تفصيل

  • الصفحات : 178 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2023،
  • الغلاف : غلاف مقوى ،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-565-2.

مِنْ نافلة القوْل –بَدْأةً- إنّ اللسانيّات التّطبيقيّة أقلّ حداثة من اللسانيّات؛ غير أنّ مدَدَها إلى السّبق الفكريّ الألمانيّ فيما تعلّق بالمصطلح -وضعا وتوظيفا- للمرّة الأولى في نهاية القرن التّاسع عشر؛  آنَ عُرفت في الفضاء الجرمانيّ بطابعها المعياريّ، قبل أن تنفتح على المساعدة في تيسير التّواصل في البيئة الأنجلوسكسونيّة، ثمّ تَسْنُو –بعد ذلك- في فضاءات تاريخيّة إبستيميّة وجغرافيّة،كثيرة ومتباينة، وتتوسّع نحو مناطق إجرائيّة لا محدودة، إلى أن تنْتدب مكانا مرموقا وسط الحقول المعرفيّة المتاخمة لها؛ بل والمنافسة كذلك، بوصف اللسانيّات التّطبيقيّة تخصّصا واصفا، وعلما وسيطا  انخرط في اهتمامات كثيرة همَّنا منها نظريّاتِ التعلّم، ومناهج تعليم اللغات، باعتبارهما الرقعة الأكثر اشتعالا في أدبيّاتنا التّربويّة من ناحية، وكونهما ملغزيْن ومرشّحيْن لانزلاقات وسوءِ فَهْمٍ من ناحية أخرى.

فنظريّات التّعلّم محاولات لتفسير السّلوك الإنسانيّ، تتباين موضوعاته وتتعدّد بسبب أنّ الإنسان كائن مميّز وفريد، يمتاز باتّساع دائرة أنشطته، وكثرة سلوكاته وتنوّعها، وكذا العوامل والمتغيّرات المرتبطة بها، الأمر الذي أدّى إلى تعدّد النظريّات التي اهتمّتْ بدراسة عمليّة التّعلم، ذلك أنّ معظم السّلوك الإنسانيّ ناتج عن هذه العمليّة. فهناك ما يربو عن أربعين منحى لدراسة اكتساب اللغة وتعليمها، تتراوح بين النّظريّة والنّموذج والمنظور والفرضيّة، أو بتحديد أدقّ ليست جميعها نظريّات يمكن الاعتماد عليها، لتفسير ظاهرة الاكتساب والتّعلّم تفسيرا شموليّاً كافيّاً، ممّا يُبيّن أنّ ميدان اكتساب اللغة وتعلّمها -سواء كانت اللغة الأولى أو الثّانية- غنيّ بالنّظريّات التي تحاول الكشف عن العمليّات والاستراتيجيّات التي يستعملها متعلّمو اللغة، إذ لا مندوحة من الاعتراف بعدم وجود نظريّة واحدة –بعينها- تفسّر ظاهرة اكتساب اللغة وتعلّمها بشكل كامل، لأنّ نظريّة ما قد تفسّر بعض جوانب هذه اللغة وتُغفِل الجوانب الأخرى، وعليه؛ كان لزاما استعراض أهمّ النّظريّات السّائدة في هذا المجال دون تقييمها، لأنّ الهدف الجوهريّ هو استخلاص تضمينات وتطبيقات يُستفاد منها في ميدان تعلّم اللغة وتعلّمها.

على الذي أنَفَ؛ انطلق هذا المؤلَّف من إدراك الوعي المتزايد –اليوم- لسِعَة منافحة قضايا الاكتساب اللغوي ونظرياته، وبَسْطِ مناهج تعليم اللغات بَراديغْماتيًّا بين ما انطبقتْ عليه أعمال المنظرين، وبين ما هو مُمارس في الغرف الصّفيّة، على أنْ يتوَسَّلَ البَسْطُ الجُرعةَ اللاّزمة من المساءلة والتّشكيك، مع الحفاظ على مسافة نقديّة تأصيليّة فرشتْ لردود منطقيّة عن طروح كثيرة أهمها: ما النّظريّات التي حاولت تفسير السّلوك الإنسانيّ، بهدف تنظيم المعرفة والحقائق والمبادئ حول التّعلم؟

ولما أصبحت المناهج التّعليمية التي نشهدها اليوم مناهج منفتحة ليس برغبة منها؛ بل لأنّ قدرتها على الانكفاء شلّتها تراكميّة المعرفة، وتطوّرها السّريع على محور الزّمن، وديناميّة المعلومة الدّاخلة في تكوين هذه المعرفة، وتفجّرها، وفوْقُها الإدراكَ، إذ لا يتسنى الحكم في أيّ نقطة آنية بحدودها وسعتها وحجمها، فإن سآلة مناهج التعليم بعامة، وتعليم اللغات بخاصّة تنْطرحُ كالآتي: ما المنهاج الذي يمكن أن يحتوي هذه التّحوّلات؟ وما طبيعة الخبرات التي يتضمّنها؟ ثمّ هل سيُرجي عند المتعلّم عقلا متسائلا، جسورا، وصادقا في فهم الأشياء؟ أم سيفرض عليه عقلا متلقيّا عاجزا، أو منافقا؟ من هذه الطُّروح، تولّدت فكرةُ الكتاب، وعليها مدارُه. وقد أردتُه ارتحالا في نظريات التعلّم ومناهج تعليم اللغات زاد المرْتحِلِ فيه العدولُ عن جاهز الأحكام، ووجهتُه استكشاف ما فيها من دوغمائيّة.

كما انطلق هذا الكتاب في الآن عيْنه من إدراك أنّ نصيبنا من الأنفاس الكتابية ببلادنا في نظريات التعلّم ومناهج تعليم اللغات من مشاعب منهجية وديداكتيكية ولسانية ضَحْلٌ تكاد لا ترْمُقه اللواحظ، وأنّ شعورنا بحاجة القارئ الملحاحة إلى كتاب جديد ينطبق على هذه القضايا هو شعور عالٍ.

وابتغاء أن يستنير الكتابُ في ثَوْب قَشِيبٍ؛ ثَوَى فصليْن. حمل الأوّل عنوان: “نظريّات التعلّم: الملمح التّاريخي الإبستيمي، والأفهومات المساوقة”. تحرّكت فيه ثلاث فئات من نظريّات التّعلم صُنّفتْ -اعتمادا على الطّريقة التي نظرت فيها إلى عمليّة التّعلم، والتّغيّر في السّلوك- إلى النّظريّات الارتباطيّة التي  تؤكّد على أنّ التّعلّم هو بمثابة تشكيل ارتباطات بين مثيرات بيئيّة، واستجابات معيّنه. وتختلف فيما بينها في تفسير كيفيّة تشكّل مثل هذه الارتباطات، والنّظريّات الوظيفيّة التي تؤكّد على الوظائف التي يؤدّيها السّلوك، مع الاهتمام بعمليّات الارتباط التي تتشكّل بين المثيرات والسّلوك، ثمّ النّظريّات المعرفيّة، وتضمّ النّظريّة الجشطلتيّة، ونظريّة النّموّ المعرفيّ لـ”بياجيه”، ونموذج معالجة المعلومات… حيث تهتمّ هذه النّظريّة بالعمليّات التي تحدث داخل الفرد، مثل التّفكير والتّخطيط، واتّخاذ القرارات والتّوقّعات، أكثر من الاهتمام بالمظاهر الخارجيّة للسّلوك، لينغلق الفصل بالحديث عن النظرية الفطرية، في ضوء وجهات نظر كل من “تشومسكي”، و”كراشن”.

أمّا الفصل الثّانيّ الذي تنَوَّرَ به هذا الكتاب، فقارَبَ مناهج تعليم اللغات كالمنهج التقليدي والبنيوي والتواصلي… بوصفها مسألة ملحاحة –اليوم- في ضوء ما أفرزته العولمة، ومفهوم القرية الكونيّة، وما انجرّ عنهما من انهيار الجدران الثّقافية، واجتياح الحداثة لكلّ قلاع الخصوصيّة.

خليقٌ بنا أن نوجّه اللواحظ إلى أنّنا حرصنا على توفير نصيب من المنهجيّة والبيداغوجيّة في المتون المطروحة، محاولين إقامتها على مواصفات أهمّها:

-يُستهلُ كلّ مبحث من مباحث الفصل بواجهة تحمل عنوانه، وينْغلقُ بثبْتِ مصادره ومراجعه العربيّة والمعرّبة والأجنبيّة، رَوْمًا في بَسْطِ هذه المباحث في صورة ملفات، وإعلام القارئ بمشمولاتها مسبقا، وتيسير الرّجوع إلى مكتباتها؛ إنْ تغيّا التّوسّع والاطّلاع.

-أوليْنا اهتماما خاصّا بالتّوثيق والتّعليق، حيث لا تكاد تخلو صفحة من إحالات وهوامش، سعيا إلى إفادة القارئ، وتسهيلا عليه لأمر البحث.

-عرّجنا –قدر ما أمكننا- إلى سبق العرب في قضايا كثيرة، بإيراد أقوالهم فيها بهوامش هذا الكتاب، ابتغاء تنبيه القارئ إلى أنّ أسلافنا كانوا لسانيّين قبل ظهور اللسانيّات.

-توخّيْنا التّصميم وما جادت به مطالعتنا، حيث يَعِنُّ للقارئ الحضور المكثّف للرّسوم التّوضحيّة، والخطاطات، والجداول، والصّور… وهذا الذي حسبناه قد استجابت له بعض مباحث هذا المؤَلَّف.

وقد تغرُّ هذه الدّراسة بعض الباحثين والكتّاب والطُلَّبِ في الجامعات، وتثير اهتمامهم، للقيام بدراسات مماثلة، أو ذات علاقة وثيقة، على النّحو الذي غرّنا بالخوْض فيما خاض فيه سابقونا من الباحثين والمختّصين.

ومع ذلك؛ يمكن اعتبار هذه الدّراسة، إضافة جادّة في مظهرها ومسعاها، وجمعها إلى أعمال هؤلاء؛ بل حلقة سعيْنا أيضا إلى ربطها بسلسلة البحوث العلميّة، ابتغاء أن يصل بها غيرُنا حلقةً جديدة، بعد أن يزيدها قوّة وتماسكا.