تفصيل

  • الصفحات : 242 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-247-7.

سعى الإنسان مندُ القديم إلى اكتساب المعرفة التي تمكنه من العيش في سعادة من خلال السيطرة على الطبيعة وتطويعها لخدمته، وهو الذي امتلك كل أليات التفكير العلمي والتقني بما وفّرتهُ له التقنية من أدوات ومنجزات تساعده على تحقيق حلمه الموعود مند فترة الأنوار والحداثة الغربية التي أعلنت بداية مرحلة جديدة في تاريخ الوجود الإنساني هي مرحلة الثورات العلمية وما تقدمه من خدمات جليلةٍ للإنسان الباحث عن مزيدٍ من التقدم العلمي والتكنولوجي بغية إرواءِ ظمأه في امتلاك المزيد من التقنيات التي تُسَّهِلُ له مهمة السيطرة على الطبيعة وفقاً للمبدأ الديكارتي القائمِ على أن الإنسان سيدٌ للطبيعة مالك لها، فهل نجح في مهمته حقيقة أم أن الواقع قد فرض منطقاً جديداً في علاقة الإنسان بالطبيعة؟، وهو الذي امتلك كل مقاليد القيادة بما اتاحهُ له العلم المتحالف مع التقنية.

بالرجوع إلى تلك المحطات الحاسمة في تاريخ الإنسان نسجلُ العديد من التحولات الكبيرة التي عرفها الإنسان مند الفترة الحديثة التي دشنتْ تفوق عقل الأنوار على سلطة الكنيسة المقيّْدةِ لكل أشكال التفكير الحر، ومن ثمة تفوق العقل العلمي على كل الأشكال الأخرى من التفكير، تبعتها مرحلة ما بعد الحداثة ومحاولة استكمال مشروع حداثي لم يكتمل وفق النظرية التواصلية لهابرماس التي دعت إلى استكمال مشروع الأنوار والحداثة وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي يمكنُ تسميتها بمرحلة الثورات العلمية الرهيبة التي كشفت عن الكثير من الأسرار التي كانت قبل فترة قصيرةٍ جداً من قبيل قصص الخيال العلمي أو حكايات روائية لا تصدقُ على الواقع المعاش، ولكن العلم لا يعرف حدوداً، فقد تمكن بما امتلكه من أدوات من جعل الخيال حقائق مجسدةٍ على أرض الواقع نجدها حاضرة في منجزات الثورة الفيزيائية مع ما قدمته فيزياء الكم من حقائق جديدة عن عالم الأجسام والطاقة لتعلن عن مرحلة جديدة في تاريخها هي مرحلة الفيزياء الكمومية وما قدمته إلى باقي الفروع المعرفية الأخرى من خدمات نجدها في الهندسة الوراثية والكشف عن أسرار الكائن الحي الذي كان الحديث عنه من قبيل المحرمات والأمور المقدسة التي لا يجب البحث فيها أو إخضاعها للتجربة والتشريح، ولكن كل شيء تغير مع انجازات داروين في علم التطور الذي أنزل الإنسان من السماء إلى طاولة المخبر التجريبي بما قدمته نظريته من اسهامات جليلة لا يمكن التغاضي عنها مهما كانت الظروف، تبعتها انجازات أخرى في المجال ذاته لعل أهمها اكتشاف الحمض الريبي النووي المنقوض الأكسجين المسؤول عن الحياة داخل كل كائن حي ليحدث انفجاراٌ رهيباً داخل علم الأحياء حيث تم وبنجاح فك الشيفرة الوراثية للإنسان وقراءة  جينومه البشري الذي أصبح بإمكان كل إنسان في العالم أن يحمله معهُ على قرص مضغوط، من هنا تنهمر مياه التجارب البيولوجية التي أخضعت الكائن الحي إلى التجريب وبنجاح لا مثيل له على الإطلاق وكان من أدلة ذلك ما بَلَغَتْهُ البيو تكنولوجيا في القرن العشرين من تقنيات حديثة في الانجاب وأطفال الأنابيب، إلى قضايا الاستنساخ بنوعيه العلاجي والتحسيني، التهجين، الخلايا الجذعية، زراعة الأعضاء، الطب الوراثي، تقنيات التجميل وغيرها من الافرازات التي عَزّْزَتْ قدرة العقل البشري في السيطرة التامة على الطبيعة وأعطته ثقة إضافية في تصنيع كل ما يريد، ولم تتوقف عجلة التقدم العلمي عند هذا الحد فقط بل شهد العالم ثورة أخرى هي الثورة المعلوماتية بقوتها الرهيبة في تقنيات الاتصال والتواصل المعلوماتي بما أتاحته من أجيال جديدة في تدفقات الانترنيت، حيث يعيش العالم اليوم على جيلها الخامس العالي الدقة والتدفق.

وعلى الرغم من هذه المنجزات التي حققها العقل البشري وما وضل إليه من تقنيات وابتكارات جديدة شملت كل مناحي الحياة الإنسانية حتى أضحى العالم وكأنه قرية صغيرة يمكن التنقل بين جنباتها في لحظات زمنية وجيزة، إلا أنه وطيلة هذا المشوار الحافل بالنجاحات كان يتعرض إلى الكثير من الصراعات والحروب والكوارث والأمراض الوبائية التي قضتْ على أعدادٍ هائلة من البشر، ولكنه كان دائما ينجح في تجاوز أوضاعه الصعبة والحرجة والخروج منتصراً رغم كل المآسي والمعاناة التي لطالما عانى منها كثيراً، ومازالت إلى حد الأن مسيرة الحروب والصراعات قائمة بين بني البشر، ولكن في صراعه مع الأمراض والأوبئة كان دائماً ينتصر ُ عليها مهمها كانت النتائج وخيمة والرجوع إلى تاريخ الأوبئة أفضل الأدلة على ذلك، إلى أن جاء وباء من نوع أخر لا يشبهُ بقيةْ الأوبئة على الإطلاق إنه وباء كورونا الذي وضع العالم المتقدم أمام إشكاليات جديدة لم تكن في حسبانه إطلاقاً، بالرغم ممَّا امتلكه من تقنيات ومنجزات علمية، وقف عاجزاً أمامهُ غير قادرٍ على السيطرة عليه، إلا من خلال البقاء في المنازل واتباع سياسة الحجر الصحي، من هنا بدأ يذوب الجليد عن الكثير من الحقائق المزيفة التي كَشَفَتْ عيوبها جائحة كورونا وبَيْنَتْ للعالم مدى هشاشة النظام العالمي الذي لم يجد إلا طريقة القرصنة وسرقة المعدات الطبية الموجهة للدول الضعيفة، فقد تغيرت كل موازين القوى مع هذا الفيروس الجديد حتى الدول الأكثر تقدماً لم تستطع التحكم في الاوضاع بالشكل المطلوب، لتكشف بذلك عن فشل ذريع للنظام الليبرالي والعولمة في إدارة الأزمات والكوارث وهي التي كانت تَدّْعِيْ من قبل إحكام سيطرتها على الطبيعة، ولكن يبدوا أن الطبيعة لا تستسلم بسهولة.

لقد كشفت فينومينولوجيا الواقع الانساني في ظل المستجدات الراهنة عن مدى هشاشةٍ فادحةٍ في العلاقات الإنسانية، لتطرح معها الكثير من الاستفهامات معلنة عن تقسيم جوهري للعالم إلى ما قبل كورونا وما بعدها وفق رؤية مستقبلية قد لا نلمك أي جواب عنها في اللحظة الراهنة، بعيدا عن كل التأويلات التي تقدم اليوم بأقلام المفكرين، الفلاسفة، علماء الاجتماع، علماء النفس، الأطباء  ورجال الدين عبر أنحاء العالم، و التي تتفق كلها رغم اختلاف التوجهات والتحليلات على مدى المأزق الكبير الذي تعرفه الحياة الإنسانية اليوم في كل مشاهد حياتها، وكأن تلك الحدود التي انمحت بفعل العولمة والتقارب العلمي الرهيب الذي حققه إنسان القرن الحادي والعشرين قد زالت لِتُعَادَ الحدود بينهما من جديد تحت شعار الحجر الصحي والتزام المنزل وحده الكفيل بإنقاذ الحياة الإنسانية، وهكذا وجدَ العالم نفسه مجبراً على ارتداء لباس جديد من أجلِ التأقلم مع الواقع كما هو، فلم تبقى الحياة كما كانت، ولا الموت بقيت محافظة على طقوسها المعتادة، حتى طريقة الدفن هي الأخرى تبدلت تبدلاً كلياً، ناهيك عن العلاقات بين الدول والحروب، وغيرها ليحل محل السباق نحو التسلح، السباق نحو اللقاح ومن الحروب النووي وامتلاك السلاح إلى حرب الكمامات، إنها من دون شك دراما رهيبة للواقع الإنساني اليوم.

وانطلاقا من هذا الغموض الرهيب الذي يكتنف العالم في ظل الضربة القاضية التي تلقَّاهَا، وأمام التعتيم والسرية التي طبعت انتشار الوباء وما رافقه من أسئلة وتفسيرات على الصعيد العالمي والكوني نكون أمام الاشكالية التالية: ما هي الأزمة الحقيقية التي يعيشها العالم اليوم في ظل وباء يعد الأخطر من نوعه على البشرية؟ ثم ما موقع السؤال الأخلاقي الانساني من حصيلة الرعب الرهيب الذي يعيشه الإنسان ؟ وكيف يمكن تصور مفهوم المواطنة وابعادها الكونية في ظل التحولات الكبرى التي مست صميم العلاقات الإنسانية العالمية في ظل الانتهاكات اللاأخلاقية المباحة في الكثير من المناطق في العالم اليوم؟