تفصيل

  • الصفحات : 232 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-778-6.

المقدمة

نظرا للضرورة التي تفرضها طبيعة الوجود الإنساني بإلزامية الإحتكاك والتواصل، فقد لجأ الإنسان إلى إستعمال مختلف الوسائل المتاحة لديه من أجل تحقيق هذه الغاية. كانت الإنطلاقة الأولى أن إستعان بإحدى الرموز المنبهة كإستعمال الدخان كرمز للتحذير عن الخطر المحدق أو إستعمال الحمام الزاجل كوسيلة لبعث الرسائل المكتوبة أو إستعمال النقوش على الصخور والجدران كطريقة للتعبير عن الحضور والتعريف بوجوده وهويته.

ومع ظهور الطباعة فقد خطى الإنسان خطوة عملاقة لإرساء معالم مشروع تواصلي منقطع النظير مقارنة بالآليات التقليدية التي إعتاد عليها، فلقد هيأ هذا الإختراع لبزوغ عهد جديد في عالم الإتصالات، كان نتيجة ذلك ظهور الصحافة المكتوبة التي ساهمت بدورها في تنوير الرآي العام وتعزيز عالم الإتصال المكتوب. كما شهد المجتمع تغيرات جمة بفعل الآثار الناجمة عن الثورة الصناعية التي ساهمت في تزويد الأمم والمجتمعات بوسائل متطورة هيأت للأفراد فرصة التفاعل فيما بينهم. ومن أبرز هذه الوسائل، جهاز الراديو الذي يعتمد في بثه على الموجات “الهرتزية” ومن ثم جهاز التلفزيون الذي أضفى نوعية أكبر على الوسيلة السابقة، إذ أصبح الصوت مدعما بالصورة، وإعتبر التلفزيون حينذاك بمثابة القفزة النوعية والتقنية الأكثر تفوقا في تاريخ الإتصال.

وفي ظل التطور الهائل للتقنية وتطلعاتها اللامتناهية، فقد شهد العالم أيضا ميلاد الأقمار الصناعية وإختراعات متلاحقة أفرزت بدورها عن ميلاد جهاز “الكمبيوتر” ومن ثم شبكة “الأنترنت” كثمرة تزاوج بين مختلف التكنولوجيات، لتتوج بفضاء سيبراني يمكن المستخدم من التواصل مع الغير سواء كان فردا أو جماعة أو مؤسسة من خلال الرسائل النصية أو الصور أو الفيديوهات مع إمكانية التعليق عليها.

إننا اليوم ندخل في جدل تفاعلي مع عالم الفضاء المعلوماتي اللامحدود، وخاصة الواقع الإفتراضي الذي يصنعه هذا العالم. إنه عالم يفتح آفاقا جديدة لتحسين معيشة ملايين الأشخاص حول العالم، بغض النظر عن ثقافتهم أو أوضاعهم الإجتماعية والاقتصادية ويهدد في نفس الوقت التنوع الثري للثقافات العالمية، يهيء للنشء فرص معارف متنوعة وقد يعزلهم عن غنى الواقع الملموس وثراء التماس والتفاعل مع الحياة الحقيقية اليومية. ومع تبني العالم لفكرة تطوير ثقافة معلوماتية إفتراضية متجددة على المستوى العالمي، تتم إعادة نمذجة الخبرات البشرية في الثقافات المختلفة في مجالات المثل، الأخلاق، السلوك والجمال، ومع التوسع المفرط المتنامي للعالم الإفتراضي يتشظى الواقع الإجتماعي، ويواجه الجسم الإنساني والهوية الفردية عمليات تفتيت للمادي القابل للتحقق منه، مقابل خيالات تتلقى كل الدعم التقني اللازم لتكتسي بمصداقية دائمة التجدد.

وعليه ليس من قبيل المصادفة، أن تحتل إشكالية الهوية في مجتمع المعرفة مكانة رئيسية في الفكر الفلسفي المعاصر، وذلك تماشيا مع التطور العلمي والمعرفي الذي طرأ على إنسان القرن الواحد والعشرين، فغير هذا التطور جملة من المفاهيم الأساسية وأضفى عليها نزعة رقمية زعزع بها صرح اليقينيات وإستحدث معها ممارسات وسمات جديدة غيرت بدورها مفهوم الهوية، فإذا كنا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين نتحدث عن العولمة كشبح يهدد الهويات القومية، فإننا اليوم بصدد تغير آخر أو بالأحرى مفاعيل أخرى تشكل لنا هويتنا، لا يمكن إستيعابها دون فهم التحول الجذري الذي مس تاريخيا العلاقة بين القوة والمعرفة والسلطة، فهذا الثالوث أصبح عبارة عن ممارسة خفية تساهم في تشكيل وقولبة الهوية اليوم.

إننا إزاء مرحلة جديدة وهو ما يدفعنا إلى ضرورة صياغة جديدة للوعي وللفكر أمام عالم يتعولم ويتشظى ويتسارع في الإندماج، إلى درجة أننا لم نعد نفرق فيه بين هوية المركز والأطراف، حيث أن الثورة الإلكترونية التي تشهدها تقنيات الإتصال ومنظومات التواصل تسهم في تغيير خارطة العلاقة بالأشياء، حيث يدخل الرقم كعنصر جديد في إنتاج الحقائق وخلق الوقائع، جعلنا إزاء واقع مفتوح، يتعذر رسم حدوده بصورة نهائية. إنه واقع سيال ومتدفق، بقدر ما هو إفتراضي أو أثيري في مجتمع يسمى حينا بمجتمع الشبكة وحينا  بمجتمع المعلومات وحينا بمجتمع المعرفة، يؤسس لإنسان جديد أو فاعل بشري جديد، غير مشهد العالم وخرج به من الأطر القومية إلى الطوائف السيبرانية، ومن المثقف البارز أو الكاتب اللامع إلى النجم التلفزيوني والرجل الميديائي.

أصبح من المهم اليوم بل من الضروري أن نميط اللثام عن كل الطروحات التي تتحدث عن التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والكونية وتجاوزها إلى نوع آخر من الطرح، إلى نوع جديد من الهوية أخد في التشكل، ألا وهي الهوية الرقمية مادمنا أصبحنا نعيش اليوم في مجتمع جديد ألا وهو مجتمع الشبكات والمعلومات والانترنت. وفي سبيل تحليل هذه التحولات المعرفية التي طرأت على الهوية جاء كتابنا تحت عنوان مجتمع المعرفة وسؤال الهوية المنطلقات الدوافع والتأسيس. فإننا قد خصصنا الفصل الأول كمدخل للدلالات يعالج مفهوم كل من الهوية ومجتمع المعرفة، بإعتبارهما حجر زاوية أساسي بنيت عليه الأطروحة، كما سنتناول المنطلقات الفكرية والدوافع التي أدت إلى دراسة إشكالية الهوية اليوم، في عالم إعتباري إفتراضي متغيرعن العالم التقليدي الكلاسيكي الذي تعودنا عليه. حيث سنهتم وبصفة خاصة بمسألة إنتاج وإعادة إنتاج الواقع، وتضميناتها الإجتماعية والنفسية والأخلاقية وتأثيراتها العميقة في حياتنا اليومية. فإذا كان عالمنا المعاصر، عالم تفريخ، وتكاثر، وتضخم المعلومات والمعرفة فهذا لا يعني أنه يؤدي إلى نمو العقل البشري، وإتجاهه نحو سعادة البشر، ومن هذا المنطلق سنركز على الدور الذي يلعبه الإفتراضي في حياة الإنسان في مجتمع يتمتع بصفة السيلان الكامنة في عدم محافظته على شكله كلما ضغطنا عليه، وهكذا فإن العلاقات الإنسانية والإجتماعية هي علاقات سائلة، بمعنى أنها أصبحت لا تقاوم التغيرات الإجتماعية التي تطرأ عليها، فتصبح بذلك – العلاقات البشرية – هشة وفي حالة تغير مستمر، إلتزاماتها ظرفية، مرتبطة بالوضع الذي تعيشه، وقابلة للتغير كلما إستلزم ذلك. حيث أننا لن نفهم هذه العلاقات إلا إذا تخلينا عن مبدأ البنية structure، لتعويضه بمبدأ الشبكة réseau، إننا نعيش في عالم من المحاكاة والتزييف لا في عالم الواقع أو البنية الذي توارى عن أعيننا، ليحل محله عالم آخر “يحاكي” هذا الواقع، فالصورة التي تتكون للفرد عبر إستعمالاته المختلفة لحاسوبه ولمحركات البحث تكون هوية رقمية، فيمكن للشخص أن يظهر من خلال هويات رقمية متعددة، فيروج لنفسه بمعطيات مختلفة تصل إلى حد التناقض.

بوسعنا اليوم بفضل Bigdata أن نقدم أنفسنا كما نراها، أو كما نحب أن نراها عن طريق الهوية الرقمية التي نقدمها للآخرين عبر ما نكتبه، وما ننشره، وما نتبادله، وما نعبر عنه من مواقف شخصية أو عمومية، وبهذا فكل حركة داخل هذا الفضاء السيبرنطيقي تُكون لنا هوية خاصة، تجعل من إحتمال إنقطاع الأفراد الذين يعيشون في العالم الإفتراضي عن العالم الواقعي ممكنة، كما تفصلهم عن القيم والمعايير التي تربطهم بالمجموعات البشرية التي ينتمون إليها في الأصل.

في كتابنا هذا نهتم بجانبين أساسيين يتمثلان أولا في أطروحة مجتمع المعرفة ومآلات عصر الدخول إلى الشبكات، وثانيا إشكالية الهوية وسيالانها في هذا المجتمع.

أما المشكلة التي  تشغل  ذهن الكاتبة عبر مدارها هي: كيفية التأسيس اليوم لخطاب الهوية بعيدا عن المرتكزات التقليدية في مجتمع للمعرفة، في خضم المتغيرات التكنولوجية  التي تكشف عن صياغة جديدة للتاريخ العالمي بتوسط الإفتراضي؛ معتمدين في طرحنا هذا على  الأبعاد الفلسفية والأسس المعرفية التي ينبني عليها مجتمع المعرفة ولماذا يعد سؤال الهوية مطلب ضروري ومُلح أمام مفترق الرقمي؟