزائر، والحاجة إليها بالمغرب في ظل الإصلاحات التي باشرها السلطان الحسن الأول وابنه عبد العزيز والتطلع نحو عصرنة المغرب وتحديث أجهزته الإدارية.

والعامل الثاني هو مشروع فرنسا الرامي لاحتلال المغرب، والذي في سبيله عمدت فرنسا لترحيل مئات الإطارات الجزائرية نحو المغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر، من أجل التحكم في الإدارة ونشر اللغة والثقافة الفرنسية هناك تمهيدا لابتلاع البلاد وإلحاقها بالجزائر، فاستقر هؤلاء بفاس وتطوان وطنجة والرباط والدار البيضاء، ولعبوا أدوارا مهمة في الإدارة المغربية وفي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية بالمغرب قبل وبعد فرض الحماية على المغرب سنة 1912م.

وقدرت بعض المصادر عدد الجالية الجزائرية بالمغرب في حدود 15 ألف نسمة سنة 1936م وما يقارب ال40 ألف نسمة في الخمسينيات من القرن العشرين، أتيح لجلهم بالمغرب ما لم يتح للمغاربة أنفسهم من الحظوظ، نتيجة حيازاتهم على تكوين علمي جيد، ونتيجة حاجة السلطة الفرنسية لهم في حكم المغرب، فارتقى بعضهم سلم الإدارة حتى بلغ مناصب عليا حساسة وصارت لهم كلمة مسموعة مثل حال قدور بن غبريط ومحمد معمري الزواوي، وكان لجزء آخر منهم دور علمي وثقافي مرموق مثل ما كان لمحمد الصالح ميسة، وكان لجزء ثالث منهم حضور نضالي وعسكري مثل ما حدث مع الأمير عبد الملك بن الأمير عبد القادر ومع عبد الكريم الخطيب ونذير بوزار، ولرابع دور اقتصادي عظيم مثل حال محمد خطاب الفرقاني.

ورغم التقصير العام في التطرق للدور الذي لعبته الجالية الجزائرية في المغرب في الفترة المعاصرة خاصة من قبل الباحثين الجزائريين، فقد ساهمت بعض الدراسات الحديثة عن الموضوع في زيادة الضبابية حول الموضوع وفي تقديم قراءة مشوهة له، مثل تلك التي قام به الباحث المغربي محمد أمطاط، كأطروحة للدكتوراه بعنوان “الجزائريون في المغرب ما بين سنتي 1830- 1962م”، والتي صور فيها الجالية الجزائرية كطابور فرنسي استقدم إلى المغرب في سياق مساعي فرنسا لاحتلال المغرب، متماهيا مع طروحات المؤرخين الفرنسيين، ومهملا الدور الحضاري والسياسي والنضالي الذي بذلوه في المغرب، ومساهماتهم في نهضة المغرب وفي كفاحه ضد الوجود الفرنسي، رغم وجود من بينهم من يصدق فيهم وصف العمالة لفرنسا وإن كانوا قلة.

وهذا البحث الذي جاء في شكل تراجم وافية لبعض الشخصيات الجزائرية التي عاشت بالمغرب، مساهمة في التعريف بأبرز وجوه النخبة من الجالية الجزائرية بالمغرب خلال القرن العشرين، نزولا عند أهمية المكانة التي بلغوها بالمغرب ونوعية الأدوار التي لعبوها هناك، اعتمادا على ما توفر من مصادر ووثائق مباشرة وغير مباشرة، تحيط بحياتهم وتسلط الضوء على سيرهم ومنجزاتهم، وسيدرك القارئ من خلال سيرة هاته الشخصيات، أن الوجود الجزائري بالمغرب رغم عدم إهمال الخلفية الفرنسية، كان في غالبه لصالح نهضة المغرب ولصالح قضيته الوطنية، وقد لعبوا دورا مجيدا في تاريخ حركته الوطنية وفي كفاحه ضد الوجود الفرنسي.

عين الذهب، تيارت. 30 ديسمبر 2021.