تفصيل

  • الصفحات : 202 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2020،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-728-29-0.

اهتمت الرواية التقليدية بالواقع إلى حدّ التماهي معه، ذلك أن كاتبها يسعى إلى تصوير الحقيقة عن طريق عرض المعضلات الفردية والإشكاليات الاجتماعية، ويعكسها كما هي في الواقع بأدقّ تفاصيلها ويصوّرها تصويرا أمينا، ويقوم بتحليلها وشرحها والكشف عن أسباب انحطاطها محاولا إيجاد حلول مناسبة قادرة أن تغير ذلك الواقع، إلى أن أصبحت واقعية الرّواية تقاس بمدى مطابقتها لأصلها المرجعي ودرجة التّماهي معه.

فترى أنها وباهتمامها بعوالم المجتمع وأدق قضاياه سوف تحقق مبتغاها في السّمو والرقي، لهذا ” كان التّقليد الروائي من خلال عالمه الإبداعي يسعى لإعطاء منطق للأشياء والعالم، ويتبدى ذلك من خلال القصة المحكية، وفضائها وزمانها وشخصيتها وحالاتها النّفسية والاجتماعية. لذلك كان الرّوائي الجيّد هو الذي ينجح في حكي قصة جيّدة، ومعنى ذلك على المستوى الجمالي والثّقافي تقديم عالم متكامل يجد منطقيته في مرجعيته للعالم الخارجي”.

نعلم أن الواقعية هي نتاج عصر الاكتشافات العلمية في القرن التاسع عشر، وهو المحفّز المباشر الذي جعل كاتب الرواية التقليدية ذو نزعة عقلية معرفية تتوق إلى فهم وإدراك قوانين المجتمع في سيرورتها وتحولها، وتوجيهها إلى إعادة إنتاج الوعي السائد للمجتمع في النّص الرّوائي، وذلك عن طريق تجسيد وعيه للواقع الأصلي، ونقله بصفة مماثلة إلى المتخيّل السّردي، مما يعني أن النّص موجّه بالدّرجة الأولى وفق أيديولوجية الكاتب، الذي يسعى إلى التّأثير في هذا الواقع ومحاولة تغييره وتنظيمه من خلال تفاعله معه، وهو ما يفسّر أيضا بناء الرّواية التّقليدية جلّ مرتكزاتها في عرض قصّتها -التي تعد صورة مطابقة للواقع الأصلي- على حساب المعمار الفنّي، الذي اتخذته كوسيلة للإلمام بمضمون الحكاية فحسب، بغية الوصول إلى هدفها المتمثّل في التّعريف بقضايا المجتمع من جانبه التّحرري بخاصة، لذلك اتخذت من البعدين التّربوي والتعّليمي وظيفة أساسية لها، هدفها توجيه القارئ وبالتالي إحداث تغيير في الواقع، لهذا يأتي خطابها بكثير من الوضوح مراعاة للانسجام والفهم في عملية التّلقي، لذا فقد “أدت دورا إيجابيا لا يمكن إنكاره على الصّعيدين الأدبي والاجتماعي، فهذه الرّوايات التقليدية مهمة بدلالتها، وإن تكن فقيرة في بنائها ومحتواها”، في المقابل يوجد نقّاد رافضون لهذا التّنظيم التّقليدي ونذكر منهم “عبد المالك مرتاض”.

رفض “عبد المالك مرتاض” الكتابة التّقليدية لمّا رأى أنّ”محاولة التأريخ للمجتمع بواسطة الكتابة الروائية سعي محموم لم يبرح كتاب الرواية التقليديون يُعنتون أنفسهم به.. لكننا نحن لا يرضينا هذا السّعي، ونراه أولج في سذاجة الكتابة منه في الإبداع الخلاق، مع ما في هذا الحكم من قساوة، فكأننا ببعض هؤلاء وهم يجعلون من أنفسهم مؤرخين للمجتمعات، لا كتّابا يعالجون مشاكل المجتمعات، أو قل: كتابا يمتعون القراء بجمال كتاباتهم في تلك المجتمعات”، هذا يعني أن الذّائقة الأدبية قد تغيرت، ومردّ ذلك أن الكتابة التقليدية لم تعد رؤيتها قادرة على التّعبير عن قضايا العصر الجديد وعوالمه.

أدّى هذا الرّفض والتغيّر بروز أعمالا أدبية حاولت تجريب عوالم جديدة تتماشى مع روح العصر وقادرة على استيعابه، فنرى بأن الكثير من الأدباء قد رحّبوا بهذه المرحلة الانتقالية، فذهب “صلاح فضل” في كتابه (لذّة التّجريب الرّوائي) إلى تصنيف مفاصل التّجريب الروائي في ثلاث دوائر هي: توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق استخدامها في النوع الأدبي، والتعالقات النّصية، وابتكار عوالم متخيلة جديدة، واعتبر أن دائرة تجريب العوالم الجديدة ” تمثل غاية التّجريب”، ويعرفها على أنها: “ابتكار عوالم متخيّلة جديدة، لا تعرفها الحياة العادية، ولم تتداولها السّرديات السابقة، مع تخليق منطقها الدّاخلي، وبلورة جمالياتها الخاصة، والقدرة على اكتشاف قوانين تشفيرها وفكّ رموزها لدى القارئ العادي بطريقة حدسية مبهمة، ولدى النّاقد المتخصص بشكل منهجي منظّم”، وقد تبلورت هذه الرّؤية في ما أتت به الرّواية الجديدة حين عكست تحوّلات الواقع والكائن بأساليب مخالفة للرواية التقليدية.

تجاوزت الرواية الجديدة عوالم التسلية والامتاع، وأتت شاهدة على العصر وفق أساليب وأبعاد جديدة تسعى إلى تجسيد رؤية فنّية للعالم، وفق تحوّلات تتمثل في “التّخلي عن مفهوم الواقع بالمعنى المتعارف عليه ومفهوم الشكل التقليدي الذي لا يخرج عما ألفه القارئ والانطلاق نحو أشكال وتقنيات تحاول استنكار الواقع”، فالتّيمات التي تناقشها الرواية الجديدة، ناقشتها من قبل الرواية التقليدية، والفارق بينهما هو أن توظيفها في الكتابة الجديدة أخذ أبعادا فنية مغايرة للمرحلة التّقليدية، فالجدّة تكمن في مدى توظيف التّقنيات الفنية في العوالم الروائية، كونها الوحيدة القادرة على احتواء هموم العصر الرّاهن، وسوف نتعرّف على تفاصيل هذا القول في الفصول التطبيقية.

نشأت الكتابة الجديدة بوعي جديد، بحكم تغيّرات الواقع السّوسيوثقافية، واستمدت أنساقها الفنية والفكرية من عوالم سردية مثيرة للدهشة والحيرة والتأمل والصدمة، أرادت من خلالها إبراز البعد السياسي بالأساس، والذي يمثل البؤرة الفجائعية في المرحلة الراهنة التي يجتازها العالم العربي بخاصة، لذلك نجد الرواية الجديدة تثير الكثير من التّساؤلات دون الإجابة عنها، وتهتم كذلك بتشخيص القضايا الثّقافية والاجتماعية بإحساس قويّ بحركة الحياة المتسارعة، وتستند إلى الأبعاد الفنّية والفلسفية والعجائبية والأيديولوجية في الرواية لتقديم عوالمها،كما أنها تهتم بالكيان والهوية وتحقيق الذّات، وتحصر اهتمامها في قضايا النخبة المثقفة … إلخ.

لم تعد الرّوائية الجزائرية تهدف إلى التّغيير في الواقع وإعادة التّوازن للحياة كما في الرّواية التّقليدية، بل نجدها في مشروعها التّجديدي فاقدة للأمل في إمكانية تصالح الذّات المغتربة مع الواقع المتشظّي، لذلك فـ”التّجربة التي يجسّدها هذا الشّكل الرّوائي الجديد، تتّصف بالغموض والعبث واللّامنطق، تعبيرا عن غموض الحياة وعبثيتها ولا معقوليتها”، والغاية القصوى للرّوائية هي إثارة الأسئلة -دون الإجابة عنها-حول الذّات والعالم مستهدفة في ذلك القارئ لدفعه إلى تأمل الواقع بوعي ممتلئ وتفكير فنّي جديد.

كل هذا وأمور أخرى سوف نناقشها في ما يلي، لتبيان كيف اتجهت الرّوائية الجزائرية إلى خلق إبداع يستوعب الواقع الجديد ويناسبه، إبداع متميز بأساليبه المقدمة لعوالمه المرتبطة ارتباطا وثيقا بالواقع الاجتماعي المعاصر المتأزّم بقضاياه، وسوف نعتمد على “التّيمة” كأداة تحليلية مركّزة في التّعامل مع النّص من جانبه الموضوعاتي، ونهتم بإبراز أكثر التّيمات حضورا وهيمنة في المسارات السّردية في الرّواية، لنبين كيفية اشتغالها وآليات تحقّقها.