تفصيل

  • الصفحات : 380 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2022،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،

لا شك في أنّ خوض غمار البحث في حقل العلوم الإنسانية، درب ذو مسالك وعرة ومحفوفة بالمخاطر، غير مأمونة العواقب. غير أنّ الأدب أشد العلوم الإنسانية تعنتا وتملّصا من القيود التي حاولت الحـد من طلاقته، فجعلته يئن تحت تأثير المنهج النقدي وأغلاله الثقيلة.

و لقد اختبر نقدنا العربي اتجاهاتٍ ومذاهبَ كثيرة ومناهج متعددة غفيرة، أغلبها مستقى  من مصادر وأصول  غربية من ديكارت Descarte،إيميل دوركايم E.Durkeim وفرويد S.Freud ويونغ Young  وسوسير F.De saussure.

إلاّ أنّ إعطاء المنهج أولوية على استقراء  المادة المدروسة، قد يخرج تلك المادّة عن سياقها الإنساني والتاريخي، ويمارس عليها القمع المنهجي الذي شوهدت آثاره مثلا عند (طه حسين).

فلما قام (طه حسين) بدراسة الشعر الجاهلي، كان المنهج المطبق سليما، ولكن النتائج كان فيها شيء من المبالغة، بمعنى إنّها لا تتفق مع الحقائق التاريخية الموثقة، لأنّ النصوص في جوهرها أخضعت للشك والحدس في دوائر فكرية صارمة، بصرف النظر عن حركة تحقيق الغوص والتقصّي تاريخيا، وقد أسدت الشيء الكثير في صالح تاريخية الشعر الجاهلي وحقيقة ثبوته .

وكذلك فإنّ الدراسات السوسيولوجية أبت إلاّ أن تفرض منهجها على الفعاليات الأدبية، لكنها  عادت فأقصت المادة المدروسة لصالح المناهج الاجتماعية التي تتبنّاها، كما أنّ الدراسات النفسية ارتكبت  الخطأ نفسه دون أن تكترث بالسياقات التي تتحرك فيها هذه النفس الإنسانية المنتجة للنص الأدبي المقصود بالمدارسة، وراحت تقدم المقولات النفسية على كل شيء، حتى ولو كان ذلك لا يمت بصلة إلى النص الأدبي في كثير من الأحيان، ثم وصولا عند التعاملات البِنَوية باتجاهاتها وإجراءاتها المختلفة التي تلحّ على جمالية النص.

و ما النص  إن لم  تكن فيه عناصر ذاتية داخلية، تستمد مرجعياتها من الأديب وتجاربه الخاصّة جدّا، ممّا يكسب خصوصية النص ويجعله ذا أدبية عالية وشعرية رائعة، فهو ـ أي النص ـ لا يحيل إلى ما هو خارج عنه فقط، بل يجمع ما بين الخارج ـ المرجعية ـ وما بين الداخل ـ الذاتية.

ولهذا فالشأن مختلف تماما  بين اللّغة العادية ولغة  النص الأدبي، فإذا كانت اللغة العادية استهلاكية هدفها تبليغ رسالة أو مضمون تنقضي زمنيته بمجرد الإبلاغ، فإنّ الأمر يختلف في النص الأدبي، فهو زمنية ممتدة وله ـ بشرط قيّمه الجمالية ـ ما يتيح له الاستمرارية والديمومة، كما أنه كيان ذاتي منفصل كلية عن ناصّه، وما يتصل بصاحبه أيضا من جوانب نفسية أو اجتماعية، ولهذا لا يحق  لتاريخ الأدب ولا لمؤرخه أن يتدخّلا في أدبية النص .

ولقد اخترق إلى عالم النقد الأدبي المعاصر مصطلح جديد، حيث أربك المقاربات النصية التي أثقلت النص الأدبي وأرهقته بأحادية المفهوم وسلطوية المدلول،  وهو ما أطلق عليه اسم التناص  وجاء في زمانه لينقذ النص من التسلط والتعسف فكان مقاربة احتوت المقاربات السابقة عليه.

جاء (التناص) ليردّ على مقولة البنوية :” مقولة النص المغلق “، ليقول :  إنّ النص عالم مفتوح دائما على نصوص أخرى سابقة عليه أو معاصرة له، ويرى النص الأدبي في بنيته وتشكّله لوحا من زجاج يلوح من خلفه نص آخر.

جاء هذا المصطلح ليعير اهتماما للقارئ الذي يرى في كل نص فني مستويين اثنين : مستوى إخباري مباشر، ومستوى إشاري غير مباشر الذي تزخر به اللّغة في كل نص،اللغة التي تبني نظام العلاقات الدلالية والإيقاعية في النص.

ومن العوامل التي دفعتني إلى اختيار  موضوع ” التناص في شعر مفدي زكريا” أنّ المصطلح جديد وحديث، لا يزال يكتنفه نوع من الغموض، على الرّغم من الجهود المتوالية من قبل المنظّرين الغربيين والعرب على حد سواء، حيـث لم يستقر بعد كمصطلح نقدي ذي استقلالية تامّة، يمتلك حدوده وأبعاده، مما أدّى إلى مزيد من الإرباك في كل أنواع الخطّاطات الإبستمية الذاهبة من المؤلّف إلى العمل، ومن المرجع الاختياري إلى التعبير الكلامي ومن المصدر إلى التأثير المتحقق، ومن الدليل إلى الإنجاز، فالتناص يواجه إشكالية التعددية وعدم التجانس حتى في التعريفات المتعدّدة لتحديد ماهيته .

ومن الدوافع التي جعلتني اختار الشاعر ( مفدي زكريا) هي :

أولا :حاجة المكتبة الجزائرية إلى دراسات نقدية تتناول شعر الشاعر، على  الرغم  من الدراسات المتعددة والبحوث التي أنجزت حوله .

ثانيا: إثبات أنّ الشعر الجزائري بعامّة، لا يقل أهمية عن الشعر العربي في المشرق وبخاصة ( مفـدي زكريـا )الشاعر الفطحل، الذي يوظف رموزا كثيرة بطريقة تختلف عن طريقة الشعراء الرواد كالسياب وعبد الصبور وأدونيس وغيرهم …

ثالثا: كانت ثورة الفاتح من شهر نوفمبر (1954م) ثورة مباركة خالدة، وفاصلا تاريخيا هامّا في حياة الجزائر، حيث قال الشعب كلمته فرفض الظلم والحَيفَ، والجور والعبودية، ولقد كانت هذه الثورة مصدر إلهام  لكثير من  الشعراء، فجّرت  طاقاتهم  الكامنة، فراحوا  يعبّرون عن تلك الثورة / الأسطورة، بأشعار هي أشبه ما تكون بالصلوات المرتّلة.

وقد كنت ـ  وأنا  في  مرحلة  التعليم  المتوسط  ـ  قد درست  قصيدة  “الذبيح  الصاعد” ( لمفدي زكريا ) فاستوقفتني حتى حفظتها، رغم أنّي كنت لا أعي معناها في أحايين كثيرة، ممّا جعلني أتعلّق بالشاعر أيمّا تعلق، ورحت أقرأ له بعض المقطوعات من “إلياذته” التي نشرت ساعتئذ، في المجلّد الذي تضمّن أعمال ملتقى الفكر الإسلامي  السادس.

إنّ تعلقي بقصيدة “الذبيح الصاعد” لا يزال حيا لحد الساعة، وهذا ما دفعني إلى قراءة جل ما نظمه ( مفدي زكريا ) خاصّة أشعاره التي تضمّنها ديوانه ” اللّهب المقدّس”.

كما أنّ قصيدة ( الذبيح الصاعد) ـ والتي بلغت ثمانية وستين بيتا ـ  خصبة في ميدان التفاعلات النصية وحوارية النصوص وتعالقها، ممّا جعلها فسيفساء من نصوص أخرى تفاعلت مع النص / المتن الجديد، وأعطت تلك الشعرية والأدبية الممتعة للقارئ / المتلقي.

وقد قسمت البحث إلى : مدخل وأربعة فصول وخاتمة.

وسمتُ المدخل 🙁 الشعر الجزائري الحديث، من الميلاد إلى النضج والتطور)،  فتناولت فيه الظروف التي تشكّل فيها هذا الشعر.  فرصدت أهم الدراسات التي حاولت التأريخ له، كما تتبّعت أهم الدارسات التي تناولت ( مفدي زكريا ).

ـ وكان عنوان الفصل الأول:( مفهوم  التناص  وآليات  التداخل  النصّي  وأشكاله )، حاولت فيه تسليط الضوء على إشكالية مصطلح (التناص)، متتبّعا في ذلك الخلفيات الثقافية التي ولّدته، مع الإشارة إلى مدارس فرنسا وأمريكا، ثم عرّجت على موقف النقّاد العرب من هذه الظاهرة، فبحثت عن جذور هذا المصطلح في تراثنا العربي القديم، فوجدته منضويا تحت مسمّيات متعددة، كالتضمين، والاقتباس،المعارضة، السرقات الأدبية بصفة أعمّ .

ضف إلى ذلك علاقة النّاص/المرسل بالقارئ / المتلقي في نظرية القراءة الحديثة، وعلاقة المتكلّم / المؤلّف بالسّامع في النظريات العربية القديمة.

ـ أما الفصل الثاني، فقد جاء موسوماً:( تجليات التناص ومقاصده في قصيدة  “الذبيح الصاعد” )، شرعت في  استخراج التناصّات الموجودة في القصيدة، هذه الأخيرة التي جمعت مخزونا ثقافيا ودينيا وإنسانيا، ممّا يضفي عليها طابع البقاء والديمومة والاستمرارية أثناء تعامل القارئ معها.  وقد رصدت (التّناص القرآني، التّناص الأدبي، التنا ص التاريخي، التنا ص السياسي)، مبيّنا في ذلك كلّه جماليات التداخل النصّي في المستويين التعبيري والدّلالي / الإشاري في حقول التفاعلات النصية .

ـ أمّا في الفصل الثالث الموسوم 🙁 تجاوز المعقول وحدوث البطولة / المعجزة)، فقد عرجت  فيه على البطل الشهيد / الأسطورة ( أحمد زبانا) الذي شكّل منه مفدي زكريا  بطلا أسطوريا خارقا، يجاوز المعقول حتى حدثت المعجزة، وتسامى عن الحقد والأخذ بالثأر،  فراحت نفسه ترفرف خفيفة شفّافة في عليائها، لم تأبه بالعذاب، وبالتالي اعتلت المنبر، وإن كان هذا المنبر ” المقصلة “، وذلك حين أسبغ عليه أوصافا قد لا  تليق إلاّ بأصحاب المعجزات الخارقة، ومن ثمّ جعله لا يقل نبلا وطهارة عن المسيح وموسى الكليم، وجبريل ومحمد ـ عليهم الصلاة السلام ـ

ـ وفي الفصل الرابع، الذي وضعته تحت عنوان 🙁 توظيف المرجعيات الدينيية، والإنسانية )، تطرقت إلى توظيف الشاعر مرجعيات دينية غير إسلامية، كتقاطعه في متنه الشعري مع بعض نصوص الكتاب المقـــدس ( العهد القديم والعهد الجديد )، وخاصة مسألة صلب السيد المسيح، وفدائه من أجل خلاص الآخرين، حيث يجعل النص “أحمد زبانا” يلتقي مع المسيح في هذه القضية الجوهرية، فكلاهما ذبيح صاعد، وقربان ضحى بنفسه من أجل خلاص الآخرين ! ثم عرجت على توظيف المخزون الديني/ الإنساني للشاعر.

أما خاتمة البحث فقد بلورت فيها بعض القضايا التي خلصت إليها، وقد كان زادي خلال هذه الرحلة الممتعة / المرهقة في آن واحد المنهج التكاملي، مركّزا في كل ذلك على تقنية الوصف والاستقراء والتحليل في استخراج القيم الجمالية والمعرفية التي رافقت قراءتي للنصوص.

وأخيرا أتوجّه بالشكر الجزيل، للأستاذ الدكتور،محمد بشير بويجرة،المدرّس بجامعة وهران،الذي أشرف على هذا العمل و وجّهه منذ أن كان فِكرةً حتى صار عملاً مكتملا.فله منّي أخلص الدعوات بموفور الصحة و سربال العافية.

أ.د.مختار بن قويـدر

جامعة معسـكر – الجزائر