تفصيل

  • الصفحات : 85 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-580-5.

تجتمع كلمة المؤرخين وأرباب السير على رفعة مقام علم التراجم وتميّزه في التأريخ لحياة الشعوب والأمّم، وإن كان هذا الفن في حقيقته يُعد جزءا لا يتجزأ من علم التاريخ، وخليق بنا في هذا الصدد أن نلفت الانتباه إلى أمر يغفل عنه الكثير، وهو أنّ الترجمة لعَلم من الأعلام -عالمٍ أو فقيه أو مفكر-، لا تعني التعريف بتلك الشخصية ونفض الغبار عنها بقدر ما هي تـأريخ للمرحلة التي عاشت فيها تلك الشخصية، لا سيما منهم الفقهاء والقضاة الشرعيين، فإنّ حياتهم وما ألّفوه وما أفتوا به؛ هو قبل كل شيء انعكاس لتاريخ مجتمعهم وللنوازل التي وقعت في عصرهم.

ولذلك فإنّ كلّ ترجمة لشخصية علميّة، تعتبر مادّة أوليّة لكلّ باحث في علم الأنثروبولوجيا وعلم الإثنلوجيا بل وعلم  السوسيولوجيا أيضا، فلا يمكن فك شفرات الحاضر دون العودة إلى الماضي، ولا سبيل نهتدي به إلى الماضي ونتعرّف على أحداثه دون العودة إلى أعلامه وما أنتجوه في جوانب العلم والفقه والفكر.

وتظهر قيمة الترجمة ظهورا جليّا عندما نجد الشخصية العلميّة غُفلا من التعريف وذكر السيرة، فهذا باب عظيم حرّي بالباحثين طرقه وملازمة عتبته، ولهذا الإغفال أسباب منها: اعتماد المجتمع الذي انبثقت عنه الشخصية على التاريخ الشفهي؛ بحيث لا تزال الذاكرة الشفهيّة وحدها هي التي تصون إرث المجتمع وإنتاجه.

وهنا يقع على عاتق الباحث جهد مضاعف يستدعي جلدا وبصيرة ودهاء، لكون المادّة التاريخيّة في هذه الحال قابلة للتزييف والتبديل والتحوير بسبب آفة النسيان، والأمر كذلك فيما تعلق بعمليّة إعادة الإنتاج، وتوظيف ما تمّ إعادة إنتاجه لأغراض غير بريئة.

ولذلك وجب على  الباحثين والمختصين في مجال كتابة السير الذاتيّة للأعلام، أن يتصدّوا لعملية حفظ الذاكرة، وصيانتها من النسيان، عن طريق الكتابة العلميّة الرصينة والتأريخ للمرحلة التي عاش فيها العلَم محلّ الدراسة، ونشر أعماله وتحقيقها، ومحاولة التجسير بين الماضي والحاضر، عن طريق تصفيّة كلّ ما علق بذلك الماضي من شوائب.

وإنّ هذا العمل لمهمّة صعبة تحتاج إلى ذوي خبرة وكفاءة وسعة صدر، وقدرة على التمحيص والتدقيق، وبصيرة للممايزة بين الغث والسمين، وموضوعيّة لإخضاع المادّة العلميّة إلى قواعد المنهج التاريخي بكلّ صرامته، وتزداد الصعوبة كل ما كان المحقق وكاتب السيرة منتميا إلى الشخصية العلمية فكرا أو مجتمعا أو محلا، لأنّ الإنصاف عزيز والموضوعية تقتضي منه أن يكون هدفه الحفاظ على فن التأريخ وكتابة السير والتراجم بطرق علميّة، بدل أن يكون همهّ صناعة مجد ما، أو الدفاع عن القبيلة والعشيرة التي تسكننا حدّ الجنون.

وبناء على ذلك فإنّ كتابة سيرة أحد الأجداد تعتبر مجازفة ومغامرة علميّة، لا يخوضها إلا صاحب همّة عالية وفطنة وحكمة، وقدرة على الابتعاد عن الذاتيّة والاختزال والانتصار للنفس، ذلك بأنّ كاتب السيرة هو بمثابة الشاهد على العصر والمصور لأحداثه، فإمّا أن ينير طريقنا ويغرينا بطَرْق مداخل بحثيّة جديدة، وإمّا أن يفسد علينا التاريخ ويهدر علينا الدرس الأنثروبولوجي والسوسيولوجي اللذان يعتبران استنطاقا للتاريخ وقراءة له، فيكون بذلك شاهد الزور المخرب للحقيقة العابث بالتراث.

وبالرغم من كلّ هاته المشاق التي تعتري هذا النوع من الدراسات؛ فإنّ من الباحثين ثلّة قد هانت عليهم المصاعب وصغرت في عيونهم العظائم نظرا لشرف ما يطلبون ورفعة ما يقصدون، فتجلّدوا في هذا المضمار وخاضوا فيه بكلّ عزيمة وإباء، فكانوا لغيرهم الأسوة والقدوة.

ومن هؤلاء: الباحثة الفاضلة والدكتورة النبيهة: شهرزاد بناني، فإنها فيما نعتقد لم تدخر جهدا في التعريف بالقاضي الفقيه امحمد بن عمـر بنـانـي التـّراك -وهو أحد أعلام منطقة الونشريس المعاصرين-، فأبانت سيرته وعرّفت بآثاره وكتاباته، وأعطت القارئ رسمة مشرقة عن الشيخ وإنتاجه، في عرض دقيق وبيان رائق.

ومع كون الشيخ محلّ الترجمة قد عاش في منطقة ريفيّة معزولة؛ أثناء مرحلة استعماريّة تميّزت بالبطش وانتشار الجهل والفقر، لكننا نجده –أي الشيخ الترّاك- قد برع في علوم شتى وأتقن فنونا مختلفة، فنتج عن ذلك تأليفه في علوم القرآن الكريم وفي الفقه المالكي، وتجاوز علوم الشريعة إلى علم الفلك، والطب، والتوثيق، وهذا الإنتاج المهيب يعرب إعرابا صارخا عن علو كعب هذا الشيخ وقوة تكوينه وجودة قريحته.

وحتى لا نُذهب على القارئ شغف الاطلاع على الشخصية وما أودع في هذا الكتاب نتركه مع ما خطّه يراع الباحثة الفذّة، لكونها عاشت مع العلَم وتبصرت به وبتاريخه وأحواله، فهي خير من يتحدث عنه ويجلي سيرته، وقديما قالوا: لا عطر بعد عروس.

وفي ختام هذا التقديم أشيد بما قدمته الأستاذة في هذا الكتاب، كما أحيي فيها شجاعتها وقدرتها على طرق مثل هذه المواضيع؛ التي أصبحنا اليوم أحوج إليها من ذي قبل حتى نعرف تاريخنا، الذي نفهم به حاضرنا، ونستشرف به مستقبلنا.

فنشكر الدكتورة على مثل هذه الدراسات العلميّة الرصينة، التي تشير بوضوح إلى إمكانياتها العلميّة، وتدلّ على شغفها بالبحث الجاد، متمنيين لها مستقبلا زاهرا في مجال البحث الإثنوغرافي والمونوغرافي، اللذان لا غنى عنهما في ميدان العلوم الإنسانيّة والاجتماعية على العموم.

الدكتور: كرايس الجيلالي.

في يوم الأربعاء السابع عشر من شهر شوال 1443 الموافق ل 18 ماي 2022 م.

مدينة خميستي ولاية تيسمسيلت.