تفصيل

  • الصفحات : 330 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-477-8.

إنّ التحولات الكبرى التي طرأت على المجتمع المعاصر بفعل هيّمنة العقلانية الرقمية، وسيطرة النّموذج الاستهلاكي على الحياة الإنسانية، إنّما تؤكد على تحول العالم إلى مجرد مادة سلعية استهلاكية تنتهي صلاحيتها بانتهاء نفعها، وهذا يعني؛ أن “السّيولة” هي العلامة البارزة لهذا العصر؛ الذي يصطلح عليه “زيجمونت باومان” بعصر الحداثة السّائلة؛ الذي لا يكف عن التغيّر الدائم والمستمر الأمر الذي جعل “إنسان السّيولة” يفتقد ثقته بقيم البارحة، ليُصاب بِنوعٍ من الدوران على حد تعبير المفكر الأمريكي المعاصر “ألفين توفلر”، كونه يجد نفسه كل يوم أمام عالم غير الذي نام عنه بالأمس.

وهكذا فإن العالم اليوم يشهد تهاوي لأنظمة الحياة، وتفكك للروابط الإنسانية، وأفول للقيم الأخلاقية، وتشظي  لمراكز الثقل الصلبة، وبالتالي فهو يشهد عنفًا سائلاً؛ لأنّه يقف على أرض مرنة رخوة تعرف حركية متواصلة دون وجود حالة نهائية أو نقطة إرتكازية في الأفق، وهذا ما يفرض في الوقت الراهن الإيمان المتنامي بأن التغيّر هو الثبات الوحيد وأن اللايقين هو اليقين الوحيد على حد تعبير زيجمونت باومان.

ثم إن هذا التغير قد تضاعفت وتيرته وزادت حدته وارتفعت معدلاته أكثر خاصة مع موجة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الهائل، ناهيك عن الامتداد الإلكتروني الذي تسرب إلى مفاصل الحياة الإنسانية، مما غير من التركيبة الثقافية لإنسان اليوم الذي لم يعد يؤمن بقيم الثبات والصلابة التي آمن بها في عهد الحداثة الصلبة أو الحداثة في مراحلها الأولى، لصير بذلك إنسانًا رقراقًا سائلاً مرتخيًا، منزوع السلاح بلغة عالم الاجتماع الفرنسي “جيل ليبوفتسكي” وهذا نتيجة طغيان السُّيولة على حياته، فغيرت من رؤيته للعالم، وذاته ليصبح بذلك إنسانًا مكتفيًا بذاته باحثًا عن مصلحته الشخصية، متخذًا من اللذة ديدنه، ومن السعادة الآنية مقصده، ومن الاستهلاك ملاذه.

ومدار الإشكالية الكبرى التي تنخرط فيها فصول هذا الكتاب، الذي يمثل الجزء الثاني من الكتاب الأساسي -الموسوم ب” من الإنسان الصلب إلى الإنسان السّائل: قراءة في مسار تحولات الإنسان من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السّائلة عند زيجمونت باومان“- تأتي في سياق رصد تمظهرات السُّيولة، وبيان انعكاساتها على الواقع الإنساني الراهن، وما آل إليه إنسان الحداثة السائلة، نتيجة صيرورة النزعة الفردية، وتغول النزعات المادية المفرطة في اللذة، التي تعززت مع ظهور النزعة النيوليبرالية وسيطرة المتلازمة الاستهلاكية، التي أطلقت العنان للحرية الفردية، في سعيها الحثيث للبحث عن المتعة الفردية، وكل ما يصب في الأجندات الشخصية.

وعليه فإن هذا الكتاب، يروم إلى تقديم مساءلة معرفية نقدية لهذا الوضع المعاصر بغية فهم ما نعيشه من مشكلات وما نوجهه من تحدِّيات، وهذا ما يساعدنا بشكل كبير في بناء نقدي لمساراتنا الراهنة وإلاء أهمية لمصيرنا الإنساني المشترك، لأن سؤال المصير كما يرى “أبو القاسم حاج حمد” هو السؤال الذي سيتقدم على بقية الأسئلة في الألفية القادمة، ولهذا فكر “زيجمونت باومان” في مصير الإنسان في ظل الحداثة السائلة، ودعا إلى ضرورة استعادة أمل الإنسانية في مقدرتها على العيش الإنساني، وفق قيم أخلاقية روحية تتجاوز الرؤية المادية الاختزالية المتمركزة على الأنا المنغلق على ذاته، وتتركز في المقابل على الرؤية المركبة للإنسان والمنفتحة على الآخر. ومن هنا تتموضع فصول الكتاب ضمن الصياغة التساؤلية التالية:

كيف كانت قراءة زيجمونت باومان للوضع الراهن؟ ما هي تمظهرات السُّيولة في المجتمع المعاصر؟ وما هي انعكاساتها على الواقع الإنساني؟ ما هي حدود السيولة ومآلاتها؟ وما هي المخارج التي رآها باومان لمراوغة موجة السُّيولة؟

وللإجابة على هذا الإستشكال قسمنا الكتاب إلى فصول تتنوع بتنوع مضامينها، فكان أن ابتدأنا الفصل الأول بالحديث عن تمظهرات الحداثة السّائلة وتمثُلات السُّيولة في الواقع الإنساني مع بروز إشكالية الإنسان الرقراق، وهنا ركزنا الحديث على ثلاثة عناصر أساسية؛ تـناولنا في العنصر الأول الحياة المعاصرة في ظل الرمال المتحركة، أين تفرع عن هذا العنصر ثلاثة نقاط أساسية ركزنا الحديث في أولها على بيان أثر السُّيولة في المجتمع المعاصر، وكيف ساهمت في تفكك البنى الاجتماعية، وتقويض مراكز الثقل فيها مما أدى إلى تشظي المجتمع وأفول قيم الجماعة، وبالتالي ظهور مجتمع الأفراد؛ أين يبحث كل واحد على سعادته الشخصية، وتحقيق اللذة والمتعة المطلوبة.

الأمر الذي دفعهم إلى تبني إستراتيجية الصيد وهي النقطة الثانية التي ركزنا عليها من باب كونها المناسبة لعصر الحداثة السائلة التي تجعل الأفراد في بحث كل يوم على فرائس جديدة. وأهل الصيد هم أهل “اللذة”، “الاستهلاك”، “الجنس”،”الجسد” وهم من يشكلون اليد الخفية للعولمة، وهي النقطة الثالثة موضوع الحديث. فالعولمة في صورتها السلبية؛ هي عولمة مفترسة كونها تُمثل عولمة “العنف”،”الإرهاب”، “الجريمة”، وهي بذلك تشكل مصدر تهديد المجتمع المعاصر، مما تجعله يعيش حالة خوف مزمنة ودائمة.

أما العنصر الثاني فقد ركزنا فيه الحديث على الجوانية المادية في ظل الصلات العابرة؛ وهنا سلطنا الضوء على أثر السيولة في نفسية الفرد المعاصر، وكيف ساهمت في القضاء على جوانيته الروحية. وقد تناولنا في هذا العنصر ثلاث نقاط ركزنا في الأولى على أثر التقنية على سيكولوجية الإنسان المعاصر، وكيف ساهمت في القضاء على الأبعاد الروحية فيه، لنتناول في النقطة الثانية السُّيولة الأخلاقية وكيف تحولت الأخلاق إلى قيم متعية، لنتناول في النقطة الثالثة سيولة العلاقات الإنسانية وتحولها إلى علاقات آلية تعاقدية استهلاكية تنتهي بإشعار آخر.

أمَّا العنصر الثالث فقد تناولنا ثلاثة نقاط تحت عنوان إنسان الحداثة السائلة وما بعد التقنية، فعالجنا في العنصر الأول قيمة الحب وكيف فقد معناه الكلاسيكي الصلب، ودخل مرحلة السُّيولة. أما النقطة الثانية فقد تناولنا فيها المراقبة السائلة أو ما يسميه باومان بعصر ما بعد البنابيتكون والشر الناعم؛ وهنا ركزنا الحديث على كيفية تغلغل السُّيولة في مفاصل الحياة اليومية للإنسان، وذلك بالاستعانة بأدوات التقنية، والتكنولوجيا بحيث يساهم الفرد في تقديم بياناته الشخصية دون تردد عبر أجهزة آلية، وهنا يكمن الشر الناعم والمراقبة السائلة.أما عن النقطة الأخيرة فقد تناولت مسألة الثقافة والإعلام في زمن الاستهلاك؛ وسلطنا الضوء على الدور الذي تلعبه الثقافة اليوم في عصر الاستهلاك وكيف انتقلت من مهمة الإرشاد إلى مهمة الإغواء والإغراء، أين تعززت هذه المهمة أكثر مع دعم وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية التي ساهمت في تدجين الفرد وصناعة ثقافته.

وعُقِدَ الفصل الثاني تحت عنوان حدود السيولة ومآلاتها، أين ركزنا فيه الحديث على ثلاثة عناصر كبرى؛ فتناولنا في العصر الأول تُخوم السُّيولة وحدودها في الفكر العربي المعاصر وخُصِصت الحديث عن أثر زيجمونت باومان على أفكار المفكر المصري “عبد الوهاب المسيري” وتناولنا فيه ثلاثة نقاط أساسية؛ تحدثت في النقطة الأولى عن كيفية تشكل الحداثة الصلبة أو ما يسميه المسيري بالعلمانية الجزئية أو مرحلة العقلانية الصلبة،لأتناول بعدها في النقطة الثانية الحداثة السائلة أو ما يسميه بالعلمانية الشاملة أو اللاعقلانية السائلة، لنصل في النقطة الثالثة للحديث عن ما بعد الإنسان ومركزية السلعة وكيف قامت السلعة بإزاحة الإنسان عن مركزه، وجعله مجرد عابد يتعبد في معابدها الاستهلاكية.

أما العنصر الثاني فقد خُصص للحديث عن الحداثة الفائقة، وبروز الإنسان المرتخي عند عالم الاجتماع الفرنسي “جيل ليبوفتسكي” وهو عينه الإنسان الرقراق عن “زيجمونت باومان”، وقد تناولنا فيه ثلاثة نقاط أساسية؛ تحدثنا في النقطة الأولى عن الأنا المنغلق على ذاته والمتحرر من كل الواجبات والقيم المثالية، الأمر الذي أدى إلى ظهور إنسان ما بعد الواجب.أما النقطة الثانية فقد خُصصت للحديث عن التحرر الجنسي ودمقرطة الجنس، وهي العبادة الرائجة في عصر الحداثة السائلة أو الحداثة الفائقة بلغة جيل ليبوفتسكي، فهذا التحرر من القواعد والمعايير أدى إلى ظهور أخلاق ما بعد الواجب وهي النقطة الثالثة التي ركزنا عليها.

أما العنصر الثالث والأخير فقد خُصِصَ للحديث عن أمل الإنسانية في إمكانية خلق عالم إنساني، لذلك كان هذا العنصر موسوم ب:ما بعد السيولة وممكنات التلاقي الإنسان وقد عالجنا فيه ثلاثة نقاط أساسية؛ تناولنا في النقطة الأولى مشروع الإنسان الجديد وهو مشروع الإنسانية المشترك، الذي راود “زيجمونت باومان” منذ أن كان في بلده بولندا ليتطور فيما بعد ليشمل الإنسانية جمعاء، وبالتالي فهو يدعو إلى مجتمع الكرامة الإنسانية واللإنوجاد معًا وهي النقطة الثانية التي ركزنا الحديث عليها. لنتناول في النقطة الثالثة والأخيرة آليات العيش الإنساني، أين ركزت فيها على ثلاثة عناصر أساسية مُساعدة في خلق عالم إنساني ألا وهي الأخلاق–الدين-الفن، وكلها تستشرف مستقبل أفضل للإنسانية

آثرنا أن نخصص الخاتمة للحديث عن حوصلة عامة للنتائج التي توصلنا إليها من خلال البحث، مؤشرين إلى الآفاق التي يقترحها هذا البحث، وما يحمله من إشكاليات طرحنا من أجل تجاوز الرؤية التي طرحها زيجمونت باومان.

أخيرا؛ لا يسعنا إلا أن نشكر المولى تعالي على منِّه وتوفيقه وإعانته لنا على إتمام هذا الجهد المعرفي الذي سيكون للباحثين مقام السلطة للحكم عليه، ونقده نقدا ابستومولوجيا، كما لا يفتني فرصة الشكر لكل من كان عونًا لنا من أساتذة، وأخص منهم بالذّكر: “الأستاذ قوتال زهير” الذي لم يبخل علينا بتوجهاته القيمة، الأستاذ الدكتور “الحاج دواق” الذي يعود له الفضل في لفت انتباهنا للاشتغال على أفكار عالم الاجتماع “زيجمونت باومان”، والأستاذ الدكتور “عبد الغاني بوالسكك” الذي تكرم علينا بكتابة تقديم مناسب لهذا الكتاب، كما لا يفوتني أن أذكر أستاذنا الدكتور حجاج أبو جبر من دولة مصر الشقيقة الذي لم يبخل علينا بتوجيهاته ونصائحه الكثيرة، وجميع الأصدقاء والزملاء فلهم مني جميعًا جزيل الشكر وخالص مشاعر المحبة والأخوة. وأسال الله عزَّ وجلَّ أن يبارك لنا في هذا العمل وينتفع به القارئ.                          

عفاف جدراوي

باتنة- الجزائر-

الخميس 18 نوفمبر /تشرين الثاني2021 م

الموافق: 13 ربيع الثاني 1443هجري