تفصيل
- الصفحات : 274 صفحة،
- سنة الطباعة : 2024،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى ،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-852-3.
يقول الاستراتيجي الصيني سان تزو في كتابه فن الحرب: “ان أعظم درجات المهارة هي تحطيم مقاومة العدو دون قتال”، فالروح المعنوية للجيوش كانت ولازالت هي الهدف ان اردت ان تكسب الصراع، وان كانت العدة والعتاد وما يصاحبه من امداد وتنظيم وتدريب ذات أهمية بالغة في الحروب على مر التاريخ وكان الأثر في تطور اشكال الحروب والصراعات، لكن العنصر الأهم عند الدراسة التاريخ العسكري هو تلك الروح التي يحاول كل طرف بنائها داخل جيشها وتدميرها لدى عدوه، فالجندي المدجج بالأسلحة وتنعدم لديه الرغبة في القتال لن يكون له أي قيمة مضافة.
ومن اللافت انه وعبر كل العصور من الممالك والامبراطوريات القديمة بسيوفها ورماحها والى عصرنا الراهن بتكنولوجيته ورقميته كان الرهان القائم على كيفية تطويع تلك الرغبة وتعظيم تلك الروح لتحقيق غايات الحرب، فالجانب النفسي هو بعد مهم وعنصر لابد منه في ميادين الصراع، حيث ان الاستغلال الأمثل له يساهم في سرعة حسم المعركة بأقل الخسائر المادية والبشرية كما أشار الى ذلك ليدل هارت في نظريته حول الحرب الكاملة بان العنصر الأهم هو خلخلة روح العدو وتوازنه النفسي والعقلي الذي يؤدي في نهاية المطاف الى عدم رغبة جنوده في القتال.
لذلك فان السؤال الأهم الذي دار في ذهن كل قائد عسكري هو “كيف يمكنك امتلاك القدرة للسيطرة واخضاع الآخرين؟، فاستخدام الحرب العسكرية التقليدية باعتبارها عنف منظم قد يوفر سبيلا الى ذلك، لكن فعاليتها تبقى قصيرة الأمد قد تتداعى في أي لحظة، لذلك حاولت كل الحضارات تنفيذ وتطوير استراتيجيات تكفل لها تحقيق هدف السيطرة طويلة الأمد، ولعل هذا ما ساهم في تطور أساليب الحرب واستراتيجيات المواجهة والقتال. كما ان بعض تلك الاستراتيجيات انتقلت مفاهيمها لتنفذ في ميدان السياسة وفن الرياسة والقيادة. ومن أهم تلك المفاهيم “الحرب النفسية”، فهي لا تتناسب فقط مع المفاهيم المعروفة للحرب التي معناها مواجهة العدو، بل تتعدى ذلك لتشمل أهمية بالغة تتعلق بمجالات تنفيذها، ذلك انها تتعدى لتشمل كل التفاعلات البشرية والسياسية، ويرجع ذلك الى طبيعة أدواتها ومهمتها، وان راجعنا تاريخ استخدمها نجد ان منفذها قد يستتر ويخفي هويته في معظم الأحيان ويتنكر في زي صوت مقبول ومسموع “الوطن، الله، الناصح، الاعلام الصديق…”.
هذه الأهمية البالغة للجوانب النفسية تغيرت النظرة لها نتيجة الطفرات التي حدثت في بعض الميادين التي لها علاقة بها، ونقصد بها هنا الطفرة الأولى التي حدثت للعلوم الاجتماعية عموما ولمدارس علم النفس والدراسات السلوكية نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين وبالخصوص بالفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي نقلت المفهوم من الروح المعنوية الى ان أصبحت تسمى بالدعاية ثم اصبحت فرعا عسكريا قائما يسمى بالحرب النفسية، أما الطفرة الثانية التي كان لها الأثر الأبلغ هو التغير في استراتيجيات هذه الحرب النفسية واستعمالاتها بالتغير الذي حصل لطبيعة الحرب وشكلها وطبيعة أطرافها، فان كانت الحروب التقليدية بين الجيوش النظامية تعمل بالتوازي مع العمل العسكري المباشر، ولكن مع الثورة التكنولوجية والرقمية والتغير على بنية النظام الدولي التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة وما تلاها من احداث افرز شكلا جديدا من التهديدات تحمل ميزة “اللاتماثلية” وأصبحت الحرب “حربا هجينة” نتيجة التغير في طبيعة وشكل العدو، لذلك اصبح في الإمكان للحرب النفسية ان تكون هي الاستراتيجية الأساسية (شاملة) في بعض الصراعات والعمل العسكري مجرد عمل مرافق يحمل طبيعة إتمام العمل النفسي.
انطلاقا من هذا المفهوم الشامل وادراكا من صانعي السياسات والاستراتيجيات لهذه الأهمية للقدرات النفسية، صعدت الدول من أهميتها واعتبرت من ركائز القوة الشاملة للدولة وركنا من اركان الأمن القومي وذلك بدمج هذه القدرات مع القدرات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، فأهمية القدرات النفسية لا يعني بالضرورة استغلالها في جوانب الصراع ومواجهة العدو، بل تكمن الأهمية الحقيقية لها في انها قد يستهدف بها الحليف او المحايد، بما يخدم الهدف الأسمى للدولة خصوصا لدى القوى العالمية الكبرى. ولعل اهم تلك القوى الكبرى هي الولايات المتحدة فالاستراتيجية الامريكية العسكرية وما تعلق باستراتيجيات الامن القومي تعتبر مرجعا لكثير من الدول، ويرجع ذلمك الى المكانة التي حصلتها الولايات المتحدة بخروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية (عسكريا واقتصاديا..)، وترادفت هذه المكانة مع القدرة على التأثير في استراتيجيات ومفاهيم وقدرات الدول الأخرى، بما يخلق دينامية تغير وتعدل طبيعة علاقات القوة ضمن البيئة الدولية.
هذه المكانة التي مرادفا وتعريفا للقوة العسكرية الامريكية، حتم عليها ان تسعى لتطوير استراتيجياتها العسكرية والاقتصادية من اجل الحفاظ على مكتسباتها التي توصف بانها من ضروريات أمنها القومي، هذا المعيار الجديد أصبح هو جوهر علاقتها مع كافة مكونات المجتمع الدولي وعقيدة للتعامل مع الجميع بغض الطرف وعن طبيعة العلاقة التي تجمعها بهم حلفاءً كانوا ام اعداء. لذلك فان المتتبع لتطور العقيدة الامريكية خصوصا في شقها العسكري سيرى انها في تحديث وتطوير مستمر، من اجل ان تتلاءم مع طبيعة التهديدات واشكالها ومداها. او لاستغلال القفزات التكنولوجية والاختراعات والبحوث العلمية.
كما ان طبيعة التهديدات وطبيعة الصراعات اختلفت مع ما مكان عليه الحال ابان الحرب العالمية الثانية، بداية من حروب وازمات الحرب الباردة (فيتنام، كوريا، نيكاراغوا….)، وتغير طبيعة العدو الذي أمسي مزيجا من حرب العصابات والقوات نظامية لدول تتصارع ايدولوجيا، ما استدعى ان تكون أدوات الحرب النفسية هي أداة التأثير الاساسية والعنصر الأهم في هذه العقيدة.
وقد مس الحرب النفسية على اعتبارها من مكونات هذه العقيدة ما مس هذه العقيدة من تطور وتحديث او حتى إعادة صياغة، ذلك ان الحرب النفسية ليست وليدة اللحظة في الاستراتيجية الأمريكية بل ان تاريخها يتعدى الحرب العالمية الثانية، لذا وجب محاولة الإحاطة بالسردية التاريخية لمكانتها واستعمالاتها، في تاريخ الحروب الصراعات الأمريكية، كما الاستراتيجيات والتكتيكات التي من شانها ان تتوافق مع أي تحديث او تطوير، يجب عليها كذلك ان تترافق مع بنيات وهياكل مؤسسية تسهم في خلق ووضع الاستراتيجية والخطط وتطوير التكتيكات الملائمة.