تفصيل

  • الصفحات : 279 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-260-6.

الحمد لله الّذي له البقاء والثّبوت، وهو الحي الّذي لا يموت، الحمد لله الّذي جعل المؤمنين إخوة، وألّف بين قلوبهم، وصيّرهم بعد الفرقة كالبنيان المرصوص، نحمده سبحانه أن جعلنا خير أمّة أخرجت للنّاس وفضّلنا على سائر الأجناس، ونشكره أن شرح صدورنا بالآيات البيّنات، وثبّت دعاة الحق بالبراهين الواضحات، ونوّر قلوبهم بالعصمة والتّوفيق عن إتّباع الشّهوات، وصل اللّهم وسلّم على محمّد النّبي العربي المكتوب في التّوراة والإنجيل المنعوت، الّذي تعاقب لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الأحاد والسّبوت ويتباين زحل واليهموت.

أمّا بعد:

فإنّ الإنسان في دار امتحان وابتلاء تجري عليه المقادير بعلم الله وحكمته، فما من شيء يعترضه في حياته، إلّا له في كتاب الله نورٌ وضياء، فلا يتخبّط ولا يضل من به اهتدى، قال تبارك اسمه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقْهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين[1]، قد نظّم الشّارع الحكيم علاقة الفرد المسلم بغيره من بني جنسه أفرادا ومجتمعات لمّا وضع داخل المجتمع الإسلامي وخارجه تلك الضّوابط الكاملة الّتي تتوافق مع فطرة الإنسان وعقله، والّتي تقول بشرعيّة الاختلاف وأنّه سنّة كونية، وقدرٌ إلهي، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ يَزَلُونَ مُخْتَلِفِينَ…} أي ولا يزال الخلف بين النّاس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، وقال عكرمة: مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري: مختلفين في الرّزق يسخِّر بعضهم بعضا، وقال عطاء: {ولَاَ يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يعني اليهود والنّصارى والمجوس إلّا من رحم ربُّك يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرَّقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وابدانهم، وقوله: ولذلك خلقهم قال الحسن البصرِيُّ في روايةٍ عنه: وللاختلاف خلقهم[2]،لكن غياب فقه التّعامل عند البعض سببا  في رفض الآخر، والجهل بكيفية التّواصل معه، إلى أن ذهب ريحنا وضاق فسيحنا وتفرّقت بنا الأهواء، اشتعلت بيننا نيران الفتن واختلفت أشكالها، فكثرت الحروب الأهلية والإقليمية، ورافقتها المجازر والتّعذيب والقتل وهدم البيوت، وفتن المضلّين، وكل ما ينافي التّعامل الصّحيح صار بيننا اليوم عملة مركزيّة…،[3]ولهذا البحث شأن في واقعنا المعاصر فقد تسلّل إلى أعماق الواقع المجتمعي، ساعيا إلى بيان فقه التّعامل مع المخالف، مهما تكن مخالفته ومهما كان انتماؤه ودينه عبر بيان أصناف المخالفين، والوقوف على هدي القرآن والتّطبيق العملي في سيرة النّبي المصطفى الأمين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، كما يعمل على بيان طبيعة العلاقة بين النّاس حال الخلاف والاختلاف، منبِّها إلى رهافتها وشدّة دقّتها، مذكّرا بشمول الاختلاف لكل جوانب الحياة: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسَنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالَمِينَ،[4] مؤكّدا حتميّته بالدّعوة إلى ضرورة الاندماج معه والتّأقلم مع كل أشكاله وألوانه لأنّ الهروب منه يزيد الطّين بلّة، ويعكّر صفو التّعامل وهو سببٌ مباشرٌ في اشتعال نار الفتنة والفرقة…، وتصف هذه الدّراسة ظاهرة التعّامل وحقيقتها، تصف الدّاء وتقدّم الدّواء المناسب، جامعةً بين الماضي والحاضر، بين أمور الدّين والدّنيا، مراعية متطلّبات الرّوح والجسد، العاطفة والوجدان، حريصة على إحياء كرامة الإنسان، هدفها استعادة عزّته وفضالته: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ،[5]  قال ابن كثير: “جعل له سمعا وبصرا وفؤادا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرّق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصّها ومضارّها في الأمور الدّنيوية والدّينية”،[6] وهنا تكمن أهمية هذه الدّراسة، هذا ولم أعزم على الخوض في هذا الموضوع إلّا بعد استخارات واستشارات وتحرٍّ لبعض الآراء، وقد حتّم الواقع المعيش طرق أبواب هذه المسألة طبعا بعد رغبتي وتوجّهي إلى مثل هذه القضايا الاجتماعية الّتي تلامس الفرد والجماعة والّتي تعمل على الإصلاح والتّغيير، تلقيت تشجيعا كبيرا من بعض الأساتذة الأفاضل وبعض الزّملاء  وأهل الاختصاص لعلمهم بمدى فقر مجتمعاتنا لأليات التّعامل مع المخالف وما ينجر عن ذلك من فرقة وافتراق… جزاهم الله  عنّي خير الجزاء، كما تعرّضت للنّقد والانتقاد من أحد الزّملاء بتعلّة التّكرار والاجترار، فوجدت نفسي مضطرّة للتّوضيح والتّبيين بالإشارة إلى ما صرّح به بعض الباحثين في شأن الاختلاف والتّعامل مع المخالف والآخر على غرار الدّكتور عبد الله الطّريقي الّذي تناول حقيقة التّعامل مع المخالف وأهدافه وأسسه وضوابطه وهو يعد من أكثر المواضيع قربا للموضوع المعمول عليه في هذه الرّسالة قال متحدّثا عن بحثه مشيرا إلى كونه نقطة بداية لمن أراد التّعمق في هذه المسألة: “فلعلّه يكون مفتاحا لدراسات أكثر عمقا وأوسع استيعابا“،[7] وإنّ النّاظر في ثنايا هذا البحث ليدرك الفرق في الطّرح وفي المضمون هذا فضلا عن استناد موضوعي واحتكامه إلى القرآن الكريم ممّا ينفي التّشابه، ثم إنّ هذا الموضوع وهذه القضية تسع مسائل كثيرة خاصة إذا ما تحدثنا عن الأخلاق… بحر مهما كتبت فيه الكتب وألّفت فيه المؤلّفات يظل فاتحا أبوابه أمام الباحثين ومريدي الإصلاح والتّغيير، أمّا عن بقية ما سطّر وخط في الاختلاف فهو لا يفي بما في هذه الدّراسة، وإنّي لمستغربة مما يصدر عن البعض: “بأنّ فلان أتى على كل شيء ولم يترك لغيره ما يستحق الطّرح والبحث”!

وقد اخترت الاشتغال على هذا الموضوع لجملة من الأسباب وهي ماثلة في:

أولا: لم أجد الاهتمام الكافي والشّافي بهذا الموضوع على الرّغم من شدّة الحاجة إليه، في حياتنا عامّة ومعاملاتنا خاصّة، صحيح وجدت كما هائلا من الدّراسات والكتب في الموضوع عُنيتْ بمسألة الاختلاف، كفقه التّعامل مع المخالف للطّريقي، وأدب الاختلاف في الإسلام، وفقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب وغيرها كثير كلُّها مهمّة.

ثانيا: إنَّ “فقه التّعامل مع المخالف” قضيّة جدُّ حسّاسة، تهمُّ الفرد والجماعة في آن واحد الكل من موضعه ومن جهته مسؤول، هذا فضلا عن كونها إضافة علميّة تثري المكتبة العصريّة، وتدخل ضمن دائرة القضايا الواقعيّة المجتمعيّة الّتي يحتاجها النّاس اليوم.

ثالثا: ضرورة التّعرّف على ضوابط التّعامل مع المخالف، وما يحتاجه تحقُّق ذلك من فهم وفقه.

رابعا: تعيش أمّتنا الإسلاميّة – في العصور الأخيرة – مرارة نتجت عن تراكمات الأيّام والأحداث، والتّدافعات المختلفة، حتّى كبرت الفجوة واتّسعت بين أفرادها وتعمّقت جراحها في مختلف الفصائل والمسميات، بسبب غياب آليات التّعامل والجهل بفنونه.

خامسا: أيضا من الأسباب الّتي حملتني على اختيار هذه الظّاهرة الاجتماعية، ما وصلنا إليه، وما بتنا عليه من تديُّن مغشوش أُسِرَتْ به أنفسنا، وكأنَّ المولى سبحانه جعل منَّا أجهزة تقيس إيمان النَّاس وكفرهم!

سادسا: وُجِّهَ الإسلام ونصوص القرآن المتحدّثة عن الأمّة إلى جماعة بعينها، فتنازعت الأمّة، وتناحرت الشّعوب وانتشرت بيننا مفردات التّكفير والتّبديع والتّفسيق بحيث لم تعد “شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله” كافية لوصف الأخوّة حقوقا وواجبات، ولا لصلة الأرحام، ولا للتّعاملات!

سابعا: تحوّل الاختلاف بوجهات النّظر من ظاهرة صحّية تغني العقل المسلم بخصوبة رأي وعمق تمحيص، واطلاع أوسع على وجهات نظر متعدِّدة عند مسلمي عصر التّخلُّف إلى مرض عضال وسمٌّ زعاف مآله الفرقة والتّشتُّت، بل صُيِّرَت المظاهر فيصل بين الكفر والإيمان عند البعض طبعا!

ثامنا: التّدنّي الأخلاقي والخروج عن سبل الحق والرّواح في طرق الهلاك وما لا يُحْمَدُ عُقْبَاهْ، حتّم الحاجة إلى تسليط الضَّوء على ما للإسلام من أنظمة تَسَعُ شَتَّى ألوان الاختلاف وأنّه محتوٍ للمخالفين مهما تكن مخالفاتهم.

تاسعا: ولمَّا كانت حاجتنا للتّفريق بين المخالفين ومعرفة أنواع الاختلاف ماسّة، جعلتُ من هذه الدّراسة مناسَبَةً لبيان ذلك، فيتيسّر لنا التّمييز بين سنّة الاختلاف وأنّه سمة للتّعارف والتّعاون، وذلك مؤيِّدٌ نقلا وعقلا، فنحسن التّعامل مع المخالف…، وبين شؤم التّنازع وما ينجرُّ عنه من افتراق.

عاشرا: يُعدُّ الهروب من مشكلات الواقع والاكتفاء بما يَخُصُّ الذّات “الأنا” في حدّ ذاته مشكلة جعلتنا قطعا، فتّتنا، بل أضحى الإسلام عبارة عن رواية تعجيزيّة مستحيل تحقيقها بين البشر، صَعُبَ تكرار مضمونها!، وهذا الآخر دافعا اضطرّني لِطَرْق أبوابِ هذه المسألة.

أخيرا: إنّ بعدنا عن بعض جزئيّات القرآن، وعن السنّة النّبوية المطهّرة، وجهلنا بفقه التّعامل، وغياب دور العقول…، سببا في انتشار المعاملات العشوائيّة والاعتباطيّة!، ممّا ضاعف حاجتنا إلى مجتمع راشد، مجتمع مسلم بحق قولا وعملا، مجتمع تُغَاثُ فيه البشريّة وتنعم، أقول ذلك لأنّ الأمّة جوهرُ البناء الحضاري في الإسلام، وذلك ما حفّز همّتي للخوض في غمار هذا الموضوع والبحث فيه والعمل جاهدة على بثّ النّفع والفائدة، محاولة استثارة النّفوس وإيقاظها، راجية استفاقتها، متمنّية عنايتها واهتمامها باحتيّاجات أمّتها ومتطلّبات واقعها، وقد انطلقت بجملة من الأسئلة:

– لمّا أتقنا فن الاختلاف وافتقدنا آدابه، واكتسبنا المعرفة وافتقدنا خُلُقُها، وامتلكنا الوسيلة وضيّعنا الهدف، تعدّدت أسئلتي وبدأت تتوالد فتكاثرت، تُرى ما سبب ذلك، أهوَ الجهل وغياب العلم والمعرفة؟!، وإذا كان الفقه هو العلم والفهم فلمَ لا يُسْلَكُ سبيلُه ويُتَّخّذُ وسيلة للإصلاح ومنطلقا للتّغيير، كلٌّ يُغيِّرُ من نفسه فيفقهها بإكسابها العلم والمعرفة؟؟

ولمّا عُدَّ التّعامل مسألة مهمّة وقضيّة شائكة حَظيت بكبير عناية قديما وحديثا، فإنّني أتساءل عن المراد من مفردة “تعامل“، وعن علاقتها بالآخر وبالنّاس، وعن دورها في تحقيق الإصلاح قَارِنَةً إيَّاها بالمخالف وبالفقه باحثة عن خيطٍ رفيعٍ يوصلني إلى معرفة حقيقة المخالف وعلّة الاهتمام به؟؟

وإنّني لمذهولة، حيّرتني الأسئلة وأضناني التّفكير في الّذي صرنا إليه وبتنا عليه من جهل بأساليب التّعامل مع النّاس ولا سيما المخالف منهم؟؟

كيف لأمّةٍ مسلمة خيّرها ربُّ الكون على غيرها من الأمم فكانت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} أن تنسى ما أُمرت به من وحدة واجتماع وتعاون وتعارف وتثاقف…سلم وسلام…؟!، ولتزداد أسئلتي وتتدافع كلّما فتحت بابا للبحث عن إجابة ما، ففيم الاختلاف والتّشاحن والتّقاتل، وما الدّاعي إلى العداوة والوصية الواحدة الصّادرة للجميع ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تتَفَرَّقُوا فِيهِ؟؟

وإذا كنّا على علم ودراية بكون فلاحنا ورُقيّنا مناط بالعلم والمعرفة “بالفقه والتّفقّه” والالتزام بالمنهج القرآني والنّبوي في علاقاتنا بالآخر فلماذا تركناه وورثنا بدله البغي والاختلاف وتفريق الأديان؟!، أليس القرآن الكريم بكافٍ للإصلاح وقد جمع بين متطلّبات الدّين والدّنيا، الرّوح والجسد…؟، لماذا لا نتّخذه منطلقا للتَّغيير والتقدُّم وقد رُوعِيَتْ فيه كل الاختلافات والقدرات العقلية؟؟، أوَليس النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قرآنا يمشي؟، أوَلم يكن رمزا للتَّطبيق العملي وقدوة حسنة؟، فلمَ لا نتّبعه ونسير على خطاه في علاقاته بالنّاس ولا سيما المخالف منهم؟، لم لا نتعلّم ونعتبر ممّا في دعوته من دروس ومقاصد؟؟

وفي خضم هذا الّذي نحن فيه وذاك الظّلام المدلهم، الّذي طال العلاقات الإنسانية نتيجة جهل سحيق بضوابط التّعامل وبتغييب الفقه في تسيير أمور الدّنيا والدّين، وجدت من الواجب عليْ البحث عن سبل للخروج من تلك الدّائرة المظلمة.

وفي رحلة البحث وجدّت كمًّا هائلا من الدّراسات والكتب والبحوث في مسألة الاختلاف ضاعفت مسؤوليتي وضيقت علي لكونها تلامس جوانب مما اخترت الاشتغال عليه لأجد نفسي مضطرة للمجيء بما هو مختلف وما هو مغاير، وإنّها لفي غاية الأهميّة استفدت منها وعرفت أمورا كثيرة في شأن الاختلاف وأسبابه، وأنواعه، ما يسوغ منه وما لا يسوغ، كأدب الاختلاف في الإسلام، وفقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام وغيرهم …، وثمّة كتب أخرى رجعتُ إليها تعلَّقت بالتّعامل مع غير المسلمين، وفيها بيان لسماحة الإسلام في التّعامل مع غير المسلمين مثال ذلك: سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين، ووسطيّة الإسلام ودعوته إلى الحوار للأستاذ آل نوب، وكتاب الإسلام دين الوسطيّة والفضائل والقيم الخالدة لعبد السّلام هراس، هذه مجموعة من المراجع استحضرتها هي وبعض العناوين الأخرى ذات الصّلة في حديثي عن المنهج القرآني في الدّعوة وفي معاملة المخالفين، وليس ذلك بكافٍ لأنّه وإن خدم بعض عناصر البحث فإنّه لم يخدم البعض الآخر من الرّسالة، فواصلت رحلة البحث والاطلاع فيما تعلّق بالدّعوة “فقه الدّعوة إلى الله”، فعثرت على عددٍ مهمٍ من المراجع كفقه الدّعوة الإسلامية في الغرب ووجوب تجديدها على الحكمة، وأصول الدّعوة وطرقها وأخرى كثيرة توزّعت في أركان البحث حسب ما تقتضيه الحاجة، وبما أنّني في إطار البحث عن “فقه التّعامل مع المخالف” فقد حاولت استحضار الكتب الّتي تناولت جوانب التّعامل والمخالفين وعنيت بالعلاقات الإنسانيّة وبالتّواصل وفن التّعامل، كتب معاصرة تحاكي الواقع وقضاياه، تلامس الفرد والجماعة، تعمل على علاج المشكلات العامّة والخاصة، كفقه التّعامل للطريقي، وفن التّعامل مع النّاس، وكيف تكسب الأصدقاء وتؤثّر في النّاس لديل كارنيجي، وعلى الرّغم من كلّ ذلك فإنّه لم يسد رمق هذه الرّسالة ولم يتوّقف الاشتغال عليها بما فيه، فواصلتُ البحث لإتمام ما تبقى من أجزاء الدّراسة، فكان السّبيل أن غيّرتُ الاتّجاه نحو كتب السّير والتّاريخ الإسلامي لاسترجاع بعض الأمور واستحضارها كشواهد عمليّة، كانت قد صارت على أرض الواقع، وطُبِّقت، “المنهج النّبوي، وثيقة المدينة“، هذا ولم أتحدّث عن بقيّة المراجع من معاجم وقواميس وكتب فقه وتفسير وآيات قرآنيّة هي أساس هذه الدّراسة “منها المنطلق وإليها العود والاحتكام“، لكنّني خصّصت بعض تلك المصادر والمراجع بالذّكر مع بعض الإشارات التّلميحيّة للتّوضيح فلا تُعْتَقَدُ المثلية بينها وبين عملي هذا، والحال أنّها متشابهة، متقاربة بحيث كتاب واحد يغنيك عن غيره من الكتب خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بالاختلاف وأنواعه وأسبابه، وسماحة الإسلام ووسطيّته…، والجديد في هذه الرّسالة أنّها تتناول ظاهرة في غاية الرّهافة، ظاهرة تتعلّق بجانب المعاملات والعلاقات الإنسانيّة، تراوحت مصادرها ومراجعها بين القديم والحديث، “كتب قديمة وأخرى معاصرة تلامس الفرد والجماعة”، تقف على “حقيقة التّعامل بين النّاس عموما وعلى وجه الخصوص: نظرات في الواقع الرّاهن، وما فيه من فساد بات أسلوبا للتّعامل مع المخالف”، ثمّ تقدّم الدّواء بالعودِ إلى الكتاب والسّنة” من خلال المنهج القرآني والمنهج النّبوي في التّعامل مع أهل الكتاب في العهد النّبوي أنموذجا”.

وقد عرضت ذلك وفق منهج علمي عصري، قِوَامُهُ التّحليل والوصف والمناقشة والاستقراء والاستنباط، والنّقد يخاطب الفرد والجماعة، يحاكي أهل العلوم الدّينية

وخاصّتها، موجّها إلى كل من يحمل هم الأمّة الإسلاميّة، وإلى الّذين انشغلوا بمصالحهم الشّخصية والدّنيوية، ونسوا حاجة أمتهم – الإسلامية – ومتطلّبات واقعهم، توخّيت فيه سهولة العبارة وسلاسة الأسلوب ولينه، والاستثارة أحيانا أخرى، كثيرا ما عمدت فيه إلى الاستدلال بالنّصوص الشّرعية والأحاديث النّبوية، وصاحبتُ في معظم الأحيان الآيات بالتّفسير تجنّبا لما قد يحدث لدى القارئ من لبسٍ في الفهم، إلا الّتي تكرّرت في أكثر من موضع فقد اكتفيت بالتّفسير الأوّل، هذا فضلا عن حرصي على الإشارة إلى أهم المصطلحات بالتّعريف والتّوضيح وذلك جليٌّ في الكلمات المفتاحية في كل عنصر أتيت عليه، انطلقت بتعريفها قبل البدء في العنصر المعمول عليه “المطلب وما يُكوِّنُهُ من عناصر تجزيئية، مريدة الإيضاح والتّيسير”، هذا إضافة إلى شرح الكلمات الصّعبة والغريبة، وقد تعمّدت التّنويع في المصادر والمراجع فكانت تقريبا من اختصاصات مختلفة كما ذكرت فيما تقدم راعيتُ بذلك تنوّع التّوجّهات، ولبيان مدى ارتباط هذا الموضوع بالواقع ومساسه بجل أصناف النّاس وأنواعهم، وإنّك لتجد فيه إضافة إلى ما تمت الإشارة له: المعاجم والقواميس، والقرآن والسّنّة، والفقه والتّفسير، والسير والتّاريخ الإسلامي، وعلم المقاصد، والعربية، ذلك إلى جانب بعض المقالات العربية وواحدة باللّغة الفرنسية:  ( L’Islam et le respect des autres croyances).

كلّها كانت لبنة في تأثيث هذه الدّراسة وإثرائها، عزّزَتْ إلى جانب الواقع المعيشِ مصداقية الموضوع المطروح وزادته قربًا من النّاس وقضاياهم الفردية والجماعية، الخاصّة والعامّة، وليس ذلك وحده، بل تضمّنت هذه الرّسالة إشارات إلى بعض المعاملات حال افتقارها إلى فقه التّعامل وآليات التّواصل وأساليبه، كما اعتمدت بعض البحوث والظّواهر المعبّرة عن كون الفساد بألوانه أضحى أسلوبا للتّعامل، ثمّ البحث عن حلولا من القرآن والسّنة تتناسب والعقل البشري وقدراته، وقد نُظمت هذه الدّراسة وفق جملة من المناهج:

1) المنهج التّحليلي الوصفي: ويظهر ذلك في دراستي لبعض الظّواهر الاجتماعية، وفي تسليط الضّوء على حقيقة التّعامل بين النّاس عموما وعلى وجه الخصوص، ويمكنك أيضا التّعرُّف على هذا المنهج في حديثي عن المخالفين وأنواعهم وعن المنهج القرآني والمنهج النّبوي دونما مبالغة ولا استنقاص، بل عملت على ذكر الأسباب والخصائص وما يترتّب عن ذلك من نتائج وما يتولّد عنها من مضاعفات ومدى علاقة ذلك بالإنسان، خاصّة إذا ما تحدّثنا عن التّعامل والمخالف، هذا إلى جانب ما في الدّراسة من استنتاجات وانتقاء للمعلومات، وفي اعتمادي على تحليل النّتائج من أجل المستقبل، للخروج بما يعود بالنّفع على الإنسان مستقبلا وتحسين أسلوب تعامله.

2) المنهج الاستنباطي: وذلك جليٌّ في اقتباس جملة من المقولات والتّفاسير، واستنباط ما يخدم وما ينطبق على الجزء المبحوث، حسب ما تقتضيه الحاجة، وتلك ظاهرة رافقتني تقريبا في أغلب الخطوات الّتي خطوتها في هذا البحث.

3) المنهج الاستقرائي: يظهر في ابتدائي من الجزء إلى الكل، فقد انطلقت بالتّعريف بالكلمات المفاتيح والمصطلحات الرئيسيّة لمّا خصّصتها بفصل تمهيدي، ثمّ ألحقت ذلك ببعض التّفصيلات في بقيّة الفصول.

4) المنهج التّاريخي: يُعدُّ موضوع البحث “فقه التّعامل مع المخالف” ظاهرة اجتماعية، حتّمت عليْ اتّباع المنهج التّاريخي، فعدت إلى أصول التّعامل وما كان عليه سلف الأمّة من خلال اطلاعي على كتب التّاريخ الإسلامي، وفي الإشارة إلى بعض ما تُرِكَ من أثار ماديّة وثقافيّة، ذلك أنّ معرفة تاريخ المجتمع ضرورية لتحقيق الفهم، كما سلّطت الضّوء على التّغيُّرَاتْ الّتي طرأت على الأمّة، وذلك حتّم استرجاع الماضي وهو ما يتأكَّدُ في (المنهج القرآني في الدّعوة، والعهد النّبوي وكيفية التّعامل في تلك الفترة التّشريعية)، وقد صاحبتُ ذلك بالتّحليل والتّفسير ممّا عمّق الدّراسة وجعلها شاملة للماضي والحاضر.

5) المنهج النّقدي: وذلك ماثل في نقدي لحقيقة التّعامل بين النّاس وفي وصف الواقع الرّاهن وما يعانيه من فساد طال كل جوانب الحياة وهدّد جل مقوّمات الوجود إلى أن صار من أكثر الأساليب تداوُلا بين النّاس، نكث العهد، الكذب، الحسد، الغش، القتل، الضّرب، الاعتداءات…، أساليب بها يُعامِلُ النَّاس بعضهم بعضا.

وقد انتظمت عناصر البحث “فقه التّعامل مع المخالف في ضوء القرآن الكريم: دراسة موضوعية“، وتأثَّثت وفق خطَّةٍ، تخيّرتها سعيا منّي إلى تحقيق الفائدة والنَّفع لدى القارئ والمتلقي، وإصلاح ما يمكن إصلاحه. وفق خطة اشتملت على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وملاحق وفهارس علمية وفهرس المصادر والمراجع:

مقدّمة:

تمّت الإشارة فيها إلى حتمية الاختلاف وضرورة التّأقلم معه، مع التّنبيه لما عليه العلاقات الإنسانية من رهافة. إلى جانب التّركيز على الغاية المرجوة من هذه الدّراسة وركائزها الّتي ارتكزت عليها.

 

الفصل الأوّل:

تمهيدي وفيه ثلاثة

مباحث في كل مبحث مطلبان

المبحث الأوّل: تعريف الفقه لغة واصطلاحا:

المطلب الأوّل: تعريف الفقه لغة

المطلب الثّاني: تعريف الفقه اصطلاحا:

المبحث الثّاني: تعريف التّعامل لغة واصطلاحا:

المطلب الأوّل: تعريف التّعامل لغة:

المطلب الثّاني: تعريف التّعامل اصطلاحا:

المبحث الثّالث: تعريف المخالف لغة واصطلاحا:

المطلب الأوّل: تعريف المخالف لغة:

المطلب الثّاني: تعريف المخالف اصطلاحا:

 

الفصل الثّاني: توصيف الواقع

في التّعامل مع المخالفين

وفيه ثلاثة مباحث في كل مبحث مطلبان:

المبحث الأوّل: حقيقة المخالف:

المطلب الأوّل: المخالف خلاف التّضاد:

المطلب الثّاني: المخالف خلاف التّنوّع:

المبحث الثّاني: توصيف الواقع الرّاهن في التّعامل مع المخالف:

المطلب الأوّل: حقيقة التّعامل بين النّاس عموما:

المطلب الثّاني: التّعامل مع المخالف على وجه الخصوص:

المبحث الثّالث: فقه التّعامل ودوره في تحقيق التّوازن بين المختلفين:

وفيه مطلبان:

المطلب الأوّل: ضرورة التّوازن الاجتماعي في التّواصل البشري

المطلب الثّاني: أهمّية ترشيد الخلاف:

الفصل الثّالث: منهج القرآن

في التّعامل مع المخالف:

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: شمولية دعوة القرآن الكريم في التّعامل مع المخالفين وفيه مطلبان

المطلب الأوّل: الدّعوة وأثرها في ترشيد التّعامل مع المخالفين.

المطلب الثّاني: أساليب القرآن في دعوة المخالفين.

المبحث الثّاني: وصف المنهج القرآني وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأوّل: خصائص المنهج القرآني:

المطلب الثّاني: الحجج النّقلية.

المطلب الثّالث: الحجج العقلية:

المبحث الثّالث: التّعامل مع أهل الكتاب في العهد النّبوي أنموذجًا

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأوّل: إثبات صحّة الوثيقة:

المطلب الثّاني: المضمون والدّلالة:

المطلب الثّالث: المنهج المقاصدي في التّعامل مع المخالفين:

ثمّ تأتي الخاتمة وهي خلاصة البحث ونتائجه، فيها استجمعت أهم العناصر مع بعض التّوصيات، تركت عليها بصمتي الخاصّة بجمع وترتيب، وهما من أساسيّات التّأليف، وإنّ عملي هذا وليد عقل نسبي قابل للتّطوُّر والزّيّادة والنّقصان، عساه يكون مفتاحا للخوض في مثل هذه المواضيع، وقد يكون مرجعا به يرد شاردا ومنه يستفاد طالبا…، ما أردت إلاّ الإصلاح متّبعة جميل وصاياه: {إِنْ أُرِيدُ إِلّاَ الإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[8].

ويليها ملحق قصيدة وبعض الصّور المعزّزة والمقرّبة لبعض ما ذهبتُ إليه وتحدّثتُ عنهُ..، وبعدها وثَّقْتُ ذلك في جملة من الفهارس العلمية:

– فهرس الآيات القرآنية

– فهرس الأحاديث النّبوية

– فهرس الآثار

– فهرس الملاحق

– فهرس الموضوعات

وقبلها فهرس المصادر والمراجع: فيه توثيق لكل المصادر والمراجع الّتي عدت إليها من أوّل الدّراسة إلى آخرها، وقد اختلفت وتنوّعت حسب الجزء المبحوث.

[1]  سورة هود: آية: 118

[2]ابن كثير أبو إسماعيل بن عمر القرشي البصري ثمّ الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، “تفسير القرآن العظيم“، تحقيق: محمد حسين شمس الدّين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، ط/ 1: 1419هـ، ج4، ص310.

[3]انظر الملحق الثّاني: الصّورة السادسة والصورة السابعة: اعتمدتهما لبيان طبيعة العلاقة بين النّاس في مواقع وحالات مختلفة ويُعدا شاهدا على حقيقة غياب فقه التَّعامل، فيهما تأكيد لما كنت قد أشرت إليه من إساءة للآخر، بحيث الضّرب والقتل والتّخريب والتّدمير من أهم أساليب التّعاملٍ مع المخالف!

[4] سورة الرّوم: آية: 21.

[5] سورة الإسراء: من الآية: 70,.

[6]ابن كثير، “تفسير القرآن العظيم“، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنّشر والتّوزيع، ط/ 2: 1420هـ – 1999 م، ج5، ص97.

[7] الطريقي، “فقه التّعامل مع المخالف“، ص9|.

[8]  سورة هود: آية: 88