تفصيل

  • الصفحات : 114 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-818-9.

مقدمة

مما لا شك فيه أن الإنسان كائن ذو أبعاد فنية جمالية، لديه القدرة على التذوق وإصدار أحكام استطيقية، أعني القدرة على الحكم الجمالي على الموضوعات التي تحيط به، وكلما رغب الإنسان في الفن إلا واتسعت رغبته إلى محاولة تحديد أنواعه، واختيار الأنسب منها بما يتناسب مع ذوقه الجمالي، والعدول مقابل ذلك عما لا يروقه أو لا يتناسب مع حسه الجمالي.

ذلك أن معيار الجمال ليس واحدا لدى جميع الناس، و بالتالي ليس نفسه لدى فئة الفنانين ومن ثمة فلاسفة الفن والجمال، فلكل نظرته الخاصة إلى الجميل ومعاييره روحية وجدانية كانت أم حسية مادية، وتتحدد نظرة الفيلسوف إلى الجمال وإلى العمل الفني انطلاقا من انتمائه المذهبي، والتيار الفلسفي الذي يتبناه ويدافع عنه، وهو انتماء يسقطه على سائر المشكلات الفلسفية بما فيها الفنية والجمالية.

على أن الميزة الأساسية التي يكاد ينفرد بها عالم الفن والجمال هي التنوع، إذ يظم الإبداع الفني كل العناصر والإبداعات والابتكارات التي يمكن أن تخلقها ذات عاقلة، هذا التنوع بدوره يطرح إشكالية ما يجعل عملا ما ابتكارا وإبداعا، وتتراوح آراء الفلاسفة بين عوامل مختلفة تكاد تكون أحيانا متناقضة، كالمحاكاة والحدس والخيال، والعبقرية والدهشة وغيرها، ويندر أن تتفق عقول الفلاسفة أصحاب المذاهب الكبرى حول ماهية الإبداع الفني، وعوامل الحكم على موضوع ما أنه جميل أم قبيح.

و من بين أهم الموضوعات التي تعد إشكالا في مجال فلسفة الفن والجمال، هي تلك المتعلقة بطبيعة الجمال، فما يحرك الفنانين على اختلافهم ليس واحدا، وبالتالي فإن معيار الجمال كذلك ليس واحدا، بل تتعدد المواقف إلى حد التناقض، ففرق بين النظرة المثالية إلى الجمال والنظرة الواقعية، ومن جهة أخرى فرق كبير بين نظرة المدرسة الحدسانية ونظرة الفلسفة البراغماتية، ، وإذا كان الاختلاف سمة الفلسفة وأساس بناء المواقف والمذاهب الفلسفية، فإن ذلك ينسحب كذلك على مجال فلسفة الجمال.

وحينما نتحدث عن تيارات فلسفية كبرى في مجال فلسفة الفن والجمال، فإن ذلك يحيلنا من دون شك إلى مشكلة ذات صلة وهي المتعلقة بأصل الجمال، وحول ما إذا كان مرتبطا بالعالم المنظور، أم أنه مستمد من عالم قبلي أطهر وأنقى وأسمى من العالم الحسي، هل الجمال مرتبط بما تراه العين أن أنه متعلق بالوجدان والشعور؟هل هو قضية فردية خاصة أم أنه مسألة اجتماعية دينية؟ هل تذوقه متاح لجميع الفئات الاجتماعية والعمرية ولسائر الأجناس أم أنه حكر على فئة بعينها دون سواها؟.

تحيلنا هذه التساؤلات إلى مشكلة لا تقل صعوبة واستشكالا ألا وهي طبيعة الأعمال الفنية، وقد ساد النقاش طيلة تاريخ الفلسفة حول الأعمال الفنية، هل هي مجرد نسخة للطبيعة، أم تقليد ومحاكاة لها؟أم أنها نتاج الخيال والإبداع والعبقرية؟، وهي تساؤلات أثارت الكثير من الجدل، وأفرزت مذاهب وتيارات فنية متباينة ومختلفة، غير أنها حاولت أن تغطي الإبداع الفني من سائر جوانبه.

والحديث عن طبيعة الجمال وآليات العمل الفني، يدفع كذلك إلى الحديث عن التقنية المعاصرة، وتطور وسائل الإعلام والاتصال، وتداعيات العولمة وتأثيراتها على الإنسان المعاصر، وبالتالي انعكاس ذلك كله على ميدان الأعمال الفنية، وتحديد معايير الجمالية لديه، أين أصبحت الآلة اليوم قادرة على إنتاج أعمال فنية تضاهي في جماليتها ما ينتجه الفنان، وربما تكون أكثر جمالية، خصوصا في مجال السينما والمسرح والإنتاج التلفزيوني، أين أصبح الاعتماد على تقنيات جديدة أضفت جمالية أكثر على الإنتاج والعمل الفني.

وبدخول العمل الفني عالم المال والأعمال، أصبح الحديث عن مقولة “الفن من أجل الفن”، في سعي للتخلص من الطابع المادي النفعي التجاري الذي لحق بالأعمال الفنية، وربط العمل الفني برسالة سامية تجعله غاية في ذاته بتعبير كانط، أو تجعله أداة لتخليص الإنسان المعاصر من أصنام المادة التي روجت لها الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ومتعدية الحدود، والتي جعلت سعادة الإنسان وجمالية حياته في مدى قدرته على امتلاك مت تنتجه تلك الشركات من أدوات الراحة والرفاهية كجهاز الإعلام الآلي، والهاتف النقال، والربط بوسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها.

هذا يعني من الناحية الاستطيقية أن الإنسان المعاصر يعني استعمارا من نوع خاص وفي وضعية صعبة للغاية، سوف يلعب العمل الفني والفنان تحديدا دور المنقذ له منها، فيسعى الفن لتحرير الإنسان المعاصر من تلك القيود من خلال ممارسة عملية النقد، في وقت عجزت سائر المؤسسات الخاصة وحتى العمومية من الوقوف في مواجهة تسلط تلك الشركات، ليؤدي الفنان عملا أخلاقيا وبطوليا لفي الوقت ذاته، لنعيد ربط الفن بالأخلاق ونتجاوز فترة الفصل بينهما التي كان قد دعا إليها كانط في وقت سابق .

وإذا كانت الأشياء تعرف بأضدادها، وبتعبير طه حسين:”فالجمال لا يستقيم إلا إذا جاوره القبح، والنعيم لا يكمل إلا إذا جاوره الجحيم..[1]، فإن الاتجاهات الفلسفية الكبرى، منذ الفلسفة اليونانية وقبلها الحضارات الشرقية، إلى الفلسفة المعاصرة وخاصة مدرسة فرانكفورت، حاولت وضع أسس عامة ومعايير محددة للعمل الفني من جهة، وشروط أخرى للجمال وطبيعته وأصله وقيمته، واختلفت المواقف إلى حد التناقض من حيث أن الاختلاف سمة العمل الفلسفي .

ولم يغفل العقل الفلسفي في المجال فني مشكلة الإبداع الفني، فقد نالت هذه المشكلة حيزا غير يسير من أبحاثهم، واتسقت مواقف كل فيلسوف مع المدرسة التي ينتمي إليها ويتبنى أفكارها، فقد ربط الفلاسفة المثالية الإبداع بالعالم المفارق للطبيعة الحسية والعالم الواقعي، وجعلوا عالم الحس مجرد صورة لعالم الحق واليقين في المعرفة والجمال، وهو عالم المثل الذي قال به أفلاطون، الذي جعل من المحاكاة أسلوبا لبلوغ المطلق، ومن المفارقة أن جعلها مشروعة لجميع أصناف المفكرين، ودان الفنان باسمها.

تلميذه أرسطو لا يوافقه الرأي في كل ما ذهب إليه، فيعيد الشرعية للفن والفنانين باسم المحاكاة، غير أنها محاكاة من نوع آخر وليست مرتبطة بالضرورة بعالم ما وراء الطبيعة، ثم تتغير النظرة لاحقا في الفلسفة الحديثة، لتأخذ طابعا أكثر عمومية، فيربط هيجل العمل الفني بالمجتمع والدولة، ويجعل من الدين محاولة فنية أولى، ويخالفه كانط الرأي فيربط الفن بالنزاهة محددا له شروطا أربعة ليجعل منه عملا نزيها خالصا، ويدعو الفنان إلى تخليص الفن من قيوده التي لحقت به منذ العصور الوسطى الكنسية.

لتصل الدراسات الاستطيقية إلى مدرسة فرانكفورت، التي لعبت دورا أساسيا في تحديد معايير جديدة للجمال، ووضع آليات تجعل من الفن مخلصا للإنسان، لتخالف نظرة كانط السائدة قبل ذلك، التي نظر من خلالها إلى الفن على أنه أسير، في المقابل اعتبر أدورنو وهوركهايمر أن الإنسان المعاصر هو الحاصر والفن مخلصه، ليغدو الفن في عهد مدرسة فرانكفورت أكثر ارتباطا بالواقع، وأكثر إسهاما في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والجمالية.

ولكون الإنسان لا يحتاج فقط إلى العمال، فهو بحاجة كذلك إلى الفن، هذا الأخير الذي يمنح الروح التوازن اللازم لحياة متوازنة لا يمكن الحصول عليها بالعمل المادي فقط، لذلك كان اهتمام الفلاسفة كبيرا بهذا الميدان الذي لا يقل قيمة وأهمية عن سائر الميادين الحياتية الأخرى.

 

[1] طه حسين، ما وراء النهر، دار المعارف، القاهرة، ط3، ص26