تفصيل

  • الصفحات : 236 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2019،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الاولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-484-90-5.

يُعدُّ الشّعر على اختلاف توجهاته البنائية فضاء رؤيويا تتسع فيه تقلبات الهاجس الذّاتي للإنسان، وما يتناثر من الحساسية النّفسية والاجتماعية والتّاريخية…تلك التّي نجدها مندسة في فضاءات الرّؤية الشّعرية، حيث يبدأ مشروع القصيدة من حيز ذاتي غامض ومعقد، قد تتصارح في أحضانه المتناقضات وتتزامل إلى حد بعيد، إذ يستلهم التّرسيم الشّعري ما أمكن من أهازيج الإشراقات الجوانية التّي تنبجس منها طفرات الذّائقة الذّهنية والفكرية والنّفسية…، سواء كانت مستفزة أوغريبة، فترتسم توقيعات الخلفية الميتافيزيقية اللّغوية داخل لمعة من الخيال الذّي قد نجده يحتكر تارة، ويحايد تارة، ويتمرد تارة أخرى؛ فتندلق تلك الكتابات والأبيات المشحونة بأطياف التّأسيسات”الميتانفسية” المعبرة عن الشّواكل الحقيقة للتجربة الشّعرية التّي تترصع بالحيوية وجلاء المعنى وإشعاع الجمال، حيث يكون لشعلة الانتظام الوزنيّ والإيقاعي أثر بالغ في تحقيق التّفاعل، إذ تحتبك قمم الانفعالات النّفسية الصّادقة في خريطة اللّغة، وتستحضر اللّحظة الواعية في إطار تتواشج فيه مختلف الأبعاد ؛من فرض التّواصل الإنساني عبر دينامكيته الفلسفية، وتوقيعات الشّطحات الفكرية الحبلى بفلسفة الضّياء والجمال .

فالشّعر ضرب من ضروب الحس البشري المرهف، إذ إن الإنسان منذ أن دب على هذه الأرض، وهومجبول بين الفينة والأخرى على الاستئناس بتلك النّتوءات المموسقة من حضن الطّبيعة .وقد انثال الشّعراء على تلابيب النّظم وأشراطه بين جنى الوجدان، وكأنه رحلة لغوية سندبادية دائمة لا تتوقف إلا على تخوم الأزلية الأسطورية للرسائل الإنسانية الخالدّة التّي تموج في رحاب ذاكرة الأمم والشّعوب، مما يدل على التّلازم المتين بين الحياة البشرية، ورسالة الشّعر الذّي على أعقابه ومقاصده توهجت عدة صروح فكرية وتاريخية وثقافية وحضارية، تطرزت بها صفحات التّاريخ المشهود…وعليه فقد جادت القرائح بأقاريض أصل وفصلٍ وفضلٍ ؛إذ التّقت في نسائجها شهب أتحفت بما تواشج فيها من فتق اللّسان والصّوت الرّنان، تحت خيمة درر أدبية مرصعة بوشائح لغوية تنسدل من التّنضيدات العروضية والاختيارات الصّوتية…؛ لتصول وتجول في المتون الشّعرية كترسيمات حدود، ونفحات وجود تنسل من مناهل البشر الثّرية بجنى الجداول الرّقراقة، والحدائق الرّنانة بالفهامة والشّهامة…وناصعة الوجود بالرّسائل الرّائقة، والتّمثلات الفائقة من نصيع التّجارب والمِرَاس، ومن تمائم الفكر، وشوارد اللّغة المرنقة والمستلة من العقل الأريب المموسقة بنظم رائق بالطّرب سائق يستقي من الشّعور أهازيجه في ترويحٍ فائق ساَلِكْ تطرق به وعلى هديه حقائق الذّات والحياة والكون في أكثر من بعد ممكن.

والملاحظ بعد تقفينا للتّمثلات البحثية ضمن هذا الكتاب؛ الحماسة التّي نلمسها في تحليل القصائد من قبل الباحثين، وهم يصارعون الزّمن للكشف عن ما فيها من شواكل نظمية وقيمٍ بهيةٍ، فالقصائد قشيبة بعالمها، مشرقة بحصاد أصحابها، نستنشق فيها عطر الإنسانية السّامية، والهوية والانتماء، في تناقضاتها وتحولاتها، وفي إيقاعها وسكونها الذّي استل جوهر الحياة وكنهها، فتَجلت بعظمتها المفرطة انبهارا تحت سماء الأدب.إذ تتمثل أهمية المدونات الشّعرية في أنها تفضي بزادها الوفير إلى تشكيل صورة نفسية للذات الجمعية، وصورة ذهنية بانورامية تحيد كثيرا في بواطنها وشواكلها عن الألفة والعادة بهندسة شعرية واستراتجية فكرية وفلسفية تعنى بالعمق في تناول القضايا الإنسانية على اختلافها، وتنوع تمفصلاتها، حيث يعنى الشّاعر في طرح مكنوناته الوضاءة بكل تفصيل يخدم رؤيته ومرجعيته وقصديته بالدّرجة الأولى.

فاليوم تعد الدّواوين الشّعرية من أهم القطوف في تراثنا العربي وغيره من تراثات العالم، لما لها من أثر في ترسيخ جملة من فعاليات التّواصل الثّقافي والحضاري بين أفراد المجتمعات، فقد عكف الشّعراء كغيرهم من الأدباء على تجميع ثروة معرفية حضارية مشوقة تناثرت كَطَّحَا الشّغَفِ في حفرياتهم الشّعرية النّفيسة، فجدوا في سبك شرائطهم الشّعرية وتجويد أسلوبها، واستلال الحقائق ببجرها وعجرها في عقدٍ نظميةٍ تعنى بتطويقِ أمشاجها، وتنظيمِ عقودها، وتسييحِ مفرداتها، وتجزيلِ معانيها، وتشحيذِ فكرها ومعارفها، وتدبيجِ مقاطعها، وافتضاضِ أسرار الذّات والحياة والكون في طي الأضابير العارمة الرّاقية التّي تسموبها إلى عالم الأدب، وترتقي بها إلى ضفاف الجمال الفني بأزكى الجَنَى من منقولها ومعقولها بين شذى الحرية، ومسارح النّظر المؤنقة بإفصاح يغني عن الإيضاح، مما ينم عن أسلوبها الحيوي المنبثق من صدق التّجربة الوجدانية ؛ فكانت أشعارهم عقدا نفيسا في جِيدِ التّاريخ، وغرةً ناصعةً بحَصَافَتِهَا وفَصَاحَتِهَا وصَفَحَاتِهَا الغرةِ بأطياف وضروب من المعارف العقدية والتّاريخية والاجتماعية، والسّياسية والجغرافية والفقهية واللّغوية والأدبية..حتى أضحى الشّعر يمثل رافدا من روافد الأدب على مر التّاريخ ومصدرا مهمّا لمعرفة ما ينبجس من أواصر الشّاعر مع ذاته من جهة، وعلاقة ذاته مع الآخر من جهة أخرى، فكانت القصائد كروضة فريدة تتراوح في عوالمها الأدبية كل نفحات العطاء والجد والقيم الرّوحية والمشاعر الإيمانية، وبعض تمثلات التّجارب والخبرات الإنسانية المرصعة بنتوءات من الطّرافة والمتعة والنّوادر…، حيث أضحت القصيدة في تمازج مضامينها كبوتقة للفنون والمعارف تضم ألوانا من مجاميع الفنون، فباتت تحتكر هذا، وتتمرد على ذاك لتبني تشكلها المجهول الذّي تمرد على كل تقليد، إذ باتت القصيدة تنفث بزخرها بين الخُبر والخَبر كل طفرات الوعي ورواسب التّحول الحضاري والثّقافي والاجتماعي …

وهكذا فقد حفل التّراث الأدبي الشّعري العالمي بظواهر وقضايا ترسي بأبعادها المختلفة تفوق العقل في مجال الأدب، إذ كان  للخطاب الشّعري هالة قداسة، فكان له من الاهتمام ما لم ينله النّثر، فأضحى الشّعر في نظر الكثيرين أكثر حظًّا من فن النّثر، بالرّغم من أن هذا الأخير احتفل بفيض من الإتقان والتّجويد، إلا أنه لم ينل من منزلة الشّعر.وعليه فلقد حقق الأدب الشّعري بحصاده الفكري والمعرفي تراثا راقيا ينم عن أبعاد التّفاعل البشري، حيث جاءت معظم المدونات في أبهى صورة خلاقة يرسمها طيف الإشعاع الحاصل بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والطّبيعة والحياة، إذ تغطي النّصوص الشّعرية قرونا غابرة، فكانت بمواضيعها وامتدادها مثالا يحتذى وبحق؛ لكونها تحمل تمثيلات فيها ما فيها من زمر الصّدق، وهمس العفوية، وأدب النّقد، ووعي التّثاقف…، وبذلك فإنها التّاريخ الفعلي للصِّلات الوطيدة بين بؤر الوجدان والواقع والخيال على مرّ التّاريخ من خلال تلك العلاقات المعقدة التّي تشكلت صورة مشرقة وجسرًا للعبور إلى الرّوح والذّات والهوية.

ولذلك جاءت هاته الخطوة النّبيلة، وكانت النّفس تواقة لدراسة المدونات الشّعرية المترامية الأطراف باعتبارها معلما ومصدرا إشعاعيا ثقافيا وحضاريا، وهذا الأمر يدعوبإلحاح إلى ضرورة أن نتفيأ ظلال كتب الشّعر بعيدا عن الاختلافات الواردة ضمن المدونات الشّعرية في الاتجاه والتّقدير والنّزعة…، فننهل من معانيها النّادرة، ونعب من مكانزها، وننتقي من فوائدها، ونقتنص من دررها من خلال تقفي قيمتين عظيمتين:قيمة علمية تنبثق منها مختلف الأطر التّاريخية والجغرافية والاجتماعية…تلك التّي تدخل ضمن نطاق الظّواهر الشّعرية، وقيمة أدبية تتوهج في معمار القصيدة الشّكلي والمضموني، فلقد أضحى النّظم الشّعري مرجعا أساسيا ينبجس من منابع ثرة تتلألأ فيها كل معالم الأصالة والعراقة.إذ إن أهمية الدّراسة في المدونات الشّعرية لا تتأتـى من كونها تسجيلًا لطفرات وجدانية أورؤى ذاتية أوأطياف خيالية أولتأريخ ذاتي أوجمعًا لنماذج أدبية…، وإنما تأتي الأهمية من كونها نصوصا للهوية، وكأن هناك رُوحًا واحدة تدبُّ في مختلف المدونات الشّعرية القيِّمة فتدوي بزمجرتها كل قارئ يئن للأصالة العريقة في أبهى حلة لها، وذلك ما أكدته دراسات هذا الكتاب من خلال تنقُّل القَائِفِ القَوَامِ بين دروب الفن الشّعري .

ويأتي هذا الكتاب كسجل حافل بالأبحاث التّي لها نكهتها في تقصي درر لا يعاق إشعاعها المتأصل في شفرات الهوية والانتماء المتقولب في النّتاج الشّعري، إذ يتوخى غايتين، أولهما محاولة إلقاء الضّوء على تاريخنا وتراثنا العريق وشعرائنا العرب وغيرهم من الشّعراء …، وكذا الإسهام في الكشف عن زوايا من الفكر والمعرفة والأدب والتّاريخ في الحفريات الشّعرية التّي تناثرت على فرش العصور، حيث إن الحديث عن القطوف الشّعرية في نظرنا هوحديث عن ذاكرة جماعية تراثية مطمورة في غياهب المدونات الشّعرية التّي أغنت وأثرت الفكر الإنساني .وثانيهما محاولة التّعريف بدواوين وشعراء ؛ ولذلك يعنى الكتاب بالدّراسة والتّعريف والتّحليل واستخلاص النّتائج، حيث تنوعت المناهج التّي توسل بها الباحثون بين الوصفي والتّاريخي والتّحليلي…في محاولة لتقصي الأغوار والنّفاذ إلى ما تشتمل عليه الأقاريض الشّعرية من فسيفساء فكرية ومعرفية، حيث إن الرّغبة في تقديم ما يتعلق بنصوص الشّعر وأصحابها هي التّي وجهت ورسمت معالم الكتاب، وحددت محطاته التّي تعنى بفن الشّعر من خلال النّفاذ إلى مضمونه ومطموره وحيثياته وقضاياه وظواهره، وميا دينه واتجاهاته ورواده…

وأخيرا فإننا نعتقد أن هذا الكتاب هومحاولة متواضعة لحث الدّارسين وإثارتهم واستفزاز عقولهم للإقبال حول التّراث الشّعري العريق بعوالمه الفكرية والمعرفية سيما ما يقع في دواليب الذّاكرة الثّقافية والاجتماعية والحضارية…ككل تلك الغنية بالعوائد والفوائد، بما تقدمه من زاد فكري، حيث أثرت ولا تزال تثري المكتبة العربية بمصنفات ثرّة نزرة ترفد أجيالًا وأجيالًا، وتلهمهم التّراث العتيق.وكلنا رجاء أن يحظى هذا الكتاب باهتمام الدّارسين والمهتمين.وأن يكون هذا إضافة جديدة في ميدان البحث العلمي والتّعريف بالتّراث الشّعري العربي والأمازيغي…