تفصيل

  • الصفحات : 534 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2019،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الاولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-728-08-5.

يتزايد الإقبال على دراسة التّصوّف الإسلاميّ بوتيرة لافتة للنّظر، فلا ينفكّ باحثون كُثْر يسلّطون الأضواء على مقوّماته العمليّة وخصائصه الرّوحيّة وآدابه الطّرقيّة، ويكشفون الغطاء عن أبعاده النّفسيّة ووظائفه الاجتماعيّة وأدواره السّياسيّة. بيد أنّ الجهود المبذولة في هذا المجال تبقى بتراء مالم تشمل عقائد المتصوّفة بالبحث المعمّق، والنّقص على هذا الصّعيد جليّ، فحتّى وقت قريب ظلّت فاترةً عنايةُ الدّارسين بما تتضمّن المؤلّفات الصّوفيّة من مقالات في إشكاليّة الذّات والصّفات وطبيعة الكلام الإلهيّ ومفهوم الإيمان ومعنى الكفر وغير ذلك من المسائل الّتي ظهرت في خضمّ المجادلات الكلاميّة، إذ ما انصرفت إليها أنظارهم إلاّ لماما، ولا حظيت بقدر معتبَر من أبحاثهم مسألةٌ اعتقاديّةٌ عدا ما نشأ في رحم التّصوّف عينه من دعاوى تتعلّق بالولاية كالحفظ والكرامة والإلهام، وما التبس به من أفكار مثيرة للجدل والنّكير مثل فكرة الحلول وفكرة وحدة الوجود.

وربّما كان من أسباب الذّهول عن دراسة أقاويل القوم في تلك المسائل الخلافيّة سبقُ التّسليم بكون التّصوّف ذا طبيعة عمليّة وأنّه ليس مذهبا كلاميّا، ويبدو أنّ الباحثين تأثّروا في ذلك بالأقدمين ولاسيّما مصنّفي كتب الفرق، فالظّاهر من مؤلّفات هؤلاء وغيرهم أنّهم لم يعدّوا الصّوفيّة ضمن أهل الكلام، وما شذّ عنهم في ذلك، على ما نعلم، سوى ابن النّديم الّذي خصّ الكلام والمتكلّمين بمقالة في كتابه “الفهرست”، جعلها على خمسة فنون، أوّلها في المعتزلة والمرجئة، وثانيها في متكلّمي الشّيعة الإماميّة والزّيديّة، وثالثها في المجبّرة والحشويّة، ورابعها في متكلّمي الخوارج، وخامسها في السّيّاح والزّهّاد والعبّاد والمتصوّفة المتكلّمين على الخطرات والوساوس.

ولئن ذهب فخر الدّين الرّازي، في كتابه “اعتقادات فرق المسلمين والمشركين”، إلى إدراج الصّوفيّة ضمن “فرق الأمّة”، فإنّه لم يظهر منه حيث ذكرهم ما يحمل على القطع بكونه يعتبرهم أصحاب مذهب كلاميّ، ناهيك أنّه لم يَعْزُ إليهم هناك أيّة مقالة تتّصل بمسألة من مسائل الكلام. وكان الغزالي عدّهم فرقة من أصناف طالبي الحقّ، مميّزا إيّاهم عن المتكلّمين،إذ جعل هؤلاء صنفا آخر. أمّا الأشعريّ الّذي انتسب إليه الرّجلان في الاعتقادات، فإنّه بيّن خلال مؤلَّفه “مقالات الإسلاميّين” اختلاف المسلمين عشرة أصناف سمّاها وما شمل بالتّسميةالصّوفيّة، لكنّه سرد بعض عقائدهم المشهورة مثل القول بالحلول ودعوى سقوط الأعمال وتجويز ظهور المعجزات على الصّالحين وأن يكون فيهم من هو أفضل من الأنبياء والملائكة. وكذا فعل ابن حزم درَج كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنّحل”، بيد أنّه اضطرب في وصفهم، فلئن أدرجهم تارة في عداد من «ليسوا من الإسلام في شيء من أهله، بل كفّار بإجماع الأمّة»، وقال مرّة في معرض ذكره من تسمّى باسم الإسلام مع إجماع جميع فرق الإسلام على أنّه ليس مسلما: «وآخرون كانوا من أهل السّنّة فغلوا …»، فإنّه تحدّث عنهم في كرّة باعتبارهم من «قوم لا تُعرف فرقهم»، على أنّ المراد بكلامه ليس جميع أهل التّصوّف، وإنّما طائفة منهم، كما عنى عبد القاهر البغداديّ طائفة أخرى بحديثه عن الزّهّاد الصّوفيّة، في كتابه “الفرق بين الفرق”، عادّا إيّاهم سادس أصناف أهل السّنّة والجماعة.

لعلّ هذا العرض الوجيز لآراء المؤلّفين القدامى يغني عن بيان ما يتّسم به موقع المتصوّفة على خارطة الفرق الإسلاميّة من ضبابيّة، فذا أمر مثير للاهتمام، وباعث على تساؤلات عديدة، يشغلنا منها في مشروعنا البحثيّ خصوصا التّساؤل التّالي: إلى أيّ حدّ تتداخل النّزعة الذّوقيّة والمشارب الكلاميّة في بنية الاعتقاد الصّوفيّ؟وأمر آخر أنّ المتصفّح لكتب الفرق والمقالات قد يتوهّم أنّ مشايخ التّصوّف لم يدلوا بدلائهم في مواضيع الجدل الكلاميّ، بينما تحتوي مؤلّفاتهم على قدر من ذلك وقفنا عليه فجعل همّتنا تتعلّق بإنجاز هذا البحث، عسى أن نساهم في نفض الغبار عن وجه من التّديّن الصّوفيّ يضاهي الأوجه الأخرى أهمّيّة، واضعين على بساط الدّرس ما نوجزه في هذه الصّيغة الاستفهاميّة: هل يمكن القول بأنّ مدوّنات أولئك المشايخ من فكرهم العقديّ تنطوي على معادل لعلم الكلام؟

وإذ تحفّزنا لخوض هذه المغامرة الّتي لا يأمن عواقبَها مبتدئ في دراسة التّصوّف كحالنا وذو حظّ من المعرفة بمسائل الكلام يسير، انصرفنا إلى المثابرة على التّزوّد من كتب الفرق والمقالات، مع إمعان النّظر في ما يتّصل بالموضوع من نصوص المتصوّفة، وإذا بنا نواجه صعوبات جمّة، أخطرها ثِنْتَان: إحداهما امتناع الإلمام بالكثرة الكثيرة من المسائل الكلاميّة المتفرّعة إلى ما يكاد يستعصي على الحصر. والثّانية تعذّر استيعاب جميع المقالات الصّوفيّة، الدّائرة رحاها حول تلك المسائل، في ظلّ أفق زمنيّ محدود. ولذلك آثرنا أن نقتصر على قضايا مختارة محدّدة ونصطفي علَمين من أهل التّصوّف نتّخذهما نموذجين.

نقرع في بحثنا هذا بابين نحسب أنّهما يستغرقان كلّ مسائل الكلام على اختلافها وتنوّعها، فأمّا الباب الأوّل فشارع إلى إشكاليّة الذّات الإلهيّة في تعلّقها بصفاتها، وأمّا الباب الثّاني فمنفذ إلى إشكاليّة العلاقة بين اللّه والإنسان. وما نفصل هنا بين البابين على غَفَلٍ عن تداخلهما، وإنّما تُلزمنا الفصلَ الضّرورةُ المنهجيّةُ الّتي تُحوجنا أيضا إلى التّعريج على مقالات فرق المتكلّمين في كلّ مسألة تستوقفنا، حتّى تنجلي على ضوئها حظوظ آراء الصّوفيّة من الاتّباع والابتداع. ولنستغن بذلك، تجنّبا للتّكرار، عن تخصيص حيّز مستقلّ لتعريف الفرق الإسلاميّة، ونتوخّ الاختصار المفيد حذر الانجرار إلى تفصيلات وتفريعات تلهينا عن القصد. ولا مناص من استهلال هذا العمل باستقراءتعريفات التّصوّف وعلم الكلام واستبيان ظروف نشأة كلّ منهما واستظهارموقف المتصوّفة المبدئيّ من الجدل الكلاميّ.

وإذ نتوسّع قدرالمستطاع في عرض الآراء الصّوفيّة المتّصلة بالمسائل الكلاميّة المختارة، نقتصر في التّحليل على مقالات رجلين من أعلام التّصوّف بينهما اختلاف من نَوَاحٍ وائتلاف من أُخَر،ألاوهما أبو حامد الغزاليّ ومحيي الدّين بن عربي اللّذان لم يتزامنا، فقد توفّي أوّلهما سنة 505ﻫ [1111م]وعاش الثّاني بين العامين 560-638ﻫ [1164-1240م]، لكنّهما عاصرا ظرفين تاريخيّين متشابهين من أوجه، أحدها سيادة المذهب الأشعريّ الّذي حظي في بلاد المشرق بدعم من بعض رجال الدّولة السّلجوقيّة حتّى أمسى حينئذ عقيدة شبه رسميّة، وتعاطاه المغاربة والأندلسيّون منذ أذاعه في بلادهم ابنُ تومرت (ت524ﻫ/1129م) صاحب الدّعوة الموحّديّة الّتي أفضت إلى قيام دولة حكمت الأندلس والشّمال الإفريقيّ بين سنتيْ 540-668ﻫ [1146-1269م].

ومن المعروف أنّ أبا حامد كان على المذهب المذكور عينه، وقد تتلمذ لإمام الأشاعرة في وقته أبي المعالي عبد الملك الجوينيّ (ت478ﻫ/1185م) الّذي أنزله عنده منزلة خاصّة ووصفه بالقول إنّه «بحر مغدق»، وبعد وفاة أستاذه هذا تقرّب إلى وزير السّلاجقة نظام الملك الّذي كان مهتمّا بتغليب الأشعريّة على سائر المذاهب الكلاميّة، وقلّده ذلك الوزير التّدريس في نظاميّة بغداد وهو لم يتعدّ آنئذ الرّابعة والثّلاثين من عمره.

أمّا ابن عربي فتضاربت الآراء حول مشربه الاعتقاديّ، مع أنّه صرّح بعقيدته ضمن مقدّمة كتابه الفتوحات المكّيّة مُشهدا على نفسه النّاس في ذلك، إذ لئن شهد الصّفديّ بعدما قرأتصريحه ذاك بأنّ العقيدة الّتي وقعت عليها عيناه «عقيدة الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ ليس فيها ما يخالف رأيه»، فإنّ مؤلّفا يُدعى ابن مسدي ذهب إلى أنّه «باطنيّ النّظر في الاعتقادات»، والظّاهر أنّ هذا الحكم مستنتَج من غير ما وقف عليه الصّفديّ، ذلك أنّ الشّيخ الأكبر لم يقتصر في الفتوحات على الإشهاد المشار إليه، بل صاغ معتقداته على أنحاء ثلاثة أخرى أيضا، عادّا كلّ وجه من الأربعة رتبة من درجات الاعتقاد: فأمّا الدّرجة الدّنيا فالمرادة، على الأرجح، بكلام الصّفديّ، وهي المعتبَرة لدن ابن عربي «عقيدة العوامّ من أهل الإسلام أهل التّقليد وأهل النّظر ملخّصة مختصرة»«من غير نظر إلى دليل ولا إلى برهان». وأمّا الدّرجة الثّانية فعقائد العلماء أهل الرّسوم، اختصرها الرّجل مسجّعة الألفاظ. وأمّا الدّرجة الثّالثة فمعتقدات «خواصّ أهل اللّه من أهل طريق اللّه من المحقّقين أهل الكشف والوجود» عرضها في آخر مقدّمة كتابه المذكور. وأمّا الدّرجة الرّابعة فـ«عقيدة الخلاصة» من «خواصّ أهل اللّه»بدّدها في أبواب ذلك الكتاب عينه، متجنّبا إفرادها على التّعيين «لما فيها من الغموض».

ولئن كان في الشّيعة الإماميّة من عدّه سنّيّا متعصّبا وعدوّا لدودا لأنصار أهل البيت، فإنّ الإسماعيليّة اعتبرته من حججها، كما رآه بعض الشّيعة الاثني عشريّة على المذهب الاثني عشريّ، وهكذا شأن أهل السّنّة أيضا معه، فمنهم من صنّفه ضمن علمائهم، ومنهم من حكم بأنّه شيعيّ. حتّى الباحثون من أبناء هذا العصر لم يتوان بعضهم عن الانخراط في السّجال حول هذه القضيّة، فالباحث الإيرانيّ محسن جهانكيري، مثلا، أبدى رأيه فيها قائلا بضعف احتمال شيعيّة ابن عربي ورجحان كونه سنّيّا.

إذن، ليس من الثّابت أنّ حجّة الإسلام ومحيي الدّين على مذهب كلاميّ واحد، إلاّ أنّ الرّجلين يتشابهان من وجه آخر، كونهما على قدر من الإحاطة بمذاهب المتكلّمين والفلاسفة تميّزا به عن كثير من أهل التّصوّف فلا غرو أن اهتمّ الثّاني بكتابات الأوّل، لاسيّما “إحياء علوم الدّين” أشهر كتبه، وكانت السّلطة الموحّديّة رفعت عن ذلك الكتاب الحظر الّذي فرضه المرابطون، وأدرجته ضمن الموادّ الأساسيّة في النّظام الدّراسيّ الرّسميّ. وربّما وجد ابن عربي في مؤلّفات الغزالي ما يوافق بعض آرائه، بل لقد أقرّ بشيء من ذلك ثِنْيَ رسالته إلى الإمام فخر الدّين الرّازي، أين نبّه إلى عجز العقل عن معرفة اللّه قائلا:«إنّ العلم باللّه خلاف العلم بوجود اللّه، فالعقول تعرف اللّه من حيث كونه موجودا ومن حيث السّلب لا من حيث الإثبات، وهذا خلاف الجماعة من العقلاء والمتكلّمين، إلاّ سيّدنا أبا حامد قدّس اللّه روحه، فإنّه معنا في هذه القضيّة، ويجلّ اللّه سبحانه وتعالى أن يعرفه العقل بفكره ونظره».

لكن يختلف العلَمان اختلافا ظاهرا من حيث صلتهما بالتّصوّف، فابن عربي رسخت قدمه في هذا الميدان منذ ريعان شبابه، إذ ولجه في سنّ العشرين على أقصى تقدير وفق إشارته ضمن كتابه الفتوحات إلى دخوله الطّريقة الصّوفيّة سنة ثمانين وخمسمائة. أمّا الغزالي فسلك هذه الطّريقة أثناء مرحلة كهولته، بعد ما ألمّ به من شكّ في الحسّيّات والعقليّات أقضّ مضجعه وشُفي منه بنور قذفه اللّه في صدره على حدّ عبارته. وتجلّت بوادر مُنعَطَفه الصّوفيّ عمليّا في انقطاعه عن التّدريس بنظاميّة بغداد، وخروجه من هذه المدينة عام 488 ﻫ، وخوضه غمار التّرحال متزهّدا، ودخوله دمشق «على زيّ الفقراء»، ومكوثه هناك مدّة قصيرة «على قدم الفقر»، ثمّ مجاورته حينا ببيت المقدس واعتكافه طورا بالمنارة الغربيّة من جامع دمشق.

ألّف الغزالي، في غضون تلك الرّحلة الّتي استغرقت قرابة عشر سنوات، كتابه المعروف “إحياء علوم الدّين”، وبمادّته وعظ إثر عودته إلى بغداد حوالي سنة 498 ﻫ، وفي طيّاته برز نهجه الصّوفيّ بوجه لا غبار عليه. ومع أنّ محوره «علم المعاملة» الظّاهرة والباطنة أي العلم بأفعال الجوارح وأعمال القلوب، لم يخلُ ذلك الكتاب من كلام في المسائل الخبريّة، فقد ضمّنه مؤلّفه ترجمتين لما ينبغي، من وجهة نظره، أن يُعتقد، وقوام إحداهما إجمال لا يعتوره حجاج ولا استدلال، وذلك على اعتبار أنّ هذا القدر هو ما يجب تقديمه إلى الصّبيّ ويفي بحاجة العوامّ، إلاّ إن خيف التّشويش عليهم لشيوع البدعة، فعندئذ لا بدّ من درجة أخرى فيها «لوامع من الأدلّة مختصرة من غير تعمّق»، وعلى هذه الدّرجة من التّفصيل التّرجمةُ الثّانيةُ الّتي هي في الأصل رسالة مستقلّة كتبها أبو حامد في بيت المقدس تحت عنوان “الرّسالة القدسيّة في قواعد العقائد”. والتّرجمتان عمدتنا في دراسة مقالاته، مع فصل آخر من الكتاب عينه مداره على تحديد الإيمان والإسلام.

أمّا معتمدنا في استجلاء آراء ابن عربي فالأباديد التّباديد من عباراته وإشاراته ضمن أبواب كتابه الضّخم الفتوحات المكّيّة، فضلا عمّا عرضه هناك في آخر المقدّمة أي ذاك المعزوّ إلى «خواصّ أهل اللّه». ولننظر في تلك المتفرّقات على ضوء ما صدّر به السّفرَ نفسَه من إقرار وإشهاد، حتّى نتبيّن مدى التزامه بالمذهب الأشعريّ، انطلاقا من سبق التّسليم بصحّة شهادة الصّفديّ المذكورة. والتّسلّح بالصّبر ملجؤنا في مواجهة بعض من كلامه يشوبه التباس ناجم عمّا اتّسم به خياله من فوضى أزعجت بعض الباحثين الغربيّين.

على أنّ كتابيْ الإحياء والفتوحات لن يغنيانا عن الاستعانة بنصوص أخرى من مؤلّفات الرّجلين، فإنّنا سنلتفت إلى غير ذينك السّفرين من كتبهما كلّما اقتضى الأمر، ونرجع عند اللّزوم إلى رسائل ابن عربي وبعض من رسائل الغزالي. ونراعي في اصطفاء مصادرنا من كتابات أبي حامد مواقيت تأليفها، إذ المعوّل عليه منها ما ألّفه إثر منعرجه الصّوفيّ وبعد تصنيفه الإحياء تحديدا، ونستند في ذلك إلى رتبة كلّ مؤلَّف حسب التّرتيب الزّمنيّ الّذي وضعه عبد الرّحمان بدوي.

وما نحن في غنى عن الاهتداء بالمنجَز إلى الآن من أبحاثٍ ذاتِ صلةٍ بموضوع عملنا، مع أنّ ما بلغ علمَنا منه لا يتعدّى بيان عقائدِ فردٍ من مشايخ التّصوّفأوالتّطرّق إلى تحليل رأي القوم برمّتهم في مسألة مفردة من مسائل الاعتقاد أودراسة معتقَد أحدهم في إحدى تلك المسائل. وربّ عنوان فصل من فصول كتاب يوهم بأنّ مدار المعنوَن على ما يهمّنا في هذا البحث، ولا نظفر من مضمون الفصل بما يقيم الأود، كشأننا مع مارقريت سميث (Margaret Smith) الّتي عقدت فصلا ضمن كتابها Studies in Early Mysticism in the Near and Middle East تحت عنوان The Mystical Doctrines of Early Sufism عرضت فيه مفهوم المتصوّفة العامّ لطبيعة الذّات الإلهيّة وصفاتها، مستشهدة بأقوال من نصوص الهجويريّ والغزالي وأبي طالب المكّيّ وغيرهم، دون تعمّق في استكشاف تصوّرهم لتلك الذّات، ثمّ صرفت اهتمامها إلى أمور تتّصل بالطّريق الصّوفيّ ممّا لا يندرج في مرادنا هنا بالعقائد الصّوفيّة كالمقامات والأحوال والتّمكين والمحبّة….

ولم نجد في ما خلا ذلك سوى أحكام غير دقيقة، في الأغلب الأعمّ، وقع إطلاقها من دون تناول عقائد المتصوّفة بالنّظر المتأنّي، مثل قول الغرميني إنّ «العارفين الكمّل والصّوفيّة المحقّقين تجمعهم دائرة أهل السّنّة والجماعة، وهم أقرب إلى الأشاعرة من سواها»، مع إقراره بوجود زهّاد كبار في كلّ الفرق الإسلاميّة وباحتمال أن يكون في المعتزلة والشّيعة المعتدلة من ينشد الحقائق الإلهيّة بتطلّع غير طرق الجدل. ولهذا نسعىإلى الوقوف على حقيقة العلاقة بين أهل التّصوّف ومختلف الفرق الكلاميّة عبر استكشاف الكيفيّات الّتي واجهوا بها المسائل الاعتقاديّة، واقتفاء ما بينهم وبين المتكلّمين في معالجتها من مكامن الاختلاف ومظاهرالائتلاف، وتبيّن مدى انسجام مقالاتهم فيها مع جوهر التّصوّف. ونتّخذ في سبيل ذلك منحىتحليليّا استقرائيّاننأى به قدرالمستطاع عن الإخلاد إلى السّرد الّذي لا بدّ منه عند عرض المقالات،ويرتكز مسلكنا هذا على مقاربة سياقيّةتستوعبالسّياقات التّاريخيّة ببعديها المعرفيّ النّظريّوالاجتماعيّ الثّقافيّ، نعنيعلى وجه الدّقّةموجّهات المقالة من خلفيّة الصّوفيّ الفكريّة وأحواله في علاقته بمحيطه.