تفصيل

  • الصفحات : 240 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،

إن التفاضل الفني البلاغي والأسلوبي بين الإبداعات الأدبيّة، والتمايز في النسج بين المواهب المصقولة والصّنعة والتكلّف، أسس قام عليها النقد العربي، وشكّلت أسباب التّنافس الفني والتعبيري وأضحى يقاس كل أسلوب متميِّزٍ بكفاءة صاحبه الإبداعية على اختراق النسق المعتاد للّغة، والانتحاء بها من المستوى العادي إلى المستوى الإبداعي، وتجاوز السنن المألوفة في التعبير والأسلوب، بما يتيح للمبدع تقديم نتاجات كلامية جديدة، تنـزاح عن معياريّة اللغة، من خلال تمثّلها في النصوص الأدبية، وبخاصة النص الشعري، الذي ينزع إلى تحقيق هويته وجماليته المستقطبة، من خلال الاختلاف عن الخطاب الشائع؛ وإبراز تجربة الشاعر التي تتوقف على خصوصيّة لغته الشّعرية، وتباينها عن التجارب الأخرى، بما يجعلها بصمةً فردية، وملمحًا خاصا، وذلك جوهر المقاربة الأسلوبيّة.

 وعلى ذلك جاءت المؤلف موسومًا بـ: الانزياح الأسلوبي في شعر تميم البرغوثي – مقاربة أسلوبية في الأثر الجمالي- بحثا في ما يُفْرِدُ هذه التجربة الشعريّة عن غيرها، من خلال أسلبة التعابير المنزاحة إيقاعًا وتركيبًا ودلالةً، فالانزياحُ كما هو معروفٌ ظاهرة لغويّة مهمّة وبخاصة في الدراسات الأسلوبيّة التي تعتبرهُ لغة مخالفة للمألوف في الخطاب الأدبي،إذ يتّفق علماء الأسلوب في كون الانزياح انتقالاً للّغة من نظامها المعياري إلى الطاقة الخلاّقة،بما هو تميّز لها وما تملكهُ من كفاياتٍ؛ تتمثّل في التراكيب والألفاظ والصّيغ التي يدخلها المبدع في حلقة كلامية تبتعدُ من المعتاد والمألوف، لتتشكّل في هيئة جديدة تولّد لدى المتلقي صدمةً جماليّة تلامس فكرهُ وخيالهُ وتحقّق له متعة.

ومن هذا المنطلق كان مدار هذه الدراسة هو إجراء مقاربة أسلوبيّة لديوان “في القدس” لتميم البرغوثي؛ تنهض على قراءة بنيويّةٍ، من خلال تتبّع الانزياح الذي كان له تمثّلٌ واضحٌ في شعره، عانق إيقاعه الصّوتي، وبنائه التركيبي، وجوهره الدلالي، من خلال كسر المتواليات التعبيرية؛ فاتّخذه الشاعر معيارًا لتميّز تجربته الشعريّة، وتفرّدها الجمالي الذي من شأنه التأثير في المتلقي المتذوّق، ودفعه للتفاعل معها، ومع السياقات الأسلوبيّة التي هي من صميم الانزياح.

 

ولعلّ ما كان مدعاةً لنا أن نقف على حدود هذه التجربة الشّعرية دراسة وتحليلا؛ هو اطّلاعنا السابق على شعر تميم البرغوثي، مما مكننا من الإحاطة ببعض جوانب تجربته الشعرية، خاصة وأن هذه الإحاطة بشخصية الشاعر تفيد كثيرا في تحليل شعره، وتأويل ما يجب تأويله، بالإضافة إلى ميل ذائقتنا الأدبيّة إلى فرادة شعره، وكذا زخامة تجربته الشعرية.

وفي ظل ارتباط ديوان “في القدس” بالقضية الفلسطينيّة، واعتبار تميم البرغوثي واحدا من الشعراء الذين ساهموا في إسماع صوتها، فنجم عن ذلك نتاج شعريٌ ارتقى به ليكون من بين أهم التجارب الشعرية المعاصرة، لتضمّنه عديد الظواهر الانزياحية، التي يمكن الوقوف عليها من خلال الديوان المقدم لهذا البحث.

                وفي سبيل تقديم دراسة أسلوبيّة جادة لشعر تميم البرغوثي، تستعين بما جدّ في حقل الدراسات اللسانيّة والأسلوبيّة، وإبراز فاعليّة هذا المنهج في الدراسة والتحليل، وانطلاقا من هذه المسوّغات وغيرها؛ تولّدت رغبتنا في إصدار هذا الكتاب، الذي يسعى إلى استكناه تجلّيات الانزياحات الأسلوبيّة، واستنطاق الدلالات التي يتغيّاها الشعر الفلسطيني المتمثل في ديوان “في القدس” لتميم البرغوثي.

                وقد أخذت هذه الدراسة بعين الاعتبار ما سبق دراسته في مجال البحث الأسلوبي تنظيرًا وتطبيقًا، ومن ذلك نذكر جملة من الكتب: الأسلوبية والأسلوب لعبد السلام المسدي، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته لصلاح فضل، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية لسعد مصلوح، الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية لأحمد الشايب، العدول أسلوب تراثي في نقد الشعر لمصطفى السعدني، أسلوبيّة الانزياح في شعر المعلقات لعبد الله خضر حمد، الانزياح من منظور الدراسات البلاغية والأسلوبيّة لأحمد محمد ويس، الأسلوبية لجورج مولينيه، بنية اللغة الشعرية لجون كوهين، نحو نظرية أسلوبيّة لسانيّة لفيلي ساندريس، معايير تحليل الأسلوب لميكائيل ريفاتير. وكلها مؤلفات نقديّة كان لها الإسهام الكبير في إثراء فصول كتابنا هذا.

 

                أمّا ما اختصّ به مؤلفنا، هو تركيزه على دراسة الانزياحات الأسلوبيّة في المستويات اللّغوية والبحث في انزياحيّة الانزياح، فعندما نعتبر التكرار مثلا؛ ظاهرة منزاحة عن مألوف العادة في التعبير والاستعمال، حاولنا إبراز الصورة المنزاحة التي جاء عليها، معتمدين في ذلك على مبادئ التحليل الأسلوبي، من خلال أدواته التي سنّها ميكائيل ريفاتير في كتابه “معايير تحليل الأسلوب”.

                وقد جاءت هذه الدراسة لتحاول تشخيص بعض الإشكالات الملقاة على عتباتها، التي تبحث في ماهية الانزياح، وإلى أيّ مدى تحقّقت الانزياحات الأسلوبيّة في شعر تميم البرغوثي؟ وما هي أهم الظواهر الانزياحيّة التي تتوظّف كأوراقٍ جماليّةٍ في شعر تميم البرغوثي ؟ وما هي أبعاد الانزياحات الأسلوبيّة في شعره؟ وكيف انعكست تلك الظواهر الأسلوبيّة على شعره من الناحية الجماليّة والتأثيريّة؟

                ومن أجل الإجابة عمّا وضعناه من إشكالات، وطرحناه من أسئلة، ارتأينا تقسيم كتابنا ضمن خطة ممنهجة إلى أربعة فصول، وسمنا فصله الأول: “الأسلوب والانزياح؛ المفهوم والاتجاهات” تناولنا فيه دراسة نظرية لمفهوم الأسلوب لدى البلاغيين العرب القدامى،من أمثال: ابن طباطبا، عبد القاهر الجرجاني، حازم القرطاجني و ابن خلدون، ولم يخرج فهم الأسلوب عندهم عن كونه الموافقة بين أجزاء الكلام في إطار منتظم تعلّق بتلاؤم التراكيب والمعاني وفق ما تقتضيه التجربة أو السلامة النحوية    من بعد ذلك عرجنا إلى مفهومه عند الدارسين العرب المحدثين، من مثل: عبد السلام المسدي، أحمد الشايب، منذر عياشي، ومحمد عبد المطلب. ورغم تجاذبات كل ناقد منهم إلا أن مفهوم الأسلوب عندهم لم يبتعد عن جوهره؛ على اعتباره الطريقة المميزة التي يسلكها الكاتب أو المبدع في صياغة ألفاظه لبلوغ المعاني. ومن بعد ذلك ولجنا إلى الدرس الأسلوبي الغربي، فتطرقنا إلى تبيان مفهوم الأسلوب والأسلوبيّة في الدراسات الغربيّة، وأهم اتجاهاتها، وخلص هذا الفصل إلى تبيّن مفهوم الانزياح في اللّغة والاصطلاح، وفي التراث البلاغي العربي، في ما وقف عليه البلاغيون العرب في مؤلفاتهم، وما أوردوه فيها من مصطلحات ومفاهيم دلّت عليه، باعتبار أنّهم أدركوا بذوقهم الفطري أن للشعر لغة خاصة تختلف عن اللّغة العادية.وخلصنا في آخر الفصل إلى مفهوم الانزياح عند أهم النقاد العرب المحدثين وفي الدراسات الغربيّة الحديثة.

                أما الفصل الثاني المعنون بـ “الانزياح الإيقاعي وفواعله الجمالية في شعر تميم البرغوثي”، فتناولنا فيه -بمقاربة تحليليّة إحصائيةٍ- الظواهر الصوتيّة التي شكّلت انزياحيّة الإيقاع، وذلك من خلال مستوييه الداخلي والخارجي. فأما الانزياح في مستوى الإيقاع الداخلي فتطرقنا فيه إلى ظاهرة التكرار ووقعها الأسلوبيّ، وتمثّلها كملمحٍ منزاحٍ من خلال أنواع التكرار: تكرار اللازمة، تكرار البداية تكرار المجاورة والتكرار الاشتقاقي، كما قادنا الحديث عن الأصوات وصفاتها، فقمنا بإحصاء تكرّرها في قصائد الديوان ودلالة ذلك، والتفاعل الصوتي الدلالي عبر الجناس والتّضاد. أما الانزياح في مستوى الإيقاع الخارجي؛ فتناولنا مظاهر الانزياح في الوزن وكذا في القافية التي تنوّعت بين: القافية الموحّدة، القافيّة المقطعيّة، القافية المتناوبة والقافيّة المتغيّرة.

                وأما الفصل الثالث فكان عنوانه”أثر الانزياحات التركيبيّة في تشكيل جماليّة شعر تميم البرغوثي”، إذ تطرقنا فيه إلى مظاهر الانزياح في تركيب الجملة، والمتمثل في ظاهرتي التقديم والتأخير والجمل الاسمية والفعليّة، وكيف مثلتا ملمحًا منزاحًا اعتمده تميم البرغوثي للتعبير عن خوالجه، وكذا الانزياحات التي طرأت على الأساليب الإنشائية كالاستفهام، النداء، النهي والأمر.

                أما الفصل الرابع من البحث الموسوم بـ “الأبعاد الجمالية للانزياحات الدلالية في شعر تميم البرغوثي”، فقد كان لدراسة الانزياح الدلالي، وتمظهراته في كل من: الاستعارة، التشبيه، الكناية والتّناص.

                وقد اعتمدنا منهجًا وصفيًا تحليليًا، لأنه يسهم في تحليل الظواهر الأسلوبيّة المنزاحة في شعر تميم البرغوثي، واستكناه تجربته الشّعريّة، بالإضافة إلى المنهج الأسلوبي البنيوي من خلال تحليل النماذج الشّعرية وفق معايير تحليل الأسلوب المستنبطة من كتب الأسلوبيّة، وكذلك اعتمدت هذه الدراسة على منهجٍ إحصائيٍ؛ بغية رصد الانزياحات الأسلوبيّة وتدعيم نتائج البحث، والوقوف على الخصائص المميّزة لشعر تميم البرغوثي.

               

 

                والفضل والمنّة لله، إذ نفيض في عرض دراستنا هذه، وسرد مضامينها، راجين من المولى العزيز القدير أجر هذا العمل، وحسن الإصابة، وخير العلم، فإن وفقنا فبعون الله جلّ وعلا، وإن أخطأنا فمن أنفسنا، والله ولي التوفيق.