تفصيل

  • الصفحات : 224 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-868-4.

مقدمة

يتعين علينا ونحن نتحدث عن أثر التحولات الاجتماعية بعد الاستقلال في القصة القصيرة الجزائرية ، أن نواجه الحقيقة القائلة بأن الأدب والفن عموما في مجتمع ما،يشكلان الصورة المعبرة عن مستوى ثقافة ذلك المجتمع ودرجة تطوره الحضاري، وإذا كانت ظاهرة التغيير الاجتماعي السمة التاريخية التي لازمت حياة الشعوب ونموها السياسي والاقتصادي والثقافي، فإن ذلك المجتمع كان بين المجتمعات التي دأبت على تحقيق ذلك التطور نحو الأفضل، وكان لا بد لهذه التحولات والتفاعلات العميقة، من تحولات وتفاعلات مماثلة ومساوقة على مستوى التفكير والتعبير، وعلى مستوى الحساسية الثقافية والرؤية للعالم، وكان لا بد من مراصد أدبية جديدة تستطيع التقاط أصداء وإيقاعات هذا التحول الجديد، وبالتالي كانت القصة القصيرة على المستوى الإبداعي من المراصد الشاهدة على انفتاح المجتمع، والتي دفعت المبدعين إلى الكتابة القصصية بوصفها وعاء أمثل لاحتواء التجربة المحلية في بعدها الإنساني فضلا عن كونها أخصب الأشكال الفنية وأليقها لحمل الفكرة والتأثير في قارئها، بحيث يمكن أن تتغير نظرته للحياة، عبر تعبير القاص عن رؤيته الخاصة للعالم، أو موقفه العام منه .

وإذا كان لتأثير ظاهرة التطور الاجتماعي بعد الاستقلال دوره الكبير في تحديد رؤية جيل السبعينات واستجابته لمرجعية السلطة والمفاهيم الجديدة، والقيم الفكرية الحديثة التي خلقتها تلك التحولات المتصلة بتأثير التطور الاجتماعي على القاص، فإن استكناه مفهوم الجيل الأدبي يصدر عن خلفية تلك العلاقة بين جيل السبعينات والسياق التاريخي الذي وجد فيه ، ويمكن أيضا أن نستشف اللحظة البارزة من تاريخ التجربة القصصية التي أثارت الاهتمام وحركة النقد، لتسجل رد فعل عن ذلك التفاعل، نتيجة لارتياد مناطق جديدة من الوعي والحساسية الإبداعية، وبالتالي فالبحث عن سمات نوعية خاصة لجيل أدبي في مرحلة تاريخية معينة يعني تحديد وتمييز مقومات تجربة الكتابة بين هذا القاص أو ذاك .

وهو ما يعني، أن الجيل الأدبي في حقيقته تجربة رؤية، وهو الجزء الطليعي من الجيل الزمني، وليس كل الجيل، وليس المقصود وحدة التجربة أو وحدة الرؤية، وإنما المقصود هو التجربة الرئيسة: الثورة- الهزيمة- الحرب-السلام…الخ والرؤية المحورية:الرفض الانتماء- الحرية-العدالة…الخ وكلاهما يتنوع ويتعدد ويتجلى في مئات التجارب والرؤى. والذي يفرق بين أديب وآخر، هو الرؤية التي تتكامل بين مجموعة أفراد، وقد تصوغها أعمال كاتب ما، وهذه الرؤية قد ينتمي إليها كاتب أو فنان، مع اختلاف العمر البيولوجي، في حين تبقى الرؤية من موازين النقد الأساسي، ولكنها لا تتصل بالعمر إلا من حيث درجة شفافيتها في أية حياة أدبية والحقيقة أن هناك أجيالا من الرؤى بكل ما تدل عليه الكلمة، ولكن الرؤية الجديدة وحدها هي سيدة الإبداع والرؤية ليست وجهة نظر فكرية أو إجتماعية أو سياسية، وإنما ذلك كله، في ذلك البناء الرحب و المركب والمتعدد الزوايا .

إن تحديد مفهوم الجيل الأدبي الذي كتب القصة القصيرة بعد الاستقلال، يعني أنه تشكّل ضمن شروط تاريخية ومجتمعية، و كان في معظمه جيلا يساريا: كالطاهر وطار،واسيني الأعرج، أمين الزاوي، لحبيب السايح، والبعض تمثّل البعد الوطني القومي: كزهور ونيسي، عبد الله ركيبي و أبو العيد دودو.  وما يسند تجربة الإبداع عند هذا الجيل على الرغم من الشروط التاريخية القاسية والمصاحبة له ولتجربته، هو ما عاشه المجتمع من تحولات وانكسارات، واكتشافه حياة الأزمنة الحديثة وما تنطوي عليه إمكانات العقل والعلم والمعرفة، لذلك كانت تجربته عملية انعكاس، ثم تفاعل، ثم خلق، حيث انعكست ثقافته المرتبطة بثقافة المجتمع وخبرته وتجاربه، من رصد حركته في طيات نفسه الواعية منها وغير الوعية.

وإن عبرت الأسماء التي ذكرناها عن القضايا والتحولات التي مر بها المجتمع الجزائري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فإن التجربة القصصية بحكم خصوصيتها وأدواتها، وارتباطها بذاتية المبدع ورؤيتها، لا يمكن أن تكون استنساخا أو تكرارا لما هو رائج وملحوظ في دنيا الواقع، فالعالم الإبداعي عند كل  قاص في أشكاله اللامتناهية، ومقتضيات وسائله المغايرة، ينحو إلى إعادة خلق الأشياء والعلائق والفضاءات، وإلى وضع مسافة جمالية بين المعيش المباشر والرؤية الفنية، وهذا يعني أن العوالم الإبداعية مبثوثة الصلة بالحياة وأسئلتها وتجاربها. يتبين لنا مما سبق، أن الدراسات المتعددة حول القصة القصيرة بعد الاستقلال، تناولت بالدرس والتحليل مراحل تطورها، وأبرزت الجوانب الفكرية والفنية لمختلف تجارب القصاصين، بل اتخذت خطوات نحو آفاق أرحب ومعالجات أعمق، عندما أكدت حرصها على اكتشاف القوانين التي تحكم علاقات التأثير والتأثير بين شكل العمل ومضمونه، مستفيدة من نتائج الدراسات النفسية والاجتماعية والتاريخية والبنائية، والسؤال المطروح، هل ثمة علاقة بين وصول بعض القصاصين في السبعينات والثمانينات إلى السلطة النقدية والسلطة الثقافية، وبقاء البعض في مساحة من الظل، أو بقوا على هامش النقد والثقافة ؟ أيّا كانت قراءة هؤلاء وموقف النقد منهم، والتحفظات على مستوى الخبرة والتجربة والثقافة داخل الجيل نفسه، فإن أيّا من الدارسين ممن تابعوا الفعل الإبداعي بدءا من السبعينات إلى يومنا، لا يستطيع إلا الإقرار بأن القاص بوالطين –المنسي- في ساحة النقد الجزائري، هو حلقة عضوية ضمن هذا الجيل، الذي تحمل عبء المواجهة الحقيقية مع الواقع وتناقضاته، فظهرت مبادراته الثقافية ومحاولاته الإبداعية في حقبة حساسة من تاريخ الجزائر الحديث، اتسمت بالحركة أو مقاومة بقايا الكولونيالية، والتجزئة، والتخلف الاجتماعي، والصراع السياسي، وساعد على ظهور قصة جزائرية تنادي بالثورة الشاملة، وتؤمن بوحدة مصير الأمة الجزائرية .

فالقاص بوالطين، ربما لا يعرفه أحد من شباب هذا الجيل، إلا إذا صادف اسمه في مجلة تتصل بزمن السبعينات، رغم أنه كان على امتداد ثلاثة عقود قلما في سماء الإبداع والتجربة القصصية الجزائرية، فقد كان له دورا فاعلا وفعّالا في البناء الثقافي والإبداعي، ومساهمته الفكرية المتعددة الجوانب في مجال نشر الوعي وتأصيله، وإضاءة الوجدان الوطني والقومي، والدعوة إلى التغيير الجذري وصولا إلى مجتمع جزائري موحد ومتحرر من الاستغلال ، فهو مؤمن بهويته وأصالته، و مؤمن بالثورة والخيار الاشتراكي، أضف إلى ذلك، فهو أحد دعاة هذه المبادئ وكتابها التي تبلورت فيما بعد وتكاملت في صورة حركة ثورية وطنية، تتبنى إعادة الوجه الضائع للفرد الجزائري والوطن، ليؤكد أصالته وإبداعه الإنساني الخلاّق في جزائر الاستقلال، وفي الوقت نفسه، كان يعي واقعه بالتمرد على كل التراكمات، و ترسبات الماضي الكولونيالي، تمردا واعيا بغية إيجاد الصيغة الأمثل للوطن وللأجيال القادمة .

هكذا ارتبط القاص بوالطين بجيله وارتبط بقضايا الثورة، فالرؤية التي حملتها نصوصه القصصية كانت المرآة الكاشفة ، لما اشترك ورؤية جيله، وما أختلف وانشق عن مساره، وشكل خصوصيته ورؤيته وأصولها الاجتماعية والفكرية والجمالية، بتعبير آخر، إن الجذور الاجتماعية للقاص كانت مغايرة، وهي تعيش رؤية وموقفا تناقضات الثورة وتناقضات الجماهير، وانهيار مبادئها، وتناقضات الشعارات بين النظرية والتطبيق. وإذا كانت نهاية الرؤية التاريخية لهذا الجيل في حياته أولا، لما اعترى الواقع السياسي الاجتماعي من تحولات جديدة، وانكسارات وخيبات وتراجعات عند المنظور السياسي الحزبي،  فالحقيقة لم تكن نهاية جيل، بل كانت نهاية مرحلة تاريخية معينة، وكانت إيذانا بولادة رؤية جديدة بعد الثمانينات ، مما يعني أن القاص عاش تلك المتغيرات في القيم لمسيرة تاريخية ورؤيته للعالم، فلم يسبح ضد التيار، بل ظل وفيا ملتزما بالواقع، بل توغل في أدغال الصمت، فيما قدمت نصوصه الأخيرة كشفا لكثير من الخطايا والحقائق الخافية تحت أرض الواقع والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، لماذا كانت هذه الفجوة الخطيرة بين النقد وبين القاص بوالطين؟ ولماذا لم يقرأ النقاد تجربته مثلما قرأوا لجيله ؟ فإذا كانت رؤية جيل القصاصين واحدة بصيغ الإختلاف داخل الرؤية فهل كان النقد كذلك  ؟ صحيح أن ما يصح بنسبته إلى الجيل الواحد، ورؤيتها الإبداعية لا تجوز مطابقته مع النقد وتوجهاته الفكرية والأيديولوجية، فعلاقة النقد بالفكر المباشر تختلف نوعيا عن علاقة الفن بالفكر والواقع الصادر عنه، ومن نتائج هذا الاختلاف أننا قد ننتظر من النقد رؤية جديدة لا جيلا جديدا، وهنا يتجدد السؤال لماذا لم يلتفت النقد في رؤيته وتوجهاته الفكرية وآلياته النقدية إلى القاص الذي عاش بالوطن وثورته بعد الاستقلال وقد تهيأت له كل الضروف ليكتب قناعاته وثورته كرؤية وموقف.

وإن يكن النقد والنقاد أهمله فإن تراتبية ما ، شكلت وفق قناعات أو صراعات أو جدل ، افتقدت إلى منطقية الرؤية وموضوعية الطرح ، أو إلى هذا الكل المتداخل والمتشابك، لتؤكد أن داخل جيل السبعينات حلقة من كتاب القصة وجدوا على هامش النقد، وبالتالي فمفهوم الإقصاء الذي يعبر عن قطيعة مع جسم الحياة الابداعية وبعض الكتاب على وجه التحديد ، وتعاليه على بعض الأسماء الإبداعية كالقاص بوالطين الذي لم ينل حقه علميا ونقديا، هو انعكاس لضيق دائرة النقد، وربما جاء التقصير ليس خاصا بالنقاد كأفراد، بل كحركة نقدية جزائرية قصرت في حق من كانوا في طليعة السبعينات ، وطليعة الثورة الثقافية، رغم ما أحاط الواقع الأدبي وقتئذ من دينامية وانفتاح على مختلف التجارب المحلية والإنسانية .