تفصيل

  • الصفحات : 245 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2024،
  • الغلاف : غلاف مقوى،
  • الطباعة : الأولى ،
  • لون الطباعة :أسود،

تقديم

لقد صار من المسلمات البديهية التأكيد بالقول و الحجّة على مدى تعقّد مجال المناهج الأدبية المعاصرة – النسقية- لأسباب متداخلة كثيرة مما يستدعي بضرورة تفصيل المادة العلمية بمؤلفات تجعل سبيل ولوج أغوارها في متناول المهتمين بتطبيق المناهج النقدية في مقاربة النصوص الأدبية، وتأخذ بأيدهم لفهم ما استغلق من نظرياتها ومصطلحاتها ومنهجياتها، لأنها تستند في نشأتها لمرجعيات فلسفية وخلفيات ابستمولوجية بعيدا عن مناخ التربة الفكرية التي ترعرع فيها قراء لغة الضاد، هذ من جهة، و من جهة أخرى فمعظم هذه المناهج وفدت إلينا عن طريق الترجمة حينا و التعريب والنقل من الثقافة الغربية في أحيان كثيرة وهذا، في حد ذاته، كان سببا عائقا في إدراك مفاهيم هذه النظريات و استيعاب مناهجها   وكما يقول الناقد الجزائري “بختي بن عودة” تؤرق وجودنا و تخلق مناطق غير آمنة ثقافيا داخلنا! وقد رأيت أن استهل هذه الكتاب بمقال مركز يكون بمثابة مهاد نظري عن أهمية المنهج والمنهجية وفعالية النقد حتى يكتمل المشهد المنهجي والواقعي معا في خطاطة مقتضبة.

وعليه ارتأيت جاهدا في هذا العمل المتواضع، “مناهج النقد الأدبي”- قراءة في المفاهيم ومساءلة الوعي المعرفي- بما أملك من تجربة في سلك التدريس، وعبر قراءات معمقة في بطون الكتب والمؤلفات العربية والغربية، أن أضع بين أيدي القراء الأعزاء خلاصة تجربتي عن مناهج النقد في شكل مؤلَف يستقصي المفاهيم و يروم صياغة وعي معرفي بالمنهج يكون زادا فكريا ومعينا أدبيا يرفد تجربتهم في التغلب على بعض اشكالات المنهج في الفهم الإدراك، وأنا واثق من أن هذه المحاولة سوف تكون إضافة جادة في درب المعرفة ولبنة مهمة في صرح مؤسسة النقد الأدبي ومناهجه المتفرعة. إذن فنحن بالتفكير نعي الأشياء كأشكال ذات أبعاد ونتعرف على خواصها الجوهرية وباختصار ينبهنا لنعي العمل الفني كاستراتيجية وليس كانعكاس للواقع. والحياة بلا وعي تبدو كأنها لم تكن أبدًا. وقد وجد الفن ليجعل المرء يشعر بالأشياء فالفن يتخذ من الواقع اليومي كمادة خام ويعيد صياغته وفق استراتبجية يتمازج فيها الذاتي بالموضوعي والحقيقي بالخيالي… وعلى هذه الشاكلة تتم عملية الوعي في إدراك حقيقة الشيء ورسم أفق التصور تجاهه.

خلاصة التجربة هي في الأصل مجموعة المناهج التي تكاثرت في الساحة الأدبية العربية وخصوصا في الوسط الجامعي يجمعها محور التدرج المنطقي في عرض المادة العلمية في قاعة الدرس ومدرجات الجامعة، وهي تتوخى اثارة الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة لأن السؤال بحث دائم وقلق مستمر في  التنقيب خلف الكلمات والعبارات عكس الجواب الذي هو استسلام آمن للحقيقة واقتناع نسبي بضرورة الاكتفاء والانكفاء. ثقافة الأسئلة في مواجهة ثقافة الأجوبة، هي ثقافة الشك بدلا من ثقافة اليقين، ثقافة البحث، و ثقافة التطلع إلى الوقائع في مضانها و في الأبعد مما يرتكز عليه المنهج النقدي الوافد! بحثا عن البقعة المنيرة التي تفتح له باب القبول عند القراء والطلبة.

لقد باشرت هذا المشروع منطلقا من طرح اشكالية، بل مجموعة من الاشكالات لعل أكثرها حضورا في هذا النصوص والخطابات وخصوصا الأدبية منها، ثم اتبعتها بمحاولة الإجابة عن اشكالات أخر من قبيل، ما هي الآلية المطبقة في مواجهة النّص الأدبي وفق منهج المحايثة، وما هي النتائج المترتبة عن هذه الدراسات في واقعنا الجامعي والمعرفي والمشهد التعليمي ككل؟ وأول ما شرعت به هو بحث اشكالية المنهج أو المنهجية في علاقاتها بالمناهج النقدية في شكل مساءلة تناولت المناهج النقدية المختلفة في إحاطة وشمول بما لها وما عليها دون تعصب لفكرة أو مذهب، ومنه نعي أن جديد الحياة الثقافية لا يتوقف ولا ينضب، ولا يهدم القديم ولا يحل مكانه، فنحن نجدد ولكن لا نتنكر لتراثنا، ونتطلع إلى المستقبل ولا نهدم ماضينا، وقد أختلف مع البعض ولكن يبقى الأصل والجوهر دوما أشرف من الفرع. من هذا المنطلق في التصور أرفع هذا العمل للقراء والمهتمين من ذوي الحاجة إلى الاستزادة من معين المناهج النقدية المعاصرة في تجلياتها الفكرية والأدبية.

وإنه لعمل متواضع بيد أنه جليل الفائدة لأنه يقدم علما خالصا، في حيّاد دقيق، ينأى بنفسه عن التعصب لمذهب أو فكرة أو جماعة أو مدرسة، وأنا مدرك عن وعي تام بما قدمت، ووقفت جهدي على النظريات التي تؤسس أرضية ابستيمولوجية لهذه المناهج التي تشعبت بين ما هو سياقي وما هو نسقي. وأيَا يكن الأمر فإنه يبقى على مسافة موضوعية بين الأطراف المختلفة، فهي لا تصنع الثقافة، ولكنها منبر لاحتضان النص ونقد النص معا.

إن عملي في هذه المؤلف كان لذيذا وممتعا، ومع ذلك لا أزعم أنّه كان سهلا، خصوصا وأن مضمون الكتاب يطرق باب المناهج المعاصرة التي وصلت إلينا- نحن العرب- عن طريق المثاقفة نقلا وترجمة وتعريبا إذن فلا ضير أن نجد في متنها بعض التناقض في الرؤى والتصورات مما يخلّ بالنمو الطبيعي للمناهج في صورتها النظرية وحتى الإجرائية. وقد اجتهدت في كل منهج أن أحدد طبيعته  الاصطلاحية ثم أعرّج بحثا و تنقيبا وراء خلفيته الابستيمولوجية و الفلسفية والفنية لأقف على المنابع الأولى التي أنبثق عنها ثم أعدّد خصائصه التي يتباين فيها عن غيره من المناهج، و قد تسلحت بمنهجية الباحث الأكاديمي في لغتي الوصفية التي ابتعدت فيها قدر المستطاع عن الذاتية، حيث حاولت التبسيط ما استطعت و توخيت الحذر أحذف ما يسبب الالتباس و يشتت الفكر، وأقيد فقط ما يعود بالفائدة على القراء والباحثين، وأُخضِع الشاذ للقاعدة وأصرف الكلمات كما يجب، وقديما قال شاعرنا أبو تمام: “علينا أن نقول و عليكم أن تتأولوا” لكي أكون موضوعيا في الطرح و التحليل، ومن هنا كانت صعوبتها. وحسب هذا الصفحات أن تكون دليلا للقارئ كي يبحر في تعميق المعرفة وضبط منهجه نحو الأفق الفكري والثقافي دون شعور بالغربة أو الحيرة، لأن حركة الحياة من حولنا تمضي على هذا النسف، والحياة علمتنا أن “النهر دوما يسير إلى الأمام”.

وقد حافظت على أصول هذه المناهج في طبعتها الغربية كما وصلت إلينا دون زيادة أو نقصان، اللهم ما كان من بعض النقد الموجه هنا أو هنا، لهذه النظرية أو ذلك الرأي بغية إثراء الموضوع والمنهج لتعمّ الفائدة وحتى تكتمل صورة المشهد النقدي في واقعنا العربي. ولست من الذين يبخسون الناس أقدارهم أقول هذا لأني استفدت كثيرا من مناقشات الطلبة في عرض هذه المناهج في قاعات الدرس، ولأجل ذلك زادته بسطة في التوسع والشمول والدقة. وقد عملت على تصويب بعض الأخطاء التي وقع فيها نقادنا في حمى ترجمة المصطلحات من مضانها الأجنبية بالاستعانة بالقواميس الأجنبية وخبرة بعض زملائي الاساتذة فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي.

لم يكن هدفي أن أحجر على رأى الطلبة بتعليق أو تفسير أو اعتراض، وأوردت معظم أسماء النقاد الأعلام بلغتهم الأصلية صرفا لركاكة النطق عند الطلبة، كذلك ذيلت بعض المصطلحات بالشرح والتفسير في الهامش تسهيلا وتيسيرا للطلبة على الفهم وخاصة ما تعلق ببعض المصطلحات اللسانية والفلسفية التي لها حضور كثيف في المشهد النقدي والمنجز الفكري الحداثي، تسهيلا للقارئ غير المتمكن مع ما في ذلك من مجازفة وعناء لأن الهوامش تجئ أحيانا في لغات عديدة، لاسيما الإنجليزية والفرنسية. من هنا تأتي أهمية هذه الكتاب فيما تقدمه للقارئ، في عرضه المتنوع لأهم مناهج الحداثة كالبنيوية والبنيوية التكوينية، والأسلوبية، والنقد السوسيولوجي، ومناهج ما بعد الحدثة كالسميائية والنقد الثقافي ونظرية القراءة والتلقي والتفكيكية وغيرها من المناهج النقدية التي تعجّ بها الساحة الثقافية العالمية والعربية، مستعينا بخطاب نقدي رصين ودقيق، شارحا مرتكزاتها التاريخية والفلسفية والفكرية، وموضحا أسس مقارباتها للنصوص والأعمال الأدبية و المفاهيم التي ابتدعتها ثم صوّغتها للشرح والتفسير والتفكيك، بالإضافة إلى ما طرأ عليها من مستجدات، فقد تناولت كل منهج من هذه المناهج ضمن إطاره المعرفي وسياقه الايديولوجي، وشرطه الثقافي، وقد كانت حجتي في ذلك أن الفلسفة في مختلف مشاربها وتفرعاتها تنبني على اشتغال أساسي ومركزي، يتمثل في توجيه الفلاسفة صوب التدرب على المفهوم باعتباره أسّه الخالص، مما حدا بالفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إلى اعتبار وظيفة الفلسفة الجوهرية هي صناعة المفاهيم بالنظر إلى باقي العلوم التي تشتغل على مواضيع محددة، دون أن تولي اهتماما لهذه المنطقة المظلمة من الدراسة. قدمت كل ذلك بأسلوب تربوي تعليمي ينأى عن الغموض والاضطراب لا يتزمت في عرض هذا المنهج أو ذاك، ولا يتوانى في عرض بعض المثالب والإشارات إلى التطور الحاصل في بعض المفاهيم وما طرأ عليها من مستجدات. وحتى تكتمل الفائدة ويتحقق المراد ذيلت بعض المصطلحات اللسانية أو العلمية أو الفلسفية بشروح وافية في الهوامش تيسيرا للقارئ ولا سيما الطالب الجامعي الدارس للنقد ومناهجه وفي ذلك يكمن المبتغى.

وبعد فبين يدي الطالب والقارئ جهدُ فردٍ، يأمل أن يكون لبنة صغيرة في صرح النقد العربي، وذلك سبيلنا لنطلع ما عندنا من تراث وما نستقده من ثقافة، ويستطيع القرّاء أن يفيدوا من أرائه، لكي يشرعوا في أبحاثهم، مع فهم عميق لوظيفة البحث، حول أي جانب من جوانب مناهج النقد الحداثية، وبعد ذلك كله فليست غايتنا أن نقدم نظرية إجمالية عن المناهج النقدية – ولو أننا قدمنا هذا عابرين- وإنما أن نقدم لهم المفاتيح كي يدخلوا الأدب والنقد من الأبواب الشاسعة، وقد وضَحَتْ مقولة العالم لألماني “هانس انسسبيرغر” القصدَ من هذا المؤلف، “علينا أن نرمي الأحجار في البرك الآسنة لتحريكها“. فالحاجة إلى معرفة النظرية وفهمها هي حاجة إلى معرفة موضوع المعرفة من حيث هو دلالة على كل.