تفصيل

  • الصفحات : 328 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-632-1.

كان الخطاب الفلسفي الكلاسيكي  يتمحور حول نظرية معينة هي علم مطلق الوجود (Ontologie). وقد امتد هذا الخطاب من الفلسفة اليونانية مرورا بالفلسفة الوسيطية، وانتهاء بالعصر الحديث حيث انصب الاهتمام بنظرية المعرفة.

أما في الفلسفة المعاصرة فإن الاهتمام أصبح يدور حول مفهوم القيمة التي تشكل أساس الخطاب المعاصر. وهنا تحدث القطيعة الإبستيمولوجية بين الفهم الكلاسيكي والفهم المعاصر للوجود . وهذا الفهم الأخير يحيل الوجود إلى مجموعة من الظواهر والقيم والتجليات مصدرها الذات، فالذات في الخطاب المعاصر تمثل المنتج المباشر للمعرفة،  وإذا كان كل من ديكارت ولايبنتير وكانط وهيغل … قد أولوا عناية خاصة للذات فإن ما يؤخذ  على هذه الطروحات أنها بقيت حبيسة الوعي الخالص كجملة من المبادئ والأسس القبلية، وهذا ما جعل هوسرل يرسي إستراتيجية  للتجاوز تستند إلى منهجية إجرائية  صارمة، وهذا لا يعني انه لم يستفد من الجهود السابقة عليه، والتي تمثلت بالخصوص في طروحات ديكارت في فكرتي الحدس والرد،  وكانط في فكرة التعالي، ومن هيغل في (ظاهريات الروح) . ويظهر ذالك جليا في مؤلفه (تأملات ديكارتية، مدخل إلى الظاهريات ).

كما تأثر بـ  برنتانو في مؤلفه (الفلسفة كعلم قوي)،و نظريته في القصد . وبهذه الأرضية الفلسفية الصلبة استطاع أن يشيد مشروعه الظاهراتي لتجاوز الطرح الميتافيزيقي الذي كان يميز الفهم الكلاسيكي  للوجود . فما مضمون هذا التجاوز؟ وكيف تشتغل هذه الإستراتيجية، بمعنى آخر، ما الأدوات والآليات التي تتحكم في هذه الظاهراتية عند هوسرل ؟

لقد انطلق هوسرل من مقولته الشهيرة الشعور هو الشعور بشيء ما , التي تلخص في المعرفة . وفي هذا الطرح تحول كيفي عن سابقيه الذين يرجعون المعارف إلى وجود في ذاته أو إلى شعور الصرف. فا الشعور القصدي هو الحس المباشر للأشياء، والإحالة المتبادلة بين الذات والمواضيع التي تقابلها …بمعنى أن الذات هي التي تضفي على العالم مجموعة من الخصائص والصفات من خلال هذه الإحالة  . فالشعور ليس جملة  من المبادئ  والأسس القبلية  بل هو تلك العلاقة القصدية المستمرة، با لمواضيع ليست ثابتة ومن هنا يـأتي هوسرل بمفهوم مجموعة  اللحظات المعيشة قصديا. وهذه العلاقة با المواضيع ليست ثابتة . ومن هنا يأتي  هوسرل بمفهوم تعليق الحكم الذي تنحصر وظيفته في وضع بين قوسين كل الأحكام السابقة والحقائق والتجارب والمعتقدات لدراستها وتحليلها سعيا وراء الكشف عن الماهية المختفية في الظواهر  المعطاة للشعور .

إن الوصف الظاهراتي الذي قام به هوسرل، جعله يرى أن كل اختبار للمواضيع يعتبر كأمر ثابت  وجود خلفية،ممارسات  وعلاقات با المواضيع  الأخرى  التي يسميها  بـ “الأفق البعيد للشيء”. كذالك رأى هوسرل انه إذا كان  لابد من جعل  التجربة الإنسانية مفهومة كليا فإنه لا ينبغي ترك هذه الخلفية غامضة . بل يجب تناولها كموضوع للتحليل من اجل تصدى في كتابه الأخير (أزمة العلوم الأوروبية ) لمسألة توضيح  الخلفية . وأراد إن يثبت بأن كل ما هو معتبر كأمر ثابت في تكوين الموضوعية يمكن أن يعالج بدوره  كموضوع،و هنا تكمن المفارقة،  بمعنى  أن تخضع إلى الوضع بين قوسين، فتبقى الأشياء الوحيدة المعطاة لنا حقيقة هي الظواهر، وليس الوجود في ذاته، فهذا الأخير   باعتباره ظاهرة هو أيضا كسائر الأشياء وهكذا يتكون مجال الحدس الظاهراتي، من كافة الظواهر المعطاة للشعور .

فتعليق الحكم يحيل إلى الشك والتساؤل حول قيمة وجوهر الحقائق المتوصل إليها وكل المعلومات السابقة . وهذا ما يعطي حيوية وفاعلية للمواضيع وللعالم  بصفة عامة  عن طرق  الاتصال القصدي المستمر . لأن الاكتفاء بحقائق معينة والجمود عندها  كخلفية لا مفكر فيها وغير معقولة، كأنها مجموعة مترسبة من المعتقدات، معناه  إلغاء أو القضاء على فاعلية  الوعي لكن بواسطة تعليق الحكم، يرى هوسرل أن هناك عودة مستمرة لفعل القصد  تجاه المواضيع لاستكناه  الجوهر  المغيب فيها (المعنى)، ولإضفاء التجدد على حقائق والنتائج المتوصل  إليها .

و إذا كان هوسرل قد استفاد من الكوجيطو الديكارتي باعتبار ان الذات هي مصدر  المعرفة بواسطة حدسها المباشر للأشياء وأن العالم الديكارتي، عالم الظواهر  فإنه اخذ عنه مفهوم  الرد الماهوي . وحسب هوسرل، فإن وظيفة هذا المفهوم تتمثل في التمييز بين الواقعي والماهية، وهي مرحلة ترتد فيها الوقائع الجزئية إلى الماهية الكلية ويتبع ذالك مرحلة أخرى أكثر تعقيدا وهي ما يسمى بمرحلة الرد المتعالي، وبذالك نصل إلى الأنا المفكر أو الشعور الخالص . با الرغم من هذه الاستراتيجية الصارمة في التأويل، فإن  الصعوبات المنهجية والمعرفية التي إعترضت هوسرل وظيفيا هي انه لم ينجح في إدراك التعالي، أي إدراك تلك الظاهرة التي يتجاوز بها الشعور ذاته بالاستمرار متجها نحو العالم .

والإلتجاء إلى القصدية أو الإحالة المتبادلة لا يعني شيئا في هذا الباب لأنه لا يمكن أن يكون إلا تجاوزا  نحو عنصر من عناصر  العالم الداخلي، ولا يمكن أن يكون علوا حقيقيا.

إن الظاهراتية بوصفها منهجا، تبدو لأول وهلة أنها نوع من الوضعية (Positivisme)، ولكن هذا ليس معناه أنها تستبعد الميتافيزيقا . الواقع  أن الاتجاه الظاهراتي يسقط في نظرة إيقانية ووثوقية، بمعنى أن المنهج (méthode)  في حد ذاته يتضمن مذهبا  إذ أنه لما كان الوصف الظاهراتي، يعتمد على وضع مجال الوجود كله  بين قوسين، ولا يترك أمام نظرة العقل، سوى الظاهرة الخالصة، فإن الظاهرتية الهوسرلية تحيل الكون إلى أفكار وإلى المضمون الباطني للشعور، ولا تعترف بنمط من المعرفة اليقينية سوى (مشاهدة الماهيات) ومن ثم فـ هوسرل يتجه أكثر فأكثر نحو  مثالية متطرفة وتؤلف أعماله  سلسلة بطيئة الانحدار؛ وكلما قلت التحليلات المثمرة، كثرت التعميمات الميتافيزيقية . كما ان تأثير فكر هوسرل  قد إزداد مع تناقص أهميته وتهاوي بنائه أمام اختبارات الفلاسفة التحليلين، ومن ثمة جاء ذالك السقوط العجيب من الظاهرتية إلى الوجودية .