تفصيل

  • الصفحات : 191 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،
  • ردمك : 978-9931-08-895-0.

مقدمة

تهدف السياسة الجنائية في الكثير من البلدان والمجتمعات إلى محاولة تحقيق الاستقرار للمجتمع، وتوفير الأمن لأفراده، ذلك أنه كلما زاد الاهتمام ببيئة السجن وتكيف النزيل معها إيجابيا من شأنه أن يكون من المؤشرات الدالة على مدى استيعاب المجتمع للفرد المنحرف، والسعي لإعادة تربيته وإدماجه في الوسط الاجتماعي كفرد فاعل له دوره ومكانته، هذه كلها تمثل محاولات جادة تبذلها المجتمعات في تمكين مؤسسات السجون من أداء أدوراها في عملية التأهيل والإدماج، اعتبارا من كون أن السجون تشكل إحدى المؤسسات الاجتماعية المتخصصة والهادفة إلى إعادة التنشئة والتأهيل الاجتماعي للأفراد الخارجين عن القانون الجمعي، ومن أكثرها فاعلية في ضمان أمنه، وطمأنينته، ومحافظته على كيانه واستمراريته ووجوده.

إن حماية الفرد المنحرف أو الخارج عن القانون، دفع بالمجتمع إلى تبني جملة من الإجراءات التي توفي بأغراض السياسة الجنائية المعاصرة، بغية الوقوف على إمكانيات المجتمع الإصلاحية والعلاجية، وتحديد نوعية مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية، ومدى كفاءتها في استيعاب هؤلاء الخارجين عن نظمه، أو المتمردين على عاداته وقيمه، وما تقدمه تلك المؤسسات من خدمات لإعطائهم الفرص المتلاحقة للتكيف مع قوانينه، وفتحها لأبواب الرزق أمامهم، وتأهيلهم مهنيا وحرفيا، بالإضافة إلى إتاحتها لفرص التعامل معهم في شتى المجالات والأنشطة الاجتماعية والإنتاجية اليومية، التي تهدف إلى تشجيعهم على إصلاح أنفسهم.

يؤكد غالبية المشرعين ورجال القانون والمربين والمصلحين الاجتماعيين وحتى رجال الشرطة على أن أهداف السجون وجدواها من الوجود يتعين في إصلاح المدانين، وتمكين المحكوم عليه من إعادة ثقته بنفسه، والاعتداد بذاته، وتحمل المسؤولية، والميل إلى العمل، والاعتياد عليه لكسب العيش بعد الإفراج عنه، وبالتالي تتخلص السجون من اسمها التقليدي (المؤسسات العقابية) وتتحول إلى مؤسسات إعادة التربية والتنشئة الاجتماعية والتربوية (مؤسسات إصلاحية) والتأهيل، وذلك ببحث حالة النزلاء الاجتماعية، والنفسية، والصحية، والتعليمية، والمهنية، والتهذيبية داخل السجون، وسعي المؤسسات إلى تأهيل المحكوم عليهم، والعمل على إعادة إدماجهم في الحياة الاجتماعية كأفراد عاديين.

لقد كان السجن يمثل أحد الأساليب التي كانت تعرف بالعقوبات، على رغم أن عقوبة الحبس أو السجن لم تكن معروفة لدى المجتمعات البدائية، وكانت تطبق على نطاق ضيق جدا لدى الإغريق، مما يعني أن استخدام الحبس كعقوبة على جرائم بذاتها يعد وسيلة حديثة نسبيا، وإن كانت جذورها تمتد إلى المجتمعات الأولى، فقد استخدمت الكنيسة عقوبة الحبس خلال القرن الثالث عشر وحتى النصف الأول من القرن الثامن عشر، وكانت تستخدم العنابر السفلى في السفن كسجن يودع فيه المذنبون لأداء بعض الأعمال، كما وقد شهدت نظم السجون في القرن الثامن عشر تطورا ملموسا تحت تأثير كتابات العديد من الإصلاحيين الذين نادوا ببعض الإصلاحات المتعلقة بنظام العمل، والرعاية الصحية، والتهوية والزيارات، والتغذية، وضرورة العزل بين المسجونين مع توفير برنامج ديني تهذيبي، وبعدما كان الهدف من إيداع المحكوم عليهم السجن هو إيلام النزيل وسلب حريته، أصبح اليوم للسجن غاية أخرى لها جوانب عدة من الأغراض العقابية والإنسانية منها، والتهذيبية، أو الإصلاحية التي تتمثل في عملية التأهيل.

كما كان اهتمام الدارسين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين لعلم السجون وكل ما يتعلق بالسجناء وتطورت النظم الجنائية بشكل أكثر نضجا ووعيا خاصة منها ما تعلق بحقوق الإنسان، وأصبح هناك اهتمام أكبر ببحث قضايا السجن والسجناء حتى ألزم مؤسسات السجون عملية التأهيل التي تسعى إلى مساعدة المحكوم عليهم في تحسين مستوى التفكير لديهم، وتنمية مواهبهم وقدراتهم، وتمكينهم من الحياة، والعمل على تكييفهم وإدماجهم في المجتمع، وفق خطط وبرامج وتدابير تجعل من المؤسسة (مؤسسة السجن) أن تتعامل مع النزيل بطريقة تشعره بالاطمئنان والثقة، عن طريق ملاحظة سلوكه أثناء مشاركته في مختلف النشاطات التعليمية أو المهنية أو الترويحية وغيرها، وكذلك بواسطة الفحوص الاجتماعية والطبية والنفسية.

وإذا كان من الثابت حتى الآن، أن السجون لم تستطع تحقيق رسالتها في إصلاح المسجونين بالقدر المنتظر منها، فإن أمرها في ذلك يعتبر هينا، لأن السجون لم تفتح أصلا للتهذيب، إنما فتحت للعقاب حسب نظرة البعض، من هنا أرتبط مفهوم إعادة التربية بمفهوم السجن، الذي هو الآخر مرادف لمفهوم الحبس، كما عبر عن ذلك الباحث الفرنسي –جون شازال- عندما تحدث عن إعادة تربية الأحداث الجانحين بقوله أن دور هذه المؤسسات “لا تعني فقط إعادة تكييفه مع الحياة الاجتماعية بتربية أنماط سلوكية معينة عنده، ولكن –وفي حدود الممكن- أن ندمجه في المجتمع بتشجيع تفتحه ونموه، وبإثارة مظاهر الوعي لديه، وبجعله يعيش المواقف بشكل حي. وهو بقدر ما يعي نفسه ومكانته في المجتمع بقدر ما يرتفع تدريجيا إلى وضعه الإنساني. فيرفض، أو يختار، أو ينتمي. أي يصبح بالاختصار، مسئولا”، وحتى تحقق هذا الهدف حسبه أضاف –شازال- بأن “هذه المراكز، وبعد أن عززت بالمربين المختصين، ووضعت بإشراف تقنيين في علم النفس التربوي وفي التحليل النفسي الطفولي والعصبي، توفر للفتى الجانح، عموما إطارا من الحياة العائلية الحرة، المنفتحة باتساع على العالم الخارجي، إطارا يمكن أن تطبق في أرجائه الطرائق المعتمدة على الثقة، والمراقبة الذاتية، والتربية الحديثة، ولا يستبعد الاعتماد اللجوء إلى قيم التربية الجماعية”، وهو العمل المنوط بمؤسسات السجون حتى تحقيق غايتها في العمل على مواجهة السلوك الإجرامي، وعلاج المنحرفين، باعتبارها مؤسسات ليست عقابية بقدر ما هي مؤسسات إصلاح وتقويم للمجرمين، وهذا الاعتبار الذي يصنف السجون كمؤسسات للتأهيل والعلاج لم يكن من قبل، وإنما جاء بعد مراحل، لتحل بذلك “فكرة التهذيب والإصلاح محل فكرة الإهانة والانتقام، وتجاوزت رسالة السجن عن حد وقاية المجتمع من الخارجين على نظمه، إلى المساهمة إيجابيا في تقدم المجتمع بتخريج أكبر عدد ممكن من نزلائه إلى الحياة الاجتماعية مهيئين مهنيا وثقافيا واجتماعيا، وصالحين جسميا وعقليا، لاستعادة أماكنهم في عملية الإنتاج في المجتمع”، وهو ما يفسر الاتجاه بمعنى السجن إلى “الحرمان من الحرية، لكن دون حرمان النزيل من حقه في التعليم، والتكوين، والحق في الرعاية، وتحسين مستوى الاحتجاز، بعيدا عن ضروب التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية المهينة، وهو ما تحرص عليه القواعد الدنيا لمعاملة السجناء للأمم المتحدة (1955)”، وبهذا لا فرق بين مؤسسة إعادة التربية والمؤسسة الإصلاحية في التسمية، ذلك أن مراكز إعادة التربية لم تكن سوى بيوتا للإصلاح والتقويم كما عبر عن ذلك السيد رمضان عندما تحدث عن تحول دور السجن من العقاب إلى الإصلاح وأنه “لم يصبح الغرض من إرسال السجين إلى السجن القضاء عليه أو الانتقام منه، وإنما إبعاده عن المجتمع فترة يشعر فيها بالندم، ويعاد علاجه وتأهيله للتعاون مع المجتمع تعاونا مثمرا بناءا”، ومن هذا تصبح مؤسسة إعادة التربية مؤسسة علاج، ورعاية، وتأهيل، وإدماج، وهو ما قد يدفعنا إلى تكرار تسمية المؤسسات العقابية والإصلاحية بشكل دائم خلال هذه الكتاب وذلك إيمانا منا بالدور العقابي والإصلاحي في نفس الوقت لمؤسسات السجون.