تفصيل

  • الصفحات : 200 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-671-0.

مقدمة:

ليس من الهين بسط مفهوم تام وناجز للفلسفة الرَّاهنة وحصره في فترة زمنية مُحَّددة البداية والنِّهاية ومعالمها لم تتبلور بعد؛ كيف لا وتاريخ الفلسفة يضع المؤرخ للفكر الفلسفي أمام المشكلة ذاتها التي أثارتها مشكلة التاريخ الكلِّي عند “هيجل”، فلا تمنح الاغلاق والاكتمال نفسه الذي يمنحه النص للفيلولوجي، ومع ذلك بوسعنا تحديد أهم الملامح المُميِّزة لهاته المرحلة بما هي لحظة فاصلة تقطع صلتها مع كل تقليد سابق وتُؤسِّس لممارسات جديدة.

لا نُماري في أن الفلسفة الرَّاهنة تميل أكثر إلى الممارسة والتَّطبيق وتتوجَّه نحو الاهتمام بالحياة ومشكلاتها المعيشة، مُستبعدة، بذلك، المذاهب الفلسفية الكبرى والأنساق المغلقة؛ فكثيراً ما أُلصقت بالفلسفة تهمة الإغراق في التَّأملات النَّظرية المجرَّدة الَّتي لا تخدم الحياة ومشكلات الواقع العيني المعيش، فضلاً عن أنَّها لغو لا يرجى منه تغيير المجتمع ووضع الانسان نحو ما هو أحسن.

والواقع أنَّ هذا التَّوجه قد تُوِّجَ بميلاد فرع فلسفي جديد، في النِّصف الأخير من القرن العشرين، أطلق عليه اسم الفلسفة التَّطبيقية التي تهتم باليومي الإنساني وبأفعال الإنسان ونشاطاته، فغرضها حل مشكلات واقعية تتولد عن فاعلية الفرد المنخرط في الحياة ونوازلها. على ألا يقع في وهمنا أن الفلسفة التطبيقية من بنات أفكار الحاضر، بل العكس، لقد كانت ماثلة دائماً بشكل أو بآخر منذ نشأة الفكر الفلسفي؛ لأن الفلسفة هي الإطار الَّذي يفهم فيه الانسان العالم ويفعل داخل نطاق حياته الخاصة بما تمنحه له من أدوات يكشف بها عن الحقيقة ويستخدم فكره في تحسين حياته بحثا عن السعادة، فالفلسفة هي فن تَعَلُّم كيف نحسن العيش على وجه البسيطة. لقد كانت للفلسفة بالنسبة لقدامى اليونان أهمية كبرى، بما هي “حب الحكمة”، لهذا جاءت منذ لحظة انبثاقها كدراسة للطبيعة الجوهرية للوجود والانسان في علاقته بالوجود؛ فدون تفسير وتأويل العالم الذي يحيط بنا سنكون عاجزين عن الفعل؛ لن نتمكن من الفعل بحرية للحفاظ على حياتنا أو تحسينها ما لم نحط علماً بما نُفكر فيه من مشكلات فلسفية لأن أجوبتنا يمكن أن تؤثر على مجرى حياتنا، فكلما كانت نظرتنا إلى العالم صحيحة كلَّما فهمنا العالم وتمكَّنا في المحصلة من الفعل. لذلك، ستكون مغامرة فكرية كبرى إذا ما اعتبرنا أن الفلسفة لم ترسم لنفسها -منذ بداياتها الأولى- سوى هدفين غير قابلين للنقاش: الكشف عن الحقيقة، وتعلُّم كيف نُحسن العيش في الأرض؛ أي تحقيق السعادة لبني البشر.

لعلنا نلتمس هذا البعد العملي للفلسفة الرَّاهنة في مقاربتين رئيستين: تتجلَّى الأولى في ظهور الأخلاق التطبيقية حينما وقف فلاسفة الرَّاهن على عدم جدوى المطارحات الأخلاقية التي أنتجتها الفلسفة النظرية بغرض صياغة مُثِلٍ وقيم عُليا تُوجِّه الفعل الإنساني نحو الخير وبلوغ السعادة؛ فالأخلاق التطبيقية لم تعد تهتم بتأويل معاني الخير والشَّر كتصورات مجردة عن الواقع العيني للفرد بل تهتم بالمساءلة القيمية لمخرجات الحضارة التقنو-علمية التي فصلت الانسان عن أبعاده القيمية والروحية، ولم تعد تُهدد -بسبب هذه الحرية المفرطة- بيئته الحاضنة بما أفرزته من انبعاثات وتلوث فرضه اللَّهث اللا محدود وراء الموارد والطاقة فحسب، بل طبيعته الخاصة حتى أوشكت أن تسلخه كُلياً عن انسيته؛ فالثورات التي تحققت في مجال البيوتكنولوجيا والبيوطبي ما فتئت تمس بالشَّخص الإنساني وتجرحه في كرامته وحرمته الجسدية جراء التَّلاعب بالحياة الذي لم يعد يعرف أيَّة حدود يقف عندها، وهذه صورة الأزمة الَّتي يعيشها الغرب اليوم والتي آذنت بنهاية الأخلاق وأفول القيم. ليس الغرب فقط بل حضارتنا وثقافتنا العربية الإسلامية، فنحن نعيش جميعنا تحت وطأة وعنف الشبكة العنكبوتية ووسائل الاعلام الحديثة التي فرضت علينا وعلى أبنائنا من الجيل الحالي التكيف مع قيمها التي انتجتها.

بيد أن هذه الأزمة قد تضاعفت أكثر مع تعاظم دور الـتقنو- علمي في العشرين سنة الأخيرة؛ لقد قاد التطور الهائل لتكنولوجيات NBIC إلى انبثاق مرحلة جديدة في سلم ارتقاء الانسان وصفها “لوك فيري” بالثورة، يقودها اليوم اتجاه عَرَفَ انتشاراً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم الإنسانية المتحولة “le Transhumanisme”. لقد أضحى الإنسان مع مجيء هذا التيار قادرا على تغيير طبيعته الخاصة متوسلا بما توفره التقنو-علمي من تكنولوجيات التلاعب بالحياة، والبحث عن إنسان فائق مُحسَّن يتمتع بقدرات عليا ذهنية وجسدية، وعلى حد تعبير “لورون الكسندر” “lourant Alexandre” تحول حلم الإنسانية المتحولة خلال هذا العصر إلى حقيقة طبية”، لكن ألا نخاطر على المستويين الطبي والعلمي اذا استسلمنا للتحكم الجيني الوراثي واستمرينا في منطق التحسين دون ضوابط أخلاقية ترسم حدود هذه الممارسات؟ هل سيتوجه تحسين الإنسانية إلى الأحسن أم إلى الأسوأ، أعني التشوه والمسخ؟

أما المقاربة الثانية فنلمسها في التَّوسُل بالنظرية النقدية الفاحصة بدلاً من قبول الوضع الإنساني والاستكانة له، وكما كانت تُردد “حنة أرندت” مستلهمة مقولة “كارل ماركس” ينبغي أن نكف عن تأويل العالم لنشرع في تغييره، لجهة أن الفلسفة ذات صلة وثيقة بالحياة والوضع المجتمعي وهموم العصر الذي أنتجها، فليس من قبيل المصادفة أن احتوت الفلسفة العملية منذ “أرسطو” على الفلسفة الأخلاقية والسياسية لأن السعادة لا تتحقق إلا في لدن فلسفة أخلاقية تنظر إلى الفرد كجزء من كل (المدينة). فالسعادة ليست ممكنة للفرد إلا من خلال تأمل يهتم بالمدينة وببناء إطار سياسي موائم. وقد رأى “أفلاطون” أن السعادة لا ترى النور إلا ضمن مدينة أين تتحقق الطبيعة التَّامة للإنسان وتكتمل داخل مجتمع متناغم، وقد أشار “أرسطو” بوضوح في مطلع كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس” أن كتابه ينتمي إلى الفلسفة السياسية لأن السعادة لا ترجع بأي حال إلى الأخلاق الفردية. وهذا ما دعا إليه “كارل ماركس” من خلال توصيفه “للبراكسس” “Praxis” كتغيير للعالم، وخير شاهد على ذلك ما تعد به المدرسة النقدية لفرانكفورت من تغيير للوضع الاجتماعي من خلال النقد، لقد أضحى للنقد –بمجيئها- دور البناء الثقافي والحضاري، فاتخذت من نقد المجتمع الحداثي الغربي مطيَّة لكشف تناقضاته ومن ثم تغيير الواقع الاجتماعي نحو ما هو أفضل، فكان الشغل الشاغل لروادها هو الكشف عن كل تجليات الاغتراب التي خلفتها العقلانية الحداثية وعصر التنوير جراء الاستغراق الكلي للعلم وتطبيقاته التقنية على كل مظاهر الوجود بما فيها الأبعاد القيمية والروحية للإنسان، على نحو لامست، أي الأزمة، الإنسانية في جميع أبعادها الأنطلوجية والسيكولوجية والايديولوجية والسوسيولوجية. يتخبط إنسان اليوم في العدم والاستلاب واللا معنى والخوف والتوجس من المستقبل، ولعل “هوسرل” أدرك هذا الواقع حينما أرجعه في كتابه أزمة العلوم الأوربية إلى هيمنة النزعة الوضعانية التي أحدث شرخاً كبيراً بين الإنسان والعالم، فالعلوم التي لا تعي سوى الواقع لا تفرز إلاَّ أناساً لا يدركون سوى الواقع، والسبب يكمن برأي “هوسرل” في سوء فهم الإنسان للعلم الذي اختزله داخل مجال الواقع بحيث لم يعد يستوعب أبعاده الروحية والفكرية.

يحتوي هذا الكتاب على مجموعة من المقالات كتبت في مراحل زمنية متباعدة، البعض منها نشر من قبل في دوريات ومجلات وطنية والبعض الآخر سيظهر للمرة الأولى، لذلك سيلحظ القارئ أن الكتاب لا يشكل عملاً نسقياً منتظماً، وهو يفتقر من جهة، للربط المنطقي الذي يصل بين أجزائه، ومن جهة أخرى للتسلسل الزمني الذي يرتب موضوعاته وفقاً لبعدها الكرونولوجي، ومع ذلك ثمة خيط رفيع يصل بين فصوله الستة كونها تصب كلها في سياق الفلسفة التطبيقية.

قسمنا الكتاب إلى ستة فصول؛ أفردنا فصليه الأول والثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية، واخترنا شخصيتين من الجيل الثالث والرابع، هما على التوالي:

– الفيلسوفة الأمريكية “نانسي فريزر” ومقاربتها الجديدة لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي حاولت من خلالها منافحة أشكال الظلم والامتهان في المجتمعات ما بعد الاشتراكية، كان غرضها التأثيل لبراديغم جديد عن العدالة الاجتماعية يتجاوز المقاربة الاختزالية التي تحصر مفهوم العدالة في بعد واحد هو إعادة التوزيع ليشمل الاعتراف كبعد جوهري، فإلى أي مدى يمكن لسياسة الاعتراف أن تسهم في التأسيس لبراديغم جديد عن العدالة الاجتماعية؟ هل يمكن اختزال الأخيرة في مبدأ اعادة توزيع الموارد والثروات؟ ألا يفترض مفهوم العدالة المزاوجة بين الاعتراف وإعادة التوزيع؟

-والفيلسوف الألماني “هارتموت روزا” من خلال مشروعه نقد الحداثة المتأخرة والتأصيل لمفاهيم جديدة تلامس المشكلات الراهنة للمجتمعات الحداثية المتأخرة وتكشف عن تناقضاتها، مثل: التسارع والاغتراب والصدى.

خصصنا الفصل الثالث لفلسفة الفعل السياسي عند “حنة ارندت”، لجهة أن كل تفكير في الفعل يتطلَّب -برأيها- الانزياح من مركزيَّة النَّظرية نحو الفضاء العام؛ ففضاء الظهور هو مجال الفعل والتَّغيير المجتمعي بواسطة الكلمة.

أما الفصلين الرابع والخامس عقدناهما لفلسفات الانسان الجديد ومستقبل الانسان ما بعد البشري، للتعريف بهما ونقد مخرجاتها، إذ تُمثِّل هاته الفلسفات (الإنسانية المتحولة trans-humanisme وما بعد الإنسانية Post-humanisme) مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية تأتي في أعقاب إنسانية الأنوار، وهي فلسفات تدعو إلى الاستخدام اللا محدود لتكنولوجيات NBIC لإعلاء وتحسين قدرات الإنسان، على نحو ستقلب حياتنا بشكل جذري، بحيث سنشهد في المستقبل زوال كل ما هو إنساني وبيولوجي ليحل محله فاعل جديد مهجن إنسان/ آلة، تمهيدا لاستبداله بذكاء اصطناعي خارق أو بآلة ذات استقلال ذاتي. لم يعد الإنسان –كما يقول “ماكس مور” مجرد لعبة في يد الانتخاب الدارويني بل أصبح قادرا -عبر التوسل بالتقنو-علمي- على أن يختار مصيره ويبني مستقبله في استقلال تام. بيد أن هذا الاستخدام اللا مشروط للتقنية بغرض تحويل الإنسان أثار الكثير من المخاوف والمخاطر، حتى أن “فرانسيس فوكوياما” اعتبر “ما بعد الإنسانية” على أنها أخطر فكرة على الإنسانية، ومهمتنا في هذا البحث هي مقاربة هذه الاستتباعات من الناحية الأخلاقية.

أما الفصل السادس فأفردناه للأزمة الصحية التي خلفها انتشار جائحة كورونا وما أثارته من أسئلة ونقاشات ايتيقية ذات صلة بالممارسات الطبية.

وفي الأخير، أتوجه بخالص شكري وامتناني إلى استاذي الدكتور جمال مفرج الذي لم يبخل علينا بتشجيعه ونصائحه وتوجيهاته.

الدكتور هشام معافة

قسنطينة (الجزائر) خريف 2022