تفصيل

  • الصفحات : 453 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 9789931728801.

إن عدّ اللّغة نظاما (système) من العلاقات التي تربط العلّامات اللّسانيّة ربطا عضويا وفق نسق معيّن، تحدّده القوانين الصّوتيّة والصّرفيّة والتّركيبيّة، يجعل دراسة مستوى المعجم (lexique) يطرح جملة من الإشكاليات اللّسانيّة، مقارنة بالأنظمة اللّغويّة الأخرى (النّظام الصّوتي، النّظام الصّرفيّ، النّظام التّركيبيّ). وبما أن اللّغة هي النّظام الكلّي الذي ترتبط ضمنه الأنظمة الجزئية ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، فإنّ دراسة جزء منها ينطلق من النّظر في علاقاته مع الأجزاء الأخرى ومكانته بينها.

ولما كان المعجم جزءا من اللّغة، بل جزءا مهمّا منها، كان نظامها لا يستقيم إلا بوحدات المعجم، لأنّ النّظام اللّغويّ قائم أساسا على نوعين من العلاقات -كما ذكرها فيرديناند دي سوسير- علاقات أفقية تركيبيّة تحكمها القوانين الصّوتيّة والصّرفيّة والنّحويّة، وعلاقات عموديّة استبدآليّة تحكمها القوانين المعجميّة والدلاليّة.

لذلك فمن الغرابة أن يوصف المعجم في بعض الدّراسات بكونه خارج النّظام اللّغويّ، بدعوى أن الوحدات المعجميّة غير مؤهلة كي تدرج ضمن نظام خاص بها، كما فعل اللّسانيّ الأمريكي بلوم فيلد (Leonard Blomfield) ومن تبعه من اللّسانيّين الأمريكان مثل تشومسكي (Noam Chomsky) في بداية نظريته التّوليدية التحويلية، وبعض اللّغويّين العرب المحدثين المتأثرين به، أمثال “تمام حسان: و”رشاد الحمزاوي”– وذلك لمجرد تميز الوحدات المعجميّة بخاصيّة التّطوّر؛ حيث تسقط وحدات من الاستعمال، وتتولّد وحدات أخرى جديدة، لم تعرفها اللّغة من قبل، معتقدين أن النّظام مرهون بصفة الثّبات.

ولكن حتى إن كانت هذه الخاصيّة (التّطوّر) أكثر بروزا على مستوى المعجم، فإنّنا لا نعدم وجودها في بقية مستويات اللّغة (صوتها، وصرفها، ونحوها) مما يؤثر بالضّرورة على المستوى الدّلالي؛ فلا يمكن تجاهل هذه الخاصيّة الجوهريّة من خصائص اللّغة، ألا وهي خاصيّة التّطوّر التي أقرّ بها معظم اللّغويّين في جميع مستويات اللّغة قديما وحديثا.

كما أنّ كون الوحدات المعجميّة مواضعة واصطلاحا (تحكم بين دوالها ومدلولاتها علاقة اعتباطيّة غير مبرّرة) لا يتنافى ونظاميّة اللّغة، لأن الاصطلاح والمواضعة ميزة شاملة لأصواتها وصيغها وتراكيبها، وليس ذلك حكرا على المفردات التي تمثّل المعجم، فما تواضع عليه العرب من أصوات وقوانين صوتيّة في لغتهم، لا يطابق ما تواضعت عليه الجماعات اللّغويّة الأخرى، وكذلك الصّيغ والضّمائر والتّراكيب. . . الخ.

وقد أدرك اللّسانيّون في مختلف العصور وبصفة خاصّة المحدثون والمعاصرون قيمة المعجم وأهمّيته في التّحليل اللّسانيّ، بعده مستوى أساسا في اللّغة لا يمكن دراستها بعيدا عن النّظر فيه. وذلك بعد أن تبيّن قصور النّظريات التي أقصته من الدّراسة.

ومن الضروري جدّا في البحث اللّسانيّ المعجميّ الدّقيق التّمييز بين المعجم بصفته كتابا مدوّنا، والمعجم بصفته مستوى من مستويات اللّغة (رصيد مفرداتها).

فالأوّل، أي المعجم المدوّن ينظر إليه بصفته كتابا جمعت فيه مفردات اللّغة، وفق ترتيب معيّن يختاره صاحبه، مع وضع الشّروح والتّعريفات والأمثلة. . . بما يلائم أغراضه. . . وهو لا يتعدّى كونه جهدا بشريّا، الهدف منه إيجاد وسيلة ماديّة تحفظ فيه مفردات اللّغة لأغراض معيّنة، كالغرض الدّيني، والغرض العلميّ أو التّعليمي، والغرض السّياحي. . . الخ

ويطرح المعجم المدوّن على هذا المستوى مشكلات كثيرة، مثل: اختلاف نمط الوحدات المعجميّة التي تمثل مداخل المعجم، وتعدّد المعنى المعجميّ واحتماله، في ظل عموم هذه الوحدات، وعدم نسبتها إلى زمانها ومكانها للتّمييز بين المعنى الآني والمعنى التّطوّري، وغير ذلك من قضايا المعجم المدوّن.

والثّاني، أي المعجم بصفته مستوى من مستويات اللّغة، فوحداته تمثل المكوّن الأساسي للّغة، وهي المفردات، بالإضافة إلى كونها تشير إلى معاني معجميّة، تقوم بوظائف لغويّة على مستوى التّراكيب، وبالنّظر في دلالة هذه المفردات وصيغها وأصواتها ومواقعها يمكننا الحكم على صحّة التّراكيب النّحويّة.

ويمثل المعجم بهذا المفهوم مجموعة من الحقول التي تنتظم حسب دلالاتها المحدّدة مسبقا واصطلاحا، وهو المبدأ الذي قامت على أساسه  نظريّة الحقول الدلاليّة في الدّراسات اللّسانيّة الحديثة، والتي تعدّ من النّظريات اللّغويّة التي دافعت عن نظاميّة المعجم، ضدّ الذين وصفوه بالشّذوذ والاضطراب، وبيّنت أن المعجم يمكن أن ينتظم في جداول تحكمها علاقات رأسية وأخرى أفقية كغيره من أنظمة اللّغة.

وقد تطوّرت هذه الفكرة في ظلّ النّظريّة التّحليليّة التّكوينيّة، التي تعتبر المفردات كيانات دلاليّة قابلة للتّحليل الجدولي، بالنّظر في سماتها الدلاليّة الصّغرى، وتصنيفها إلى سمات مشتركة وأخرى مميّزة، عن طريق المقابلة بينها، تماما كما نقابل بين الوحدات الصّوتيّة وسماتها النّطقيّة والسّمعيّة.

فالمعجم من هذا المنطلق يمتاز بتركيب هيكلّي، متكوّن من أبنية لغويّة ذات دلالات عامّة، تتحدّد داخل الحقول المعجميّة، ودلالات جزئيّة، تتحدّد بعد إقامتها لعلاقات عضويّة (تركيبيّة) فيما بينها، وتلك العلاقات بالإضافة إلى السّياق الذي لا تقلّ أهمّيته في توجيه دلالة المفردات ووظائفها، في صورة من التّكامل الضّروري بين أنظمة اللّغة المختلفة.

ويطرح المعجم على هذا المستوى اللّغويّ قضايا تختلف عن تلك التي يطرحها المعجم المدوّن؛ مثل علاقة المعنى المعجميّ بالمعنى السّياقيّ، أوالنّحويّي، والعلاقة بين الوحدات المعجميّة والقواعديّة، وطرائق التّوليد المعجميّ كالتّعريب، والاشتقاق، والوضع، والاقتراض، وغير ذلك.

وفي ظلّ هذا التّميّيز بين المفهومين نشأ فرعان من علم المعاجم: أحدهما قديم في حلّة جديدة، أطلق عليه مصطلح (lexicography) وترجم إلى صناعة المعاجم، أو علم المعاجم التّطبيقي، ويضطلع بدراسة تقنيات ومراحل صناعة المعجمات، من جمع للمادّة اللّغويّة، وتصنيفها حسب طبيعتها (مادّة لغويّة عامّة، مادّة لغويّة متخصّصة، أو مادّة لغويّة موسوعية) أو حسب حقولها  الدلاليّة أوالمعجميّة، وكذا وضعها تحت مداخل خاصّة بها، بعد اختيار نوع المداخل، والتّرتيب الملائم لها ولمستعمليها، ثم وضع الشّروح والتّعريفات، ودعمها بالأمثلة والاستعمالات، بما يناسب توضيح الدّلالات، ويتلخّص كلّ ذلك في عمليتين أساسيتين سماهما القدماء بعمليتي الجمع والوضع.

كما تشتمل صناعة المعاجم وضع المقدّمات، والملاحق النّحويّة والصّرفيّة، وبعض الكتابات الصّوتيّة، والرّموز المستعملة، والاستعانة بالصّور والوسائل التّوضيحيّة اللّازمة.

وثانيهما مصطلح (lexicology) وترجم إلى علم المعاجم النّظري، أوالمعجميّة النّظريّة، وهي التي تكتفي بتقديم الأسس والمبادئ والتّعريفات والنّظريات التي تتعلّق بالمفردات باعتبارها وحدات لسانيّة.

ولكن مؤخرا أصبح مصطلح “المعجميّة” (lexicology) مصطلحا جامعا لنظريّة المعجم، وصناعة المعاجم، وما يتّصل بهما من دراسات، مثل: علم المفردات، وعلم المصطلح، وعلم الدّلالة، غيرهما.

فالمعجميّة تدرس الألفاظ في علاقتها مع دلالتها، مهما اختلفت طبيعة هذه الدّلالة أو تغيّر مجالها. لذلك فإن عدَّ المعجميّة من فروع علم الدّلالة عند بعض اللّسانيّين ليس بالأمر الخاطئ، إذا ما انطلقنا من كون علم الدّلالة يهتم بكيفيّة حمل الألفاظ لمعانيها، بغض النّظر عن طبيعة هذه الألفاظ وكذا طبيعة هذه المعاني.

لذلك فإنهما (علم المعاجم، وعلم الدّلالة) يكتسيان أهمّيّة بالغة في الدّراسات اللّسانيّة الحديثة، لما يطرحانه من قضايا شائكة تستحق الدّراسة، على مستوى اللّسانيّات النّظريّة، وما يقترحانه من آليات إجرائية على مستوى اللّسانيّات التّطبيقيّة، خاصّة بعد التّطوّرات العلميّة التقنيّة الحديثة، وظهور اللّسانيّات الحاسوبيّة، والتّرجمة الآليّة، والبنوك الآليّة، والمعجمات الإلكترونية، في عصر يتّسم بسرعة التّطوّر العلميّ والتكنولوجي خاصّة في العالم الغربي.

ففي الوقت الذي تسير فيه المعجميّة الغربيّة بخطى ثابتة وسريعة لا تزال مجهودات العرب تناقش قضايا شائكة طرحت منذ عقود ولا تزال تطرح دون حلول فعليّة، مثل المعجم التاريخيّ للّغة العربيّة، الذي ما يزال حلما عربيّا بعيد المنال، والحفاظ على اللّغة العربيّة الفصيحة، الذي يمثّل تحديّا كبيرا في ظل العولمة ونظريّة الاستعمال اللّغويّ، وكذا الغزو اللّغويّ الغربي للألسنة العربيّة، وفي ظل توجّه العرب نحو استيراد العلوم والمعارف والوسائل، مع غياب سياسة لغويّة راشدة، وإرادة اجتماعيّة صادقّة.

بناء على ما سبق وضمن المشروع الدّولي “رسالة الباحث” الذي يشرف عليه مختبر اللّغة والتّواصل، في جامعة غليزان، -الذي أتاح لنا -مشكورا- فرصة الإسهام في هذه الرّسالة- اقترحنا على الباحثين المتخصّصين في هذا المجال استكتابا جماعيا في الدّراسات اللّغويّة، ساعيين بذلك إلى الاسهام في دفع عجلة البحث نحو إيجاد حلول فعليّة، لما يطرحه هذا المجال من إشكالات لا تزال بحاجة إلى تضافر الجهود من أجل تحقيق الغايات التي لا تحتمل التّأجيل.

وقد سررنا بإسهامات الباحثين المتخصّصين في هذا المجال الذي كان قيّما جدّا، ومتنوّعا، من مختلف الدّول العربيّة، من العراق إلى المغرب إلى فلسطين، إلى السعودية، فمصر والجزائر، وفي مختلف القضايا والمحاور، مثل: المعجم التاريخيّ والذّخيرة اللّغويّة، والمعاجم المتخصّصة، والتّعريفات، ومظاهر التّجديد، وما إلى ذلك من الموضوعات التي أثرت كتابنا هذا، إذ تميّز أغلبها بالطّابع التّطبيقي والجدّة في التّناول.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدّم بجزيل الشّكر وعظيم الامتنان إلى كلّ من أسهم في إنجاح هذا المشروع، وعلى رأسهم، الأستاذ: الطيّب بوقرط رئيس التّحرير، وأعضاء هيئة التّحرير، واللّجنة العلميّة، ولجنة التّدقيق اللّغويّ، دون أن أنسى مدير مخبر اللّغة والتّواصل الذي تبنّى هذا المشروع ورعاه منذ ولادة فكرته إلى غاية اكتمال إنجازه ونشره.

وفي الأخير أبارك لكلّ الباحثين إنجازهم هذا، وأقول: حسبنا أننا بذلنا لذلك كلّ جهدنا واتّخذنا له من الأسباب ما استطعنا، وما التّوفيق إلا من الله عزّ وجل.

– د. ربيعة برباق