تفصيل

  • الصفحات : 169 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-543-0.

تقديم

يثير كتاب “مبادئ الاحصاء في العلوم الاجتماعية” للدكتورة منصوري سميرة، عديد القضايا المعرفية التي لاتزال قيد البحث والتقصي في مختلف الدوائر العلمية، رغم غزارة الأدبيات التي تتناولها عبر مختلف مراحل تطور العلم الاجتماعي. والجدير بالتنويه هنا، أن الأدبيات الحديثة عن المنعطف الجديد لهذا العلم، تكشف عن تحول عميق في بنية مناهج وطرائق البحث العلمي ذات الصلة الوثيقة بالمرجعيات الكمية والكيفية التي ترسم في مجملها صورة عن حركية السوسيولوجيا تارة، وأزماتها تارة أخرى.

وإذا كان هذا الكتاب يركز على الجوانب الفنية والاحصائية للوصول إلى نتائج علمية دقيقة، فإن مبررات هذا التوجه، ترتبط على نحو لا ينفصم بأعمال رواد علم الاجتماع وغيرهم من دعاة التكميم، مثل ابن خلدون الذي أشار إلى أن الظواهر الاجتماعية لا تنفصل عن الظواهر الطبيعية فصلا مطلقا، مؤكد ضرورة وضع هذه الحقيقة في الحسبان من قبل الدارسين للوقائع الاجتماعية. أما كونت فيرى أن المنهج المناسب لدراسة الظواهر الاجتماعية، من علوم ذات طبيعة أدبية وفلسفية إلى علوم واقعية وموضوعية بعيدة عن الفلسفة والميتافيزيقا، وتشبه العلوم الطبيعية من حيث الدقة والضبط والتزام الروح المنهجية التجريبية.

وتجيء اسهامات دوركايم المنهجية لتؤكد هذا المنحى البحثي، حيث انطلق من مسلمة معرفية مفادها أن هناك وحدة في الطبيعة. بمعنى أن الظواهر الاجتماعية ليست إلا جزء من العالم الطبيعي الموضوعي. فهي موجودة بشكل واقعي وملموس، كالوجود الواقعي والملموس للظواهر الطبيعية. وهذا ما يؤكده رواد الوضعية الجديدة الذين يعتقدون في أهمية التجربة الحسية المباشرة، ويرفضون أية فكرة تدعو إلى ضرورة قيام تعارض بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. ضف إلى ذلك تبنيهم لفكرة العلم الموحد، واللغة الفيزيائية الموحدة التي تقر بوحدة المنهج بين سائر العلوم، دون أخذهم في الحسبان خصوصية الحياة الاجتماعية، التي دفعت الكثير من المفكرين المؤسسين لعلم الاجتماع إلى الدعوة إلى إعادة النظر في مفهوم الموضوعية كما صاغه فيبر، واقترن لديه بالتحرر من القيم في دراسة المجتمع.

ضمن هذا المنظور نجد غولدنر يكرس أطروحته القاضية بخرافة التحرر من القيم، في حين يذهب بيكر أبعد من ذلك، حينما كرر في كتاباته المختلفة عبارة: “في صف من تتحيز” ومن الواضح أن هذا التحيز لموقف قيمي معين، أو وجهة نظر محددة، تحكمه العديد من الضوابط المتمحورة حول: البحث عن الحقيقة بكل دلالاتها وأبعادها، بعيدا عن الضغوط النظامية، مع الالتزام بالحرية الفكرية، والعقلانية والترشيد. ولم يتوقف بيكر عند هذا الحد، بل راح يعدد مزالق البحث الكمي المتسم بالضحالة، وعدم النجاعة العلمية والاجتماعية. وخير مثال على ذلك ميكانيكية انجاز أطروحات علم الاجتماع، واعتمادها على السببية الطولية، واستمارة الأكلات الخفيفة التي رسخت التردي، واستشراء أمراض المنهج الوصفي وتكميم بيانات مفتعلة لا علاقة لها بالأحداث والوقائع.

وثمة تساؤل هام يثار في هذا المقام: ويتعلق بعمق الانحرافات البحثية، التي قادت، ومازالت تقود إلى مزيد من التدليس، وممارسة الميكيافيلية بأشكالها المختلفة. ومن منطلق هذا الفهم، أصبح ضروري لفت الانتباه إلى امكانية إعادة النظر في الطقوس التي كرسناها دون خجل من الذات الفاعلة والمجتمع والتاريخ على حد سواء. إن النظرة المغتربة عن الواقع، وتجريد البيانات الأولية(إن لم تكن مفبركة) عن سياقها الاجتماعي. يؤدي -لامحالة- إلى مزيد من التشويه والضحالة. إن الفكرة الأساسية التي يهمنا التنويه إليها الآن هي استمرار أقسام علم الاجتماع في تخريج دفعات متتالية لا تعرف من المنهجية إلا مجالات الدراسة، الفروض، المنهج، العينة، أدوات جمع البيانات، وفي نفس الوقت تبتعد كلية عن جوهر المنهجية وارتباطها بالنظرية والايديولوجيات التي تطمس الواقع، تزيفه أو تخفيه عن الأنظار، والايديولوجيات التي تكشف الستار عن الواقع الفعلي، وما ينطوي عليه البناء الاجتماعي من ميكانزمات القهر والاستغلال واللامساواة.

وعموما، إذا كانت استراتيجية البحث العلمي، تتلخص في ثلاثة أنماط من التوجه النظري، المنهجي والميداني، فإن الدكتورة منصوري سميرة، في كتابها الموسوم: “مبادئ الاحصاء في العلوم الاجتماعية” قد ركزت على تفريغ البيانات وعرضها بشكل كمي، تماشيا مع حاجة البحث إلى مناهج أكثر موضوعية ودقة. ومن الملاحظ أيضا، في هذا السياق، أن الشواهد التاريخية والواقعية تفيد أن التطور الذي يلحق أي علم، يمكن ملاحظته من خلال مدى وجود المعطيات والأساليب الفنية الاحصائية الدقيقة، واحلالها محل الانطباعات التصورية والكيفية.

وهذا ما جعل الكثير من الدارسين يربطون بين تقدم العلوم الاجتماعية، وزيادة أهميتها وقيمتها، بالقدرة على التحكم في المناهج الاحصائية، التي أصبحت ضرورية لمتطلبات البحث في مجال العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. ويمكن تلمس ذلك في المنطق الذي حكم سيرورة تنظيم هذا الكتاب، حيث تمحور فصله الأول حول المفاهيم الاحصائية الأساسية(الفئة، التكرار، الدلالة الاحصائية، درجات الحرية…الخ) التي أصبحت أيضا ضرورية لتفريغ البيانات وتحليلها من ناحية ومن أجل الفهم الجيد للكتابات المعاصرة في العلوم الاجتماعية. ضف إلى ذلك أن استخدام لغة الكم مطلبا لا يستغني عنه حتى الفرد العادي في حياته اليومية(العد والحساب، النسب المئوية، المتوسطات…الخ).

وتتويجا لهذا المنحى في العرض المنطقي، أنهت المؤلفة فصلها الأول، بتبيان أهمية المنهج الاحصائي كأكثر المناهج انتشارا بين العلوم، وخاصة أن كل العلوم التي تقوم على الملاحظة لا غنى لها عن استخدام الاحصاء في إقامة البراهين والتوصل إلى قوانين موضوعية، وذلك لأنه يقوم على التجميع الكمي للمعطيات، وصياغة النتائج بالأرقام والرسوم البيانية، الأمر الذي يساعد على التنبؤ الدقيق، وحل الكثير من المشكلات الاجتماعية. ومن المتعين الاشارة هنا إلى تعدد الأشكال المستخدمة في مجال البحث الاجتماعي، مثل: الخط البياني، الخرائط البيانية، الأعمدة، الرسوم التصويرية…الخ.

ويجيء الفصل الثاني متمحورا حول تقنيات تفريغ، عرض وتمثيل المعطيات الاحصائية، وذلك من أجل الالمام بها والاستفادة منها في التوصل إلى نتائج علمية. أما الفصول الثلاثة المتبقية فقد تناولت على التوالي قضايا احصائية تتعلق بطرق تحليل البيانات (كيفي، كمي)، التوزيعات التكرارية، الاختبارات الاحصائية. وهكذا لم يعد استخدام الاحصاء علامة مميزة للبحث الاجتماعي الحديث، وإنما أصبح ضرورة للارتقاء بمستوى الدقة والثبات التي تتطلبها أساليب البحث، والوصول إلى مستوى أفضل من الحقيقة والبرهان.

ضمن هذا المنظور، يستهدف هذا المؤلف إلقاء الضوء على مبادئ الاحصاء في العلوم الاجتماعية، مع إيلاء عناية خاصة للمنهج الاحصائي، لتبيان الجدل الدائر اليوم في مختلف الدوائر العلمية حول اعتبار الاحصاء علما له قواعده وقوانينه، من ناحية، وعلما تابعا للعلوم التجريبية، وأداة للقياس ومنهجا للبحث من ناحية أخرى، والجدير في هذا الكتاب أنه ألم بأهم المفاهيم وطرائق التفريغ والتحليل المستخدمة في العلوم الاجتماعية بأسلوب علمي رصين، قائم على الاختبارات الاحصائية الواردة في الفصل الخامس.

وفي الأخير، يمكنني القول أن الكتاب الذي بين أيدينا محاولة علمية أصيلة لتقريب مبادئ الاحصاء من كل المهتمين بالبحث الاجتماعي، كما أرجو أن يستفيد كل باحث اجتماعي من محتويات هذا الكتاب. ولم يبق لي إلا التعبير عن شكري وتقديري لما بذلته المؤلفة من جهد، كانت ثمرته هذا الكتاب الذي اعتبره بمثابة دليل للبحث الاجتماعي، وإضافة معرفية لا يمكن الاستغناء عنها في الدراسات الكمية.

أ.د. إسماعيل قيرة