تفصيل

  • الصفحات : 310 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما دائمين على الصفوة من الخلق أجمعين ؛ محمد الصادق الأمين، وآله الطاهرين، وأتباعه من المؤمنين إلى يوم الدين .

هذا الكتاب ليس إلا إضافة يسيرة إلى جهود من سبقنا أو عاصرنا من عشَّاق العلم وطُلَّاب المعرفة، بل لا يعدو أن يكون قَبَسًا من آثارهم، وثَمَرَةً من ثمار غراسهم، وأخص منهم الذين وَقَفُوا أنفاسَهم وأفنوا أعمارهم في العناية بلغة القرآن وعلومها، ومَهَدوا الطريق إلى حفظها وفقهها. وما فيه من كلمةٍ أو معنىً إلّا وله من آثارِهم العلميةِ الفكريةِ – شاهدُ اقتباسٍ، أو قرينةُ فَهْمٍ؛ وما سوى ذلك فرَأْيٌ أو نَظَرٌ أدَّى إليه مَحْضُ اجتهادٍ بشرطِه وأداتِه. وكلُّ ذلك مما يفتح الله به على من يشاء من عباده، فضلًا ونعمة.

وموضوعه المحوري هو (النبرُ في عربية القرآن) دون ما تفرع منها وامتد من لغات ولهجاتٍ؛ قديمةً كانت أم حديثةً. وهو بهذا الوسم والقيد أدخلُ في مجال علم الأصوات اللغوي وفروعه المتشعبة، لتعلقه بمفاهيم الأداءِ وتطبيقاته النطقيِّة السمعيِّة. ثم هو أوغل صلةً وأوثقُ سببًا بتلاوة القرآن القائمةِ أصالةً على اختبار الأثر السمعي عند أداء كلمات القرآن، وإيقاعه موافقًا أو مقاربًا لقواعدَ وضوابطَ صارمةٍ معروفة. وإنما خُصَّ البحث بالتلاوة القرآنية لكونها – من حيث الصورة الأدائية – أصدق تعبيرا عن حال العربية في عهد الصفاء الأول.

وقد نهلت فيه من علوم ومعارف كثيرة شديدة الصلة بعضها ببعض. فمن دوحة القرآن الوارفة الظلال تجويدًا، وقراءاتٍ، ورسمًا، وإعرابا، وتفسيرًا؛ إلى أنهار العربية المادّة نحوًا، وصرفًا، واشتقاقًا، وبلاغةً، وعروضًا، ومعجمًا؛ إلى ألوان من التآليف المختلفة المشارب في الأدب، والفكر، والتاريخ، والاستشراق.

كانت النيةُ في البدء دراسةَ نبر العربية وتنغيمها دراسة عامةً تتناول أهَمَّ أو معظم ما يتصل بهما على ما يقتضيه المنهج الوصفي اللساني الحديث. والحامل على ذلك اعتقادي ومُؤَدَّى بحثي – أن ما قدمه الدارسون لم يكن كافيا في بعض جوانبه على الأقل، ولأنه لم يُجِبْ عن الأسئلة التي ظلت تطرح وتتكرر في كل بحث، وكان من أهمها مسألةُ النبر والتنغيم في تراث العربية من حيث كونهما حقيقة وجودية. وإنّ هذا التكرار لَيُفْصِحُ أَشَّد الإفصحاءِ عن رغبة ملحة في معرفة الحقيقة لا غير، إذ لم يكن للإنسان – بما هو إنسان – غايةٌ وراء الحقيقة.

فإذا تَيَقَّنَّا أن تلاوة القرآن الكريم مبنية على ضبط شديد الصرامة في الأداء، وعلى النقل السليم الذي مرده إلى السماع والمشافهة والعرض المتسلسل – دون أن يكون للقياس العقلي والاختراع الفني مدخلٌ في التلاوة؛ لم يجز الادعاء بأنّ في العربية والتلاوة نوعا من الأداء يسمى نبرا وتنغيما، إلا أن يكون ذلك النوع ثابتا بالنقل والرواية، مبنيا على الملاسنة والتشويف، لأن (النبر والتنغيم) من أوغل الظواهر اللسانية أدائيّةً، وأبعدها عن القيدِ بالرسم، وأعسرها في الضبطِ بالخط، مع وضوحهما التام، وحضورهما الدائم في السمع والدلالة.

سبق إلى بحث هذا الموضوع ومتعلقاته كثيرون، وأُلِّفَت فيه أطروحات عديدة في أقطار مختلفة. وليس القصدُ هنا سَرْدَ كلِّ ما وُضِع وتقرر في نظام النبر في اللغات عامة، أو في لغة بعينها؛ فهو محوج إلى تأليف بحياله، وليس مقصدا من مقاصد هذا البحث.

فإذا تعلق الأمر بالعربية كان مجال البحث أضيق بكثير، وهو يبدأ من أوائل النظريات المعرّبة عن التأسيسات اللسانية الغربية للنبر والتنغيم. وجله مبثوث في كتب المؤسسين من علماء العربية لهذا العصر خاصة في مجال علم الأصوات اللغوي، وفي طليعتهم الدكتور إبراهيم أنيس، وأحمد مختار عمر، وتمام حسان، رحمهم الله جميعا ! وغير هؤلاء ممن أسهم إسهاما أوّليا في التعريفات المفهومية، والصياغة الاصطلاحية، سواء بالوضع أم بالتعريب.

ومن أبرز ما طرحه هؤلاء قضيةٌ جوهرية كانت الباعث الأساس على تأليف هذا الكتاب والإطالة فيه، وهي: عدم تعرض القدماء من علماء العربية وأضرابهم للنبر والتنغيم، لا بالدارسة ولا بالإشارة. وبعضهم بالغ وأبعد في النُّجعة، فنفى أن يكون في العربية نبر وتنغيم.

أما ما يتعلق بمصادر التراث العربية على اختلاف مجالاتها وفترة تأليفها، فقد اقتنع جل من نقل عن المُحْدَثِين بأنها خلت من دراسة لنبرها وتنغيمها؛ فاكتفى الباحثون من أبناء جيلنا الجديد بالنقل الحرفي عن إبراهيم أنيس في رأيه المشهور، وتخففوا بذلك من تبعةِ التنقيب مجددا، وإطالةِ النظر في مظان العربية الجمّة العتيقة، لأن الحديثَ عن عناصر اللغة الفَوْقِطْعِيَّة – نظاما ووظيفةً – غيرُ مشهور في الكتب الأصول الأولى، وفي طليعتها:

– مقدمة (كتاب العين) المنسوب إلى الخليل بن أحمد [ت175هـ] ،

– وكتاب سيوبيه [ت180هـ] ،

– وكتب ابن جني [ت397هـ]، وفي مقدمها (الخصائص) و(سر صناعة الإعراب).

هذه المصادر من غير شك هي عمدةٌ في البحث الصوتي، ولكنها ليست وحدها الغايةَ في فقه العربية المتشعبة المسالك. فبديهي أن العربيةَ – بطبيعتها اللسانية، وتاريخها العتيق، وثقافتها المتشعبة، فضلا عن صلتها بالقرآن الكريم – هي أعظمُ من أن يحاط بها في صحائف معدودات.

نعم ؛ لقد تخففوا من مشقة التنقيب وتقليب النظر في المطولات اتكالا على رأي المشاهير، وتمخض عن هذا النمط من التفكير سلوك غريب عن آداب البحث، وكان من مشكلات البحث العصرية في اللغة والأدب وما شاكلهما، ولا سيما في الدوائر الأكاديمية – ما يلاحظ من شدة اتكاء الباحثين على النص الصريح في مسائل تلتمس غالبا في المصادر الأصول؛ حتى إذا ما خلا النصُّ من التنصيص الناطق حكمَ الباحثُ بالنفي المطلق، أو مَالَ مُلِحًّا إلى تَلَمُّسِ الإشارة، ليستريحَ بعد ذلك ويُرِيحَ من عناء جَرْدِ المطوّلات، وإدامة النظر في المصنفات. فإن كان للباحث صيت وشهرة، أو كان من العلماء المبرزين؛ لم نأمن على الشادين في ميدان البحث من تقليده ومتابعته دون فحص واختبار لرأيه، فيقع التكرار لا محالة، ويخلو البحث من أية قيمة علمية، ويتسلل إلى قلب الباحث الغِرِّ من التسليم بصحة أقوال العلماء دون مباحثة وتسآل – ما يجعله مقلدا بليدا عاجزا، لا يَمُّد يدَه إلى عمل، ولا يشغل نفسَه بمهمّة، إلا أن يتفيّأ ظلال الراحة بتكرار ما قيل. فإن كان منه ذلك فلا تسأل عن سبب قعود همته، وتخاذل عزمه في تحرير المسائل تحريرا علميا دقيقًا متقنًا.

إن البحثَ وسيلةُ تحرٍّ معرفية غايته الحقيقةُ لا غير، وإن كان دَرْكُ الحقيقة – كما هي في نفسها – من المحالات. ثم إنه لا يتحقق للبحث معنىً ولا ثمرةٌ إن لم يقم على أساسين متلازمين:

– أحدهما المشكلة المعرفية المسماة حينا بإشكالية البحث؛ وعادة ما تصاغ في قالب استفهامي. وهي الباعثُ الأولُ والداعي الملحُ إلى تَقَصُّدِ البحث، وتَكَشُّفِ غياهبه، والصبرِ على عقباته.

– والثاني هو جواب المشكلة المتمثل في مقدمات البحث، وفصوله، وأبوابه، ونتائجه. وسائر أدوات البحث من مصادر، ومناهج، ومصطلحات؛ هي وسائل داعمة ومتضافرة تخدم غاية واحدة هي دَرْكُ الحقيقة وفهمها في وجوه مختلفة، كبيان مفهوم، أو جواب معضلة، أو تفصيلِ مجمل، أو تعريفٍ بمجهول، أو إنصاف قضية، أو دحض شبهة، وهكذا.

فإن خلا البحث ابتداء من طرح للإشكال أو تَصَوُّرِه، فلا حديث بعدئذ عن مباحثه ومطالبه، بله نتائجه. وهذه من المساوئ البحثية دون أدنى شك، ولكن أكثر الباحثين؛ ويا للعجب ! مقنتعون إلا حدٍّ ما – بصرف الكثير من الوقت، وإهدار عظيم الجهد في مثل هذا العمل، كالذي يزرع في أرض موات ثم هو يأمل ويرجو رجاء من لا يخاف – أن يجنيَ منها ثمرات طيبة !

لم يكن هؤلاء يوما بِدْعًا من الناس، فلهم في الزمان أنساب ممدودة، وعوائد مشهودة. وممن شهد أمثالهم أبو حامد الغزَّالي رحمه الله ! فقد قال في أضرابهم كلاما يعلق بالفؤاد [المنقذ من الضلال، ص128]. قال رحمه الله: “فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَتْعَبُ طُولَ الْعُمُرِ في تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ يَقْنَعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ الرَّكِيكِ الْمُسْتَغَثِّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ ظَفِرَ بِأَسْنَى مَقَاصِدِ الْعُلُومِ“. وهو، وإن كان يعني طائفة من الناس بعينها، ونوعا من العلوم، وطريقة مخصوصة في تحصيله، إلا أن كلمته هذه عامة مناسبة في من شابههم أو قاربهم.

لقد وضح لي وضوحا جليا من قراءة بحوث كثيرة في نبر العربية وتنغيمها – دورانُ الكلام فيها على معنى واحد لا غير، هو نفسه ما قرره المُحْدَثون في كتبهم المعروفة المشهورة، باقتباس كلامهم بلفظه أو معناه مختصرا أو مشوّها أحيانا، دونما زيادة عليه بشيء يذكر؛ إلاّ ما حرره علمان من أعلام العصر النابهين، هما العلامة اللغوي المدقق الدكتور محمد حسن حسن جبل، واللغوي الأديب المحقق الدكتور محمود الطناحي، تغمدهما الله بالرحمة الواسعة؛ على ما سيبين في موضعه بإذن الله تعالى.

أما ما حُرِّرَ بلغات الغرب فإني لم أعنَ به كثيرا في هذا البحث على الأقل، لأنه عرض للمسألة من جهة غير التي أردت، وهي الاستدلال للمسألة في تراثنا بما تيسر من نصوص وشواهد من مصادر أغفلها كثيرون. على أن قضيتنا هذه عربية قرآنية خالصة، وإذا كان الأمر كذلك فإن للبحث فيها ذواقا شديد الخصوصية؛ لا يعرفه إلا من اختبره فدخله من بابه، وليس ذلك إلّا القرآن في عربيته أداء وبيانا. أعني بذلك أن للذوق العربي القرآني مُدخلا كبيرا في حل غموضها وكشف لَبْسِها. ومن أين للغربي ذواق هذه المسألة وهو لم يَبْلُ لسانه بعربية القرآن أداءه وبيانه ؟!

ولست أهون في هذا المقام من شأن المصادر غير العربية، غربية كانت أم شرقية، فهي – كما علِم المنصفون من الباحثين والمثقفين – ذاتُ خطر عظيم، كمًّا ونوعا، وفي كثير منها من الصرامة والجدّ غايةً. وهي قبل ذلك جزء من الميراث الإنساني العام الذي فيه حق لكل إنسان، أيا كان عرقه، ولغته، ومذهبه. فلا ينبغي للباحث العربي أن يغفل المصادر أيا كان لسانها، وثقافتها، وموضوعها. غير أن النظر العلمي الناقد يوجب الحذر في النقل عن الغربيين، لما عرف عن بعضهم من تزييف فاضح، وقلب واضح للحقائق. وستقف على هذه الحقيقة في مواضع من هذا الكتاب([1]).

وينبغي القول بأن ثقافةَ اللغة فاعلةٌ فعلا قويا في الباحث فكرا وسلوكا، وفي آثاره شكلا ومضمونا. فليس لغير عربيِّ اللسانِ والفكر أن يكتب في مسائل من العربية ثم يصيب منها المحزّ على الكمال والتمام. والأمر بالمثل تماما للعربي إذا هو بحث أو كتب بغير لسانه.

– ليس في هذا البحث ما هو غير مألوف على القارئ الباحث، إذ لا جديد في موضوعه وأكثر مصطلحاته. ولكن الجِدَّة في منهجه، وأدلته، ونتائجه، وسيجد فيه القارئ اختلافا عما قدمه كثير من علماءنا منذ كتب فيه إبراهيم أنيس رحمه الله.

حاولت أن أسهم فيه بقدرٍ من الإجابة والبيان عن بعض مشكلاته، غيرَ مُقَلِّد لمن سبق في الرأي والنظر، إلا أن يكون مني اختيارا له أو ترجيحا. ووجه الفرق بينه وبين ما سبق من بحوث أني أقمته – في أكثر مباحثه وفروعه – على ضرورة استقراءِ النصوص التراثية، وقراءتِها قراءةً متأنيةً قائمةً في الغالب على موازنةِ بعضها ببعض، ومباحثة العلماء فيما تأولوه منها، لرسم صورة أوضح، وبلوغ غاية أقرب إلى الكمال في تَكَشُّفِ الحقيقة. فإن بدا فيه قصور ولا بد، فأرجو أن يكون بابا إلى بحث أكثر صرامةً، وأوفق تحرّيًا.

واعْلَمْ أنّ مثلَ هذا العمل لا يتم إلا بالتحررِ التامِّ من سطوةِ التقليد، والتَّفَلُّتِ من بَلادة التكرار والترديد، والخلوصِ من ضيق التعتيم إلى سعة التنوير، والوقوفِ عند المسلمات وقفةَ تشككٍ جادٍّ يختبرُ الصدقَ، وتردّدٍ يستبين به العزم، ويطمئن به القلب في طريق سالكةٍ، ونهجٍ من الأصولِ العلمية الواضحةِ المعالم، المتينةِ البنيانِ نظرًا واصطلاحًا، الصحيحة النَّسَبِ نَقْلًا وعَقْلًا؛ ليبديَ بعدُ الرأيَ فيها بما يتفق والحسَّ المعرفي في طلب الحقيقة ليس غير. وحقٌّ على من جمّله الله بفهم سليم وإدارك كامل ألَّا يضيع نفسه. ولله درّ من قال (الطويل):

وَعِنْدَ صَلِيلِ الزَّيْفِ يَصْدُقُ الاِبْتِلَا

هذا؛ وإن مسالك البحث الجاد كثيرة جدا، قد لا يغني بعضها عن بعض، ولكنْ إذا اعتاد الباحث ارتيادها كانت عليه أقلَّ كلفةً، وأقصرَ مسافةً، وأضمنَ وصولًا. وحَرِيٌّ بطالب المعرفة أن يعرف هذه المسالك كلها؛ لأن الذي لا يعرف إلى بيته إلا طريقا واحدة قد تُقْطَعُ دونه الطريق، أو يتخطف منها، درى ذلك أو لم يَدْرِهْ.

وللجواب عن معضلات هذا البحث ومشكلاته طرقت أبوابا كثيرة ومسائل مختلفة من العلم، نزعت في بعضها إلى منحىً استطراديٍّ تفسيري، فاشتمل على مباحث كثيرة يكاد يكون كل منها مستقلا لوفاء الحق منه بمقصده، ولكنه بعدُ مفسّر لما قبله، موطّئ لما بعده – في تتابع وترابط كالحلقة في سلسلة طويلة. وقد حداني ما في مبحث النبر من الطول والتشعب – إلى إفراده بجزء مستقل عن بحث التنغيم. وبنيته على اثْنَيْ عَشَرَ فَصْلًا، وهي مبينةٌ في فهرس الموضوعات.

– ليست الغاية من هذا الكتاب أن يُلَقَّن القارئُ معارف جديدة، إذ المعلومة موفورة في مصادرها، متى ما جَدَّ في طلبها وَجَدَها. فإن ظَفِر بها – في هذا الكتاب أو غيره – توجّه عليه أن ينظر فيما وقع له منها؛ ليجيل فيها من الفكر ما يرقى به إلى نَقْدٍ بَصِيرٍ، وقراءةِ ذَوْقٍ، لينظر بعين الفحص فيما اعتاده جمهور الناس سهلا ميسورا، وواضحا جليا. وهذه وحدها آفة قتلت الذوق في العلم والبحث، وأورثت الناس تبلدا فكريا تستعجم به عليهم المدارك الظاهرة.

ولهذا جعلت وُكدي وعنائي، وغايتي ومقصدي من هذا البحث – بيانَ المنهج في تلقي المعلومة نقدا وتذوّقا، سواء بالعبارة أم بالإشارة، ويكاد ذلك يكون في كل مبحث، ومسألة، ومفهوم، واصطلاح. وسيلاحظ القارئ أشياءَ قصدت إليها وتعمدت ركوبها، ظاهرها تكرار وإطناب، وحقيقتها إلحاحٌ يرتاد للحقيقة نواحي الظَّفَر؛ ليقفك على علة كثرة المقدمات، وإطالة التوطئات، وإيراد السؤالات، عند كل معالجة، وفي مبتدإ كل مبحث، كل ذلك تنبيها إلى أُسّ المشكلة، وما يحتمله العلم في سبيل الجواب عنها.

وليعذر القارئ الكريم كثرة الاستطراد، وتشعب المسائل، وتوالي التنبيهات، وإن كنت أراها ضرورية في تحرير مسائل الكتاب نظرا وتطبيقا، وربما كان ذلك جزءًا من منهجي في التفكير. وظني بالقارئ اللبيب، الذي أُشْرِب قلبُه حبَّ العلم، وكَلِفَ به إلى حدِّ التعشق – ألَّا ينزلَ منه طولُ الكلامِ وتشعبُه إلَّا بِبَالٍ واسِعٍ، وخُلُق وادِع، وأنَّ لي عنده من العذر، وسَعَةِ الصدرِ؛ أكملَه وأجملَه. ثم له مني – على ضعفي وفقري إلى المولى الجليل – الدعاء بأن ينفعني وإياه بهذا العمل… آمين !

***

– وبعدُ أيّها القارئُ الكريم … إذا وُفِّقْتَ للنظرِ في هذا الكتاب، ورُزِقْتَ صبرًا على طولِه، وفضولًا في استظهارِ فوائدِه ؛ فَاقْرَأْهُ بِعَيْنِ الباحثِ الناقدِ، وأعمِلْ فيه فكرَ التأمّلِ لِيَظْهَرَ لَكَ القَصْدُ مِنْ وَضْعِه . فإذا رأيتَ فيه خَلَلًا – وَلَا بدّ – فأصلِحْه بجميلِ النُّصْحِ، وادْفَعْ عنه مَظِنَّةَ الزَّلَلِ بالعُذْرِ ما أَمْكَنَ . ولا يُلْهِيَنَّكَ تقليبُ البصرِ في شكلِه ورقمِه، وصورةِ ترتيبِه، فيفوتَكَ المرادُ مِنْ تأليفِه . واللهُ هو الهادي إلى سبيلِ الرشادِ فضلًا ونعمةً، وهو الموفقُ إلى دربِ الصوابِ كرمًا منه ومنّةً، وأزكى الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ على المبعوثِ هدىً ورحمةً، نبيِّنا محمدٍ وآلِه وصحبِه والتابعين لهم بإحسان.

الأستاذ مصطفى مسيردي
جامعة سيدي بلعباس – الجزائر
mmesirdi @ gmail . com
00 . 213 . 556 . 85 . 97 . 79

 

([1]) ينظر على سبيل المثال كتاب (بروكلمان في الميزان) لشوقي أبو خليل، فيه ذكر لفضائح الاستشراق العلمية.