تفصيل

  • الصفحات : 352 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-815-8.

مقدمة:

برزت على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 فواعل مسلحة ذات توجهات وأهداف متنوعة ومتعددة، قادرة على إحداث تغير أو تأثير جوهري في الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي القائم (Status Quo)، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، حيث استخدمت العنف بشكل متزايد من أجل تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية معينة، متحدية بذلك احتكار الدولة المشروع لوسائل القهر.

وبالرغم من تواجد مثل هذه الفواعل منذ مئات السنين، إلا أنها أخذت أبعادا أكثر خطورة في العقود الأخيرة، وذلك في ظل تواجد عوامل ومتغيرات ساعدتها على تطوير قدراتها، وتوسيع نشاطاتها المسلحة، فقد كانت وراء اندلاع العديد من الاضطرابات السياسية والأمنية، والنزاعات المسلحة الداخلية (Intra-state Conflicts) في مختلف مناطق العالم، فلم تسلم أي دولة تقريبا من النشاطات العنيفة لصنف من أصناف هذه الفواعل المسلحة من غير الدول (Non-State Armed Actors)، بل وطورت قدرات عسكرية مكنتها من شن هجمات نوعية ذات تأثير استراتيجي حتى على أقوى الدول في العالم، وهجمات 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية لخير مثال على ذلك، وهذا ما يجعلها ترقى إلى أن تكون أحد أخطر التحديات المباشرة للأمن الوطني والدولي على حد سواء.

ولكن في مقابل ذلك، استندت العديد من الدول على أصناف معينة من الجماعات المسلحة من أجل تعزيز قدراتها الدفاعية والأمنية بغرض مكافحة الإرهاب، أو مواجهة حملات التمرد المسلح، أو حماية بعض المجتمعات المحلية، كاعتماد الحكومة العراقية على ميليشيات الحشد الشعبي من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في ظل ضعف وقلة فعالية القوات الأمنية النظامية، أو استناد أوكرانيا منذ سنة 2014 على ميليشيات محلية في إقليم الدونباس شرق البلاد لمواجهة الحركات الانفصالية المدعومة من روسيا.

كما لجأت العديد من القوى الإقليمية والدولية منذ سنة 1945 إلى دعم جماعات مسلحة أجنبية كخيار استراتيجي لها في تنافساتها الجيوسياسية والاستراتيجية في إطار ما يعرف بالحروب بالوكالة (Proxy Wars)، على غرار الدعم الأمريكي للمجاهدين الأفغان لمحاربة الغزو السوفيتي سنة 1979، أو الدعم العسكري الإيراني الكبير لعدد واسع من الميليشيات الشيعية الناشطة في عدة دول عربية كالعراق، واليمن وسورية، وهو ما يعكس سعيها للاستفادة من الفرص الاستراتيجية التي تطرحها تلك الفواعل المسلحة.

وفي الوقت الذي انحصر فيه دور بعض الجماعات المسلحة في نطاق وطني محدود، من خلال توجيه تلك الفواعل لجهودها ونشاطاتها العسكرية نحو تحقيق أهداف محلية كإسقاط نظام الحكم، أو فرض نموذج أيديولوجي معين، أو الحصول على تنازلات سياسية جوهرية، أو مجرد تحقيق مكاسب اقتصادية، فقد تعدت نشاطات أغلب تلك الجماعات للحدود الوطنية للدولة التي تشكلت فيها، حيث انتشرت معاقلها وتوزعت نشاطاتها في عدة دول في آن واحد، على غرار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، أو كارتلات المخدرات في أمريكا اللاتينية، الأمر الذي جعل الدولة الوطنية عاجزة-في أغلب الحالات-عن الحد من أدوارها وآثارها بمفردها، دون دعم خارجي،  وهو ما شجعها على الانخراط في ترتيبات إقليمية ودولية  لمواجهة مختلف أشكال الجماعات المسلحة كتكتلات مكافحة الإرهاب، ومبادرات التعاون والتنسيق الأمني والاستخباراتي، والترتيبات الإقليمية لحماية الحدود، ونحو ذلك.

وقد كانت بعض الجماعات المسلحة على غرار حزب الله اللبناني، أو قوات بدر العراقية تابعة لأحزاب وقوى سياسية وظفت وسائل القهر كامتداد للسياسة بطرق مختلفة، وفي مقابل ذلك مثلت جماعات مسلحة أخرى مظالم ومطالب وحقوق مجتمعات عرقية أو دينية أو طائفية معينة، مثل قوات البشمركة الكردية، وحزب العمال الكردستاني، ولذلك حظيت في الغالب بدعم شعبي واسع لدى مجتمعاتها، كان مصدرا لمواردها ومقاتليها.

والسمة المشتركة لمختلف أصناف الجماعات المسلحة أن جلها يبرز في دول تعاني من حالة من الضعف، والهشاشة البنيوية، والعجزي الوظيفي، وهو حال أغلب الدول في إفريقيا، ومنطقة الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، فمنطقة الشرق الأوسط-على سبيل المثال-التي تعاني دولها من العديد من المشاكل والهشاشات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية، عرفت منذ اندلاع ما عرف بـ”ثورات الربيع العربي” انتشارا واسعا لجماعات مسلحة متعددة التوجهات، والأهداف، والأيديولوجيات، والتي من جهة شكلت أحد أهم مصادر عدم الاستقرار السياسي والأمني، وهددت بقاء تلك الدول ككيانات موحدة ومستقلة، نظرا لسعيها لإسقاط الأنظمة التسلطية الحاكمة، وتبنيها لأجندات أيديولوجية أو قومية ضيقة، فضلا عن ولاءاتها لقوى إقليمية ودولية؛ ومن جهة أخرى استعانت بها تلك الأنظمة من أجل ضمان بقائها واستمرارها في الحكم، في وجه الجماعات المتمردة.

أهمية الدراسة:

تعد الجماعات المسلحة مجالا هاما للدراسة والبحث الأكاديمي الموضوعي، نظرا لدورها المتنامي على الساحة الدولية في العقود الأخيرة إما كفواعل مخربة تؤثر سلبا على الأمن الوطني والإقليمي والدولي على حد سواء، باعتبارها أهم الفواعل العسكرية في النزاعات المسلحة والحروب الأهلية المعاصرة، وأكبر تحد مباشر لاحتكار الدولة المشروع لوسائل العنف، وسيادتها الوطنية، ووحدتها الترابية، وتماسكها المجتمعي، خاصة في ظل امتداداتها عبر-الوطنية المتزايدة من حيث معاقلها، ونشاطاتها العنيفة، وعلاقاتها الخارجية؛ أو من جهة أخرى كبديل أمني واستراتيجي لجأت إليه العديد من الدول من أجل تعزيز قدراتها الأمنية والدفاعية لمواجهة تحديات أمنية معينة في أوقات النزاعات المسلحة، أو في فترات ما بعد النزاع (Post-Conflict Periods)، وكذلك لتحسين وضعها الاستراتيجي أو الأيديولوجي في إقليم معين، أو على المستوى العالمي.

ولذلك ففهم الطبيعة المعقدة لهذه الفواعل المسلحة، وتوسيع الدراسة حول أبعادها وأدوارها، والتحديات الأمنية التي تفرضها على الدول الوطنية من جهة، والفرص الاستراتيجية التي تطرحها من جهة أخرى، وكذلك طبيعة علاقاتها مع مختلف الفواعل في محيطها الأمني والاستراتيجي، سواء المحلي أو الدولي، هام وضروري، فالفهم القاصر لهذه الجماعات وديناميكياتها يمنع صناع القرار في مختلف الدول من صياغة واتباع الآليات المناسبة للتعامل معها، إما لمواجهة تحدياتها الأمنية، أو للاستفادة من امتيازاتها الاستراتيجية.

وهنا تكمن أهمية هذه الدراسة في محاولتها للإلمام بمختلف جوانب هذه الظاهرة، وتقديم نظرة شاملة عن مختلف أصنافها وأدوارها، إما كتهديد أمني، أو كبديل دفاعي واستراتيجي، وذلك أن أغلب الأدبيات في هذا المجال ركزت على أصناف من الجماعات المسلحة، وأهملت أخرى، فالجماعات الإرهابية-على سبيل المثال-أخذت حصة الأسد من الدراسة والتحليل، رغم أن نطاق عمل الأشكال الأخرى من الجماعات المسلحة، وامتداداتها عبر-الوطنية، وقوتها العسكرية، وأثرها الأمني والاستراتيجي لا يقل شأنا عن الجماعات الإرهابية، وفي الوقت ذاته صبت جل الأدبيات جهودها في معالجة موضوع الجماعات المسلحة كتحد أمني محض يهدد بقاء الدول ككيانات مستقلة وموحدة، ويقوض تماسك مجتمعاتها، ويعرقل تطورها وازدهارها، مع تجاهل وقلة اهتمام بالفرص والميزات الاستراتيجية التي تطرحها، ويمكن للدولة أن تستغلها لتعزيز قدراتها الدفاعية والأمنية، وتحسين وضعها الاستراتيجي.

ولذلك فهذه الدراسة هي محاولة لتجميع الجهود الأكاديمية المشتتة في دراسة الجماعات المسلحة، وتحقيق نوع من التوازن العلمي الموضوعي في التعامل مع مختلف أشكال الجماعات المسلحة، وأدوارها الأمنية والاستراتيجية دون إفراط أو تفريط.

المشكلة البحثية:

إن بروز وانتشار أشكال متعددة من الجماعات المسلحة التي تتحدى احتكار الدولة المشروع لوسائل العنف من أجل تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية كإسقاط أنظمة الحكم، أو فرض نموذج أيديولوجي معين، أو الحصول على تنازلات سياسية جوهرية كحكم ذاتي لإقليم جغرافي معين، أو انفصاله عن الدولة، في مقابل تعاون العديد من الدول الوطنية والقوى الإقليمية والدولية ودعمها لجماعات مسلحة معينة يفرض البحث في طبيعة العلاقة بين الجماعات المسلحة كفواعل هامة ومؤثرة، والأمن الوطني بمختلف أبعاده وقطاعاته. وهذا ما يقود لطرح السؤال الآتي:

كيف يمكن للجماعات المسلحة أن تكون مصدر تهديد للأمن الوطني وخيارا دفاعيا واستراتيجيا للدولة في الوقت ذاته؟ 

وتندرج ضمن هذه المشكلة البحثية جملة من الأسئلة الفرعية:

  • ماذا نقصد بالجماعات المسلحة؟ وما هي أهم أشكالها؟
  • لماذا تنشأ الجماعات المسلحة؟ وماهي أهدافها ودوافعها؟
  • ما هي الأسباب والعوامل التي ساعدت على بروز وانتشار عدد كبير من الجماعات المسلحة على الساحة الدولية في العقود الأخيرة؟
  • ماهي أنماط العلاقة بين الدولة الوطنية والجماعات المسلحة؟ وما هي محدداتها؟
  • هل يمكن أن تكون الجماعات المسلحة مصدرا للأمن والحماية للدولة ومجتمعها؟
  • ما الذي يفسر استعانة العديد من الدول بجماعات مسلحة معينة لأداء مهام أمنية ودفاعية معينة؟
  • ما هي أسباب ودوافع الدعم الأجنبي من قبل مختلف قوى إقليمية ودولية لكثير من الجماعات المسلحة؟ وهل ذلك الدعم من شأنه أن يعزز الوضع الاستراتيجي لتلك الدول، ومن ثم أمنها الوطني؟

فرضيات الدراسة:

تنطلق الدراسة من عدد من الفرضيات التي تمثل إجابة أولية على المشكلة البحثية المطروحة آنفا، وهي كالآتي:

  • يزداد احتمال بروز وانتشار الجماعات المسلحة بمختلف أشكالها بزيادة ضعف الدولة وعجزها عن أداء مهامها الأساسية.
  • كلما زادت قوة الجماعات المسلحة وتوسعت نشاطاتها العنيفة، كلما انعكس ذلك سلبا على الاستقرار السياسي والأمني للدولة.
  • كلما تراجعت القدرات العسكرية لقواتها المسلحة النظامية، كلما زاد تفويض الحكومات للجماعات المسلحة لأداء مهام أمنية ودفاعية معينة.
  • تراجع ظاهرة الحرب بين الدول هو ما يفسر الاعتماد المتنامي للقوى الإقليمية والدولية على الجماعات المسلحة كوكلاء لها في دول أجنبية ذات قيمة استراتيجية لها.

الإطار الزماني للدراسة:

ركزت الدراسة على الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، فهي الفترة التي شهدت بروز أشكال متنوعة من الجماعات المسلحة، دعمتها إحدى القوتين العظمتين أثناء الحرب الباردة، وتوسع انتشارها بعد تلك الفترة نتيجة تزايد عدد الدول الضعيفة والهشة على الساحة الدولية في ظل تسارع مسار العولمة، وترسخ قيمها ومبادئها حول العالم، ولذلك فالاستنباطات أو النماذج والأمثلة المقدمة في هذه الدراسة لم تخرج عن هذا النطاق الزماني؛ أما الفترة التي تسبق الحرب العالمية الثانية، فكان دور هذه الفواعل غير الدولاتية محدودا ومحصورا، نظرا لسيادة التنافس بين القوى الكبرى على الساحة الدولية، فدور الجماعات المسلحة على الساحة الدولية يزداد حينا من الزمن، ويتراجع أحيانا أخرى تبعا لديناميكيات المحيط الاستراتيجي العالمي.

الإطار النظري للدراسة:

إن طبيعة الدراسة، وتعقيداتها، وتعدد وحداتها التحليلية يفرض الاعتماد على عدد من الأطر النظرية والتحليلية التي عادة ما تكون منطلقا لوصف، وتحليل، وتفسير مختلف الظواهر السياسية والأمنية والدولية، ثم تتوقع تطوراتها ومساراتها المستقبلية.

  • اقتراب الجماعة:

يركز اقتراب الجماعة على دراسة الجماعات-أو الهياكل والتنظيمات-المتفاعلة داخل الدولة، وعلاقتها بالنظام السياسي، سواء كانت تلك الجماعات جماعات رسمية أو غير رسمية، فهو يعتبر حالة النظام السياسي في لحظة زمنية معينة محصلة لتفاعلات شبكة من الجماعات الرسمية وغير الرسمية، تمتد من التعاون والتنسيق إلى التصارع والصدام مرورا بالتنافس والتوتر، فالجماعات بمختلف أشكالها متغير مستقل، والنظام السياسي متغير يتبع أنماط التفاعلات بين تلك الجماعات.

فالجماعة هي وحدة تحليل أساسية في هذه المقاربة، وذلك أن الفرد لم يعد بمقدوره إحداث تأثير أو تغيير مرغوب، أو حتى الحفاظ على حقوقه ومصالحه إلا بالانخراط في تجمعات بشرية هدفها تحقيق مصالح مشتركة من خلال إيصالها إلى أجهزة صناعة القرار بطرق متنوعة سياسية سلمية أو عنيفة، وذلك نظرا لتطور المجتمعات المعاصرة، وما صاحبها من تعقيد في العلاقات الاجتماعية، وهذا ما يفرض دراسة الجماعة من حيث مستواها التنظيمي، وأسلوبها في التعبير عن مصالحها ومطالبها، وقدراتها على تحقيق أهدافها، والتأثير في عملية صنع القرار ونمط علاقاتها بالجماعات الأخرى، الرسمية أو غير الرسمية.

والجماعات المسلحة هي صنف من الجماعات غير الرسمية التي تعبر عن مصالح فئات اجتماعية معينة، سواء كان اقتصادية، أو سياسية، أو أيديولوجية، فضلت التعبير عنها باستخدام أدوات القهر إما لإدراكها بصعوبة تحقيقها بالأدوات السياسية والقانونية السلمية إما لطبيعة النخبة الحاكمة التسلطية أو المستبدة، أو لقلة جاذبية وشعبية أفكارها ومبادئها كمحاولة فرض نموذج أيديولوجي كالاشتراكية على مجتمع تعددي منفتح، أو انفصال إقليم جغرافي معين عن إقليم الدولة.

  • مقاربة الأمن الموسع-لباري بوزان-:

عمل المفكر باري بوزان على إقامة حقل الدراسات الأمنية على أسس حديثة ومتينة وموضوعية شاملة، فكانت له اسهامات كثيرة في هذا المجال على غرار مفهوم الأمننة (Securitization)، ومركب الأمن الإقليمي، وتبقى مقاربة الأمن الموسع التي صاغها في إطار مدرسة كوبن هاغن أحد أهم وأبرز اسهاماته، حيث قام بتوسيع مفهوم الأمن نظريا-وليس عمليا-ليشمل قطاعات تحليلية جديدة بجانب القطاعين السياسي والعسكري اللذين طغا على أدبيات العلاقات الدولية والدراسات الأمنية طوال فترة الحرب الباردة، وهي القطاع الاقتصادي، والقطاع المجتمعي، والقطاع البيئي، كما حاول تطبيق الأطر النظرية والتحليلية الأمنية كالمعضلة الأمنية، وعملية الأمننة، والمركب الأمني، ومفاهيم التنافس والردع والاحتواء على هذه القطاعات غير العسكرية.

اعتمدت الدراسة على هذه المقاربة التحليلية في إطار سعيها لمعرفة وتقصي مدى تأثير الجماعات المسلحة على الأمن الوطني بمختلف قطاعاته التي ذكرها، فبالرغم من كون الجماعات المسلحة تمثل تحديا عسكريا داخليا وخارجيا مباشرا للدول الوطنية، واحتكارها المشروع لوسائل العنف، إلا أن آثارها طالت كل الأبعاد الأخرى، بل وفي كثير من الحالات كان تأثيرها غير العسكري أكبر وأشد، ولذلك فالتمييز النظري بين القطاعات من حيث الآثار والتداعيات الأمنية المتداخلة والمتشابكة في الواقع يساعد على تبسيط الفهم والتحليل والتفسير، ويمكن من التوصل لاستنتاجات نظرية وعملية أدق وأعمق من التي يمكن التوصل إليها من خلال المعالجة العامة والفوقية للأمن الوطني.

  • المقاربة البنائية:

أضحت المقاربة البنائية تجذب الكثير من الباحثين للاعتماد على أطروحاتها وافتراضاتها لتفسير الظواهر الأمنية والاستراتيجية المعاصرة، فهي تختلف عن كثير من المقاربات العقلانية والنقدية الأخرى، حيث تركز بشكل أساسي على دور الهوية، والأفكار، والقيم، والتصورات في تشكيل وتوجيه السلوكيات السياسية والاجتماعية والأمنية لمختلف الفواعل، لأن الهوية بمختلف أنماطها تحدد جوهر المصلحة (Interest) التي يتحرك الفواعل في إطارها، وفي سبيل تحقيقها، ولذلك فهي تولي أهمية للخطابات السائدة في المجتمع، كونها تعكس قيم ومعتقدات الأفراد والجماعات.

وما يجعل هذه المقاربة صالحة لدراسة موضوع الجماعات المسلحة بشكل عام هو أن أغلب تلك الجماعات تتبنى أجندات أيديولوجية، سواء كانت دينية، أو طائفية، أو عرقية، تعمل في إطارها وتسعى لتحقيقها، فتلك الأيديولوجيات المتنوعة هي التي توجه ممارسات تلك الفواعل، وأنشطتها العسكرية والسياسية، وتحدد نمط تفاعلاتها مع مختلف الجهات في محيطها المحلي أو الدولي، فتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على سبيل المثال سعى لفرض نموذج أيديولوجي معين، وكانت أنشطته العنيفة تصب في إطار سعيه لتحقيق ذلك، كما حدد خصومه وحلفائه حسب مواقفهم من مشروعه الأيديولوجي؛ وبالمنطق ذاته، حددت الهوية الطائفية للميليشيات الشيعية في العراق مثلا نمط علاقاتها مع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث اختارت الجمهورية الإسلامية الإيرانية حليفا لها، وجعلت من تركيا ودول الخليج العربي خصوما وأعداء لها، فالهوية الطائفية رسمت المصلحة السياسية والاستراتيجية، وعلى أساسها انقسمت الجهات المحلية والدولية الناشطة في العراق إلى حلفاء وأعداء.

منهج الدراسة:

يندرج هذا الكتاب ضمن الدراسات الوصفية التحليلية في الدراسات الأمنية، والتي تعنى بوصف مختلف أبعاد الظاهرة الأمنية محل البحث، وتحليل متغيراتها وديناميكياتها الداخلية والخارجية. فالجماعات المسلحة كظاهرة أمنية لها عدة أبعاد وديناميكيات، منها ما هو داخلي على غرار النمط القيادي والتنظيمي الذي تتبعه، والأيديولوجية المنظمة لها، ومصادر تمويلها، واستراتيجياتها القتالية التي توظفها من أجل تحقيق أهدافها، وآخر خارجي على غرار علاقاتها مع الدولة التي تنشط فيها، والمجتمع الذي انبثقت منه، والمحيط الإقليمي والدولي الذي قد تتحرك فيه، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى إبرازها.

الأدبيات السابقة:

ناقشت الكثير من الأدبيات في حقل الدراسات الأمنية والاستراتيجية موضوع الجماعات المسلحة، غير أن مجال تحليلها ودراستها كان في الغالب محصورا في جانب من جوانب هذه الظاهرة التي برزت بشكل كبير في العقود الأخيرة، فأكثر الأدبيات ركزت على دراسة الجماعات الإرهابية وآثارها على الأمن الوطني أو الدولي، وحصرت أخرى نطاق دراستها في جماعات الجريمة المنظمة، في حين لم تتلقى أصناف أخرى من الجماعات المسلحة كالميليشيات الموالية للحكومة، أو جماعات المعارضة المسلحة حقها من الفحص والتحليل، إذا ما قورنت بدراسة الجماعات الإرهابية، خاصة في الأدبيات العربية؛ زد على ذلك أن الكثير من الدراسات وقعت في فخ التوصيف السياسي للتسميات، فكانت كثيرا ما تصنف جماعات المعارضة المسلحة، أو الحركات الانفصالية، أو الميليشيات ضمن فئة الجماعات الإرهابية رغم كثرة الفروق الجوهرية بينها، فابتعدت بذلك عن الموضوعية، لأنها لم تستند إلى أساس نظري سليم ومتين.

وفي مقابل ذلك اهتمت أدبيات أخرى بأبعاد تنظيمية ونظرية للجماعات المسلحة، كدور الأيديولوجية في تنظيم وتوجيه سلوك تلك الفواعل، أو الأنماط التنظيمية والقيادية التي تتبناها، أو الاستراتيجيات التي تسلكها في سبيل تحقيق غاياتها، أو مصادر تمويلها ودخلها، أو نحو ذلك، وقد استندت هذه الدراسة كثيرا إلى هذا النوع من الأدبيات من أجل بناء صرح نظري لهذه الفواعل يشمل مختلف أبعادها العملية والتنظيمية، يمكن أن يكون منطلقا وسندا لدراسات وأبحاث أخرى في هذا المجال.

وصورت أدبيات أخرى الجماعات المسلحة كوحوش كاسرة تتربص بنظام الدولة الوستفالية، فعالجتهما كتهديد أمني محض، لكنها أنكرت أو تجاهلت أن ما يكون تهديدا أمنيا لجهة معينة، قد يكون في الوقت ذاته مصدرا للأمن والنفوذ الاستراتيجي لجهات أخرى، فالميليشيات الشيعية في المنطقة العربية-على سبيل المثال لا الحصر-هي تهديد أمني لدول الخليج العربي، لكنها في الوقت ذاته مصدر قوة ونفوذ وتأثير استراتيجي لإيران، فالنظرة الأحادية الجانب طغت على تلك الأدبيات؛ كما أن كثيرا من الجماعات المسلحة غير الدولاتية تمكنت من إسقاط النظم السياسية الحاكمة، أو استقلال إقليمها الجغرافي فصارت هي فواعل دولاتية، وصار قادتها رجال دولة، وقادة وطنيين.

أما هذه الدراسة فقد حاولت أن تقدم نظرة شاملة حول هذه الفواعل المسلحة، سواء من حيث تصنيفها وأبعادها النظرية، أو من حيث تأثيرها الأمني والجيوسياسي والاستراتيجي، ولعل أقرب الأدبيات لهذه الدراسة ما يلي:

  • Peter G. Thompson, Armed Groups: The 21st Century Threat (New York: Rowman and Littlefield, 2014)

يعد كتاب “الجماعات المسلحة: تهديد القرن الواحد والعشرين” أحد أهم الاسهامات النظرية في موضوع الجماعات المسلحة، فقد عالج مختلف الأبعاد والخصائص النظرية والتنظيمية لهذه الفواعل على غرار الأيديولوجية، والأنماط التنظيمية، وطرق التجنيد، ومصادر التمويل؛ كما ناقش مفهوم الجماعات المسلحة، وميز بينه وبين التسميات الأخرى لهذه الفواعل على غرار الفواعل المسلحة غير-الدولاتية، والفواعل العسكرية غير-النظامية، والجماعات القتالية، وبرر أفضلية استخدام مصطلح الجماعات المسلحة، وقدم في الأخير أهم الاستراتيجيات التي غالبا ما تتبعها الحكومات الوطنية لمواجهة هذه الجماعات.

غير أن هذه الدراسة تظل دراسة نظرية محضة، إذ لم يستند فيها المؤلف على نماذج وحالات واقعية للاستدلال على بنائه النظري الذي أراده أساسا لدراسات تطبيقية أخرى، كما أن نزعة اعتبار الجماعات المسلحة كتهديد أمني محض يسهل إدراكها في كل ثنايا الكتاب، وهو ما يظهر جليا في عنوانه.

  • Richard Shultz, Douglas Farah, Itamara V. Louchard, Armed Groups: A Tier-One Security Priority (Washington D.C.: Institute for National Strategic Studies, 2004)

حاولت هذه الدراسة الصادرة عن المعهد الأمريكي لدراسات الأمن الوطني تقصي أهم خصائص ومعطيات المحيط الدولي بعد الحرب الباردة التي سمحت بانتشار ذلك الكم الهائل من الجماعات المسلحة على الساحة الدولية، كما قدمت تصنيفا شاملا لتلك الفواعل، تبنته هذه الدراسة لاعتقادها بشموله وموضوعيته، لكن خالفته من حيث بعض مضامينه، حيث صنفت الجماعات المسلحة إلى أربعة أصناف وهي الجماعات التمردية، والجماعات الإرهابية، والميليشيات، وجماعات الجريمة المنظمة، وقدمت بعد ذلك إطارا نظريا لكيفية دراسة مختلف الأبعاد التنظيمية والعملية للجماعات المسلحة كالأيديولوجية، والنمط التنظيمي والقيادي، والتجنيد، وذلك من خلال عرضها لعدد من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها عند دراسة أي بعد من تلك الأبعاد.

فهده الدراسة كدراسة الأستاذ “بيتر تومسون” تظل دراسة نظرية محضة، شاملة من حيث تصنيف الجماعات المسلحة، لكنها غير ذلك من حيث تأثير تلك الفواعل على أمن الدول ومكانتهم الاستراتيجية، حيث اعتبرتها تهديدا أمنيا يهدد بقاء نظام الدولة الوستفالية.

  • Jeffery Norwitz, Armed Groups: Studies in National Security, Counter-Terrorism and Counter-Insurgency (Washington D.C.: Naval War College Press, 2008)

يضم هذا المؤلف الجماعي الصادر عن الكلية الحربية البحرية الأمريكية سنة 2008 عدد من المقالات التي ناقشت جوانب مختلفة من ظاهرة الجماعات المسلحة، بعضها ناقشت جماعات مسلحة معينة، ودورها في النزاعات المسلحة الداخلية من منظور تاريخي كالألوية الحمراء الإيطالية (1969-1984)، أو الجبهة الثورية لاستقلال تيمور الشرقية، أو الجيش الجمهوري الإيرلندي، في حين اهتمت أخرى ببعض العوامل التي عززت قدرات تلك الفواعل، ومكنت من انتشارها على الساحة الدولية بعد الحرب الباردة كالعولمة، وانتشارات الفضاءات غير المحكومة، وفي مقابل ذلك ركزت مقالات أخرى على دور الأيديولوجيات الدينية في توجيه سلوك تلك الفواعل، وكذلك علاقتها بالقوانين الوطنية، والقانون الدولي العام، والقانون الدولي الإنساني.

غير أن هذا المؤلف لم يقم على أساس نظري متين ومتماسك، ويظهر ذلك في تباين تصنيفات الجماعات المسلحة المستند عليها من مقالة لأخرى في هذا الكتاب، بل وأغلب تلك التصنيفات غير متماسكة ولا تخضع لمعيار واحد وموحد، فنجد مثلا تصنيفا يشمل الحركات التمردية، وأمراء الحرب، والشركات العسكرية الخاصة، والفصائل القبلية، وجماعات حروب العصابات، وجماعات التطرف الديني، والقراصنة البحريين، والميليشيات، وهذا التصنيف يسهل الرد عليه، إذ أن المعيار المتبع في تصنيفها ليس واحدا، فهل الأيديولوجية الدينية، أم طبيعة الأهداف، أم الهوية العرقية هي ما يميز بين هذه الفئات، كما أنه لا يمكن اعتبار جماعات التطرف الديني مثلا جماعات قائمة بذاتها، فالأيديولوجية الدينية قد تتبناها الميليشيات، أو الحركات التمردية أو غيرها، زد على ذلك فإن الفصائل المسلحة القبلية هي شكل من أشكال الميليشيات، وليست فئة مستقلة بذاتها.

هيكلة الدراسة:

تمت معالجة موضوع الكتاب في سبعة فصول رئيسة، يسبقها مقدمة عامة، ويليها خاتمة يتم فيها عرض أهم ما توصلت إليه الدراسة من استنتاجات. يقدم الفصل الأول إطارا مفهوميا الجماعات المسلحة، حيث يحاول تعريف الظاهرة محل البحث، ويتطرق لأهم المقاربات المقترحة من طرف باحثين وأكاديميين لكيفية نشوء هذه الفواعل وتشكلها، كما يستقصي الأسباب والعوامل التي ساعدت على الانتشار الواسع لهذه الفواعل على الساحة الدولية في العقود الأخيرة.

أما الفصل الثاني فيعنى بتقديم تصنيف شامل لهذه الجماعات، والذي يشمل الجماعات التمردية بأشكالها الثلاث (الحركات التحررية، وجماعات المعارضة المسلحة، والحركات الانفصالية)، والجماعات الإرهابية، والميليشيات، وجماعات الجريمة المنظمة، ويناقش استبعاد فواعل مسلحة أخرى من التصنيف على غرار الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، ويركز في الوقت ذاته على ظاهرة التحالف والتعاون بين هذه الأصناف الأربعة، فالممارسة العملية أثبتت حجم التداخل الكبير بينها.

وفي الفصل الثالث تمت مناقشة مختلف النواحي التنظيمية والعملية لهذه الفواعل، كالأيديولوجية، والأنماط التنظيمية والقيادية، وطرق التجنيد، ومصادر التمويل، والاستراتيجية والتكتيكات الحربية التي تتبعها هذه الفواعل غير الدولاتية في تحقيق أهدافها السياسية أو الأيديولوجية أو الاقتصادية. وقدم الفصل الرابع إطارا نظريا لمفهوم الأمن الوطني وأهم قطاعاته ومستوياته التحليلية وفق مقاربة رائد مدرسة كوبن هاغن “باري بوزان”.

أما الفصل الخامس فقد تم التطرق فيه إلى الجماعات المسلحة كمصدر تهديد للأمن الوطني للدول، وذلك من خلال إبراز تأثيرها على سيادة الدول واستقرارها السياسي، ودورها في تكريس المعضلة الأمنية الإثنية، وكذلك في إسهامها في جذب التدخلات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن دورها التخريبي في مراحلة ما بعد النزاع المسلح (post-conflict periods)، ناهيك عن آثارها الإقتصادية السلبية، خاصة في ظل اعتمادها المتزايد على الإمتيازات التي يطرحها الفضاء الإلكتروني، كما يناقش الفصل كذلك إمكانية امتلاك هذه الجماعات المسلحة لأسلحة الدمار الشامل بمختلف أشكالها.

وفي مقابل ذلك يقدم الفصل السادس الجماعات المسلحة كمصدر للأمن والحماية للأنظمة الحاكمة والمجتمعات المحلية في وجه الإرهاب والحملات التمردية، أو كخيار استراتيجي للقوى الإقليمية والدولية توظفها في تنافساتها الجيوسياسية والاستراتيجية في إطار ما يعرف بالحروب بالوكالة، كما يستقصي أهم العوامل التي تدفع الدول والحكومات عبر العالم للاعتماد على هذه الفواعل المسلحة لأداء أدوار أمنية أو عسكرية معينة، والمخاطر التي قد تنطوي على هذا الخيار.

أما الفصل السابع والأخير فيتطرق لأهم الآليات التي تلجأ إليها الدول والحكومات للتعامل مع الجماعات المسلحة المعادية لها، وذلك من خلال التركيز على الآليات العسكرية وغير العسكرية، والتي تشمل أبعادا سياسية واقتصادية واجتماعية ودعائية ونفسية وغيرها.