تفصيل

  • الصفحات : 245 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-892-9.

المحاضرة الأولى: مدخل مصطلح

إن دراسة الأبحاث اللسانية في البلاغة العربية تعد من حقل اللسانيات الخاصة، ولا أغلو حين أقول إن أفضل ما يمثل البحث اللساني في اللغة العربية هو الاصطلاح في البلاغة العربية، فإن البلاغة العربية منذ نشأتها العلمية لم تزل تنتهج البحث التوصيفي الذي نهجته اللسانيات الحديثة وإن كانت النظرات المعيارية لم تغب في الدرس البلاغي وذلك في بحثهم فصاحة اللفظ والكلام وبلاغة الكلام([1])، ولكن قد غاب عن كثير من الدارسين أن التوصيف البلاغي لشروط بلاغة النص لم يكن نابعاً من التقعيد المعياري فحسب، والمشكلة أن هؤلاء الدارسين نظروا إلى البحث البلاغي من زاوية واحدة بعيداً عن مواصفات الحكم الصحيح القائم على السبر والنظرة الشاملة.

وقد أصاب الدكتور سعد مصلوح كبد الحقيقة حين رأى أن البلاغة العربية ما برحت قادرة على أن تقدم للدرس الأسلوبي اللساني زاداً وفيراً من التصورات وطرق التحليل يمكنه بإعادة صياغتها أن يحكم بها وسائله الفنية في مقاربة النصوص([2]).

ولعل الزاد اللساني الذي تتضمنه البلاغة العربية يبعث في اللغة العربية ديمومة البحث والتطور سواء على مستوى المفاهيم الكلية أو على مستوى الإجراءات والتوصيف، وكلا الأمرين يرجعان إلى تصنيف اللسانيات الخاصة. إن ظهور المصطلح البلاغي في علم البلاغة العربية كان نتاج ظهور منهج للبحث اللساني، فالبلاغة العربية ظهرت من خلال تأسيس منهج بلاغي يعنى بالنص بطريقة تختلف عن منهج البحث النحوي أو الصرفي، وعلى ضوء هذا المنهج تأسس علم البلاغة العربية، وهذه الطريقة في إنتاج العلوم أي طريقة وضع المنهج أولاً ثم ممارسة البحث الموضوعي المؤسس على ذلك المنهج هو منهج شائع عند العلماء المسلمين، كما حصل عند وضع علم أصول الفقه، فلم تقم مسائل أصول الفقه إلا بعد تنظير لمنهج البحث الأصولي، كما فعل علماء أصول الفقه في إنجازهم منهج وضع قواعد أصول الفقه من جزئيات المسائل الفقهية، فتتأسس القاعدة الكلية من جزئياتها المنجزة فعلاً.

اصطلاح مقاصــد البلاغــة وأسالــيب الخطاب:

يعد القصد من أهم المعايير الكلية التي يوضع على أساسها الكلام، وقد رأى “سيرل” وهو من مؤسسي النظرية التداولية أن المقاصد ذات تكوين (بيلوجي) ولها أطر معينة في ذهن المرسِل، ونص “سيرل” كذلك على أن الصوت أو العلامة المدونة لن تحقق الاتصال اللغوي مالم تتضمن قصد منتج النص ومرسله([3]).

كما بحث علماء اللسانيات عن مصطلح القصد باعتباره من معايير النصية السبعة حين ذكروا أن معايير إنتاج النصوص واستعمالها تتلخص في السبك والالتحام(الحبك) والقصد والقبول ورعاية الموقف والتناص والإعلامية([4]).

وقد بيّن دي بوجراند المراد بالقصد حين ذكر أنه الذي يتضمن موقف منشئ النص من أن صورة من صور الكلام قد قصد بها أن تكون نصاً، وأن هذه الصورة الكلامية وسيلة لتحقيق غاية معينة([5]).

وحين ميز الفيلسـوف الانجــليزي جــون أوستيــن ( JOHN AUSTIN) ثلاثة أنواع من الأفعال الكلامية التي هي فعل التعبير والفعل الإنجازي والفعل الاستلزامي جعل الفعل الإنجازي هو المعبر عن قصد المتكلم في منطوقه والغاية المنجزة من إنتاج اللفظ([6]).

بل إن التقسيم اللساني للأفعال الكلامية بني على القصد؛ فصارت الأفعال الكلامية مقسمة على قسمين وهي الأفعال الكلامية المباشرة (القصد المباشر) والأفعال الكلامية غير المباشرة (القصد غير المباشر).

ولا نريد هنا في هذا البحث توصيف مقولات القصد عند اللسانيين أو استقراءها، ولكنها معطيات موجزة لفهم أهمية مصطلح القصد في البحث اللساني؛ لأن القصد من مسائل هذا المطلب هو فهم مقولات البلاغيين في القصد وبيان أبعادها اللسانية في إنتاج النص وتوصيفه وتحولاته.

المقصد ومعطياته في البلاغة العربية:

لقد بيَّن علماء النحو- باعتبار أنّ تأسيس علم النحو سابق على تأسيس علم البلاغة (وأقصد هنا العلم بمعناه الاصطلاحي) – أهمية القصد حين عرفوا الكلام؛ إذ شرطوا حصول القصد في ذهن المتكلم ليتحقق الكلام ويصبح ناجزاً، فالنائم لا يسمى متكلماً وإن أصدر كلاماً مفهوماً، وكذا الساهي، ومنه الكلام الصادر من الطيور التي تحاكي كلام الإنسان وصدى كلام المتكلم أيضاً([7]).

كما فرق النحاة بين الصناعة النحوية والقصد، فقد يعرف قصد المتكلم، ولكن طريقة أداء النص وترتيبه شاذة لا يصح القياس عليها، كما في قولهم فيما حكاه سيبويه: ما جاءت حاجتك؟ أي صارت، فالشاذ من التراكيب اللغوية مما لم يأتِ على وفق الصناعة النحوية يُحكى “ويخبر بما قصد فيه ولا يقاس عليه”([8])، وهو واقع في الكلام([9]).

ومنه ماحكاه النحاة في قول بعض العرب (خرق الثوبُ المسمارَ)، ويسري القصد وأثره في تحديد نوع التركيب وحمله في كثير من مباحث النحو كالمبتدأ والخبر والحال والصفة وغيرها.

وأما اصطلاح القصد في البلاغة العربية فقد تنوعت مباحثه من حيث بيان أهميته ووظيفته وأثره في تنوعات إنتاج النص، فقد جُعل القصد من أركان البلاغة حين سئل أحد البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى والقصد في الحجة([10]).

ونقل ابن رشيق القيرواني قول المتقدمين في بيان وظائف البلاغة، فقال: “البلاغة الفهم والإفهام، وكشف المعاني بالكلام، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان بالأداء، وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار([11]).

بل إن تأسيس المعاني وإبداعها يقوم على القصد، فقد قال ابن طباطبا: “إن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء، وفي صدر الإسلام من الشعراء، كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد، للصدق فيها مديحاً وهجاءً”([12])، وجعل قدامة بن جعفر مقاصد الكلام علماً فيه تعرف معاني الشعر، فقال: “العلم بالشعر ينقسم أقساماً… وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصدية”([13]).

والفارق بين توصيف أنواع النصوص هو القصد، وهو ما أشار له نقاد البلاغة والأدب، حين عدّوا القصد هو الفارق بين توصيف الكلام بالشعر وغيره، بعد تحقق اللفظ الموزون والقافية، فقال ابن رشيق: “الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء وهي: اللفظ والوزن والقافية، فهذا هو حد الشعر لأن من الكلام موزونا مقفىً، وليس بشعر، لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم”([14])؛ كما جعل النقاد مصطلح القصد هو المعيار في التفرقة بين الشعر المطبوع والمصنوع([15]).

إن تنوع أساليب الكلام هو ظاهرة أدبية لغوية، فهو إبداع في البعدين الأدبي والفكري، والتنويع الأسلوبي هو محاولة مهمة للجمع بين الفنون الأدبية والأساليب، ولاشك أن تنوع الفنون الأدبية وأجناسها يتبعه تنوع في الأساليب، والعكس صحيح أيضاً، فلكل أسلوب مقصده، ولكل نوع غرضه، ولكل كلام غايته.

ويرى ابن الأثير الموصلي: ” أنَّ فائدة الكلام الخِطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عياناً، ألا ترى أنَّ حقيقة قولنا: زيد أسد هو قولنا زيد شجاع؟ لكن الفرق بين القولين في التصوير والتخييل، وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع”([16])، فالمعنى واحد من حيث الاعتبار الخارجي في (زيد أسد) و(زيد شجاع)، ولكن اختلاف الغرض المقصود هو الموصل إلى اختلاف تنوع الأساليب، فهناك فرق بين المدلول(المعنى) و(القصد).

ولاشك أن الأصل في علاقة القصد مع مدلولات الألفاظ أن تكون مطابقية،

([1]) الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني، ص: 78- 86.

([2]) في البلاغة العربية والأسلوبية اللسانية لسعد مصلوح، ص: 72

([3])  استراتيجيات الخطاب، لعبد الهادي بن ظافر الشهري، ص: 183

([4]) النص والخطاب والإجراء، لروبرت دي بوجراند، ص: 103- 105.

([5]) المصدر نفسه، ص: 103.

([6]) علم لغة النص بين النظرية والتطبيق، لعزة شبل محمد، ص: 21.

([7]) التذييل والتكميل في شرح التسهيل، لأبي حيان الأندلسي، (1/ 34- 35).

([8]) الأصول في النحو، لأبي بكر البغدادي، (2/ 351).

([9]) شرح الكافية لشافية، لابن مالك محمد بن عبد الله، (2/ 612).

([10]) العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني، (1/ 245).

([11]) المصدر نفسه، (1/ 247).

([12]) عيار الشعر، لابن طباطبا، (1/ 13).

([13]) نقد الشعر، لقدامة بن جعفر بن قدامة، (1/ 3).

([14]) العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق، (1/ 119).

([15]) المصدر نفسه، (1/ 129).

([16])المثل السائر لابن الأثير، (1/ 78- 79).