تفصيل
- الصفحات : 314 صفحة،
- سنة الطباعة : 2023،
- الغلاف : غلاف مقوى ،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-696-3.
الحديث عن سؤال القيمة مع بداية الألفية الثالثة، هو حديث عن واقع ومكانة الإنسان بمحدداته الأنطولوجية والأخلاقية الجمالية والدينية؛ هو حديث عن مكانة الفن والأخلاق والدين في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي والثورات العلمية في مجال الأبحاث والدراسات العصبية وعلوم المعرفة التي تزودنا وباستمرار بمعايير للنظر في القيم التي آمن بها الإنسان وما يزال يؤمن بها في حدود تضيق وتتسع، معايير اختبار معرفة المعرفة بمعنى الوقوف على الآليات التي اعتمدت في كل من السوسيولوجيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا لقراءة الأرشيف القيمي للإنسانية، من هنا تجدد الاهتمام بسؤال القيمة في أبعاده الجمالية والأخلاقية والدينية، اهتمام من شأنه أن يثري النقاش حول واقع ومستقبل الأكسيولوجيا.
قادني البحث في إشكالية القيمة عند الفيلسوف لافيلLavelle، إلى معاينة مفاتيح استشكال سؤال القيمة في الفكر الغربي الفلسفي منه والعلمي، ذلك أن لافيل الذي يعد من المنظرين للأكسيولوجيا في النصف الأول من القرن العشرين، قد حدد بالإضافة إلى تداولية القيمة ومجالاتها، معايير اختبار طرائق التعاطي مع سؤال القيمة في أبعاده الأنطولوجية والحيوية وحتى الميتافيزيقية، كما هو بيّن في مصنفه “مبحث القيم” في جزأين، ومصنف “السيكولوجيا والروحانية” الذي ناقش فيه ميثودولوجيا وإبستمولوجيا نظرية التحليل النفسي مع مؤسسها سيغموند فرويد.
يهدف كتاب “سؤال القيمة دراسة نقدية لآليات التشخيص في التحليل النفسي“ والذي جاء في جزأين، إلى الوقوف على أهم المفاتيح التي تعين على استشكال سؤال القيمة في التحليل النفسي، إذ ليس الغرض المتوخى الوقوف على حقائق بقدر ما هو تزويد المشتغلين على موضوع القيمة بالآليات الإبستمولوجية والميثودووجية التي اعتمدتها مختلف التيارات المنضوية تحت التحليل النفسي في رصدها لموضوع القيمة في مختلف أبعادها الجمالية والأخلاقية والدينية؛ ولأن المعرفة العلمية الأكاديمية هي بالأساس معرفة تراكمية، يبقى الأمل معقودا في أن يجد الباحث في هذه الدراسة ما يعينه على متابعة النقاش القيمي وتطور مواقف المحللين النفسانيين من موضوع القيمة.
إن دراسة منطق الثورات العلمية خاصة فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، وانعكاسات تطبيقاتها في تحديد طبيعة القيم الإنسانية يقتضي من الفيلسوف والباحث في مجال القيمة دراسة منطق وبنية هذه الثورات العلمية، وهذا بالنظر في مناهجها، وأصولها العلمية الوصفية الاستقرائية، وحدود تداخل وتأثير القناعات الشخصية والثقافية والمواقف الأيديولوجية من حيث هي عوائق إبستمولوجية لا يزال العقل العلمي المعاصر يجتهد وباستمرار للانفكاك منها.
طُرحت بدءا من سنة 1980 داخل جمعية التحليل النفسي العالمية إشكالية إعادة النظر في موروث التحليل النفسي، أو بتعبير غرينGreen، الحاجة إلى البحث حول البحث الذي تم في تاريخ التحليل النفسي، أي إعادة استقراء من جديد اللحظة التاريخية التي شهدت ميلاد التحليل النفسي على يد أب التحليل النفسي فرويد، ومشروعية استقلال التحليل النفسي عن الطب، ثم النظر في مختلف الآليات الإبستمولوجية التي اعتمدت في عملية التأسيس والتطورات التي عرفها التحليل النفسي بعد فرويد.
تقتضي محاولة إعادة التفكير في المفكّر فيه في التحليل النفسي، دراسة نقدية تشمل العقل الأداتي الذي وُكلت به مهمة تأسيس وتطوير التحليل النفسي، بالإضافة إلى النظر في تداولية المصطلح داخل الجهاز المفاهيمي للتحليل النفسي، أي جدل الثقافي والعلمي في تحديد تداولية المصطلح، ورصد طرق تبيئة أهم المفاهيم المرجعية للتحليل النفسي؛ اقتضت الدراسة النقدية النظر في سؤال المناهج المعتمدة في التحليل النفسي، وأثر استخدامها على سؤال القيمة في مختلف أبعادها، من خلال إعادة النظر في دفتر النفسي كما خطه المحللون النفسانيون مع الاقتصار على نماذج مرجعية ثلاثة شملت مشاريع كل من فرويد ويونغ ولاكان، والانفتاح على باقي موروث التحليل النفسي في حدود الإشكالية المعالجة في هذه الدراسة.
يمكن معاينة مقاربتين رئيسيتين في تعاطي التحليل النفسي مع سؤال القيمة، المقاربة الأولى نجدها عند الفرويديين بالرغم من الاختلافات في طَرقهم لسؤال القيمة، يمكن الاصطلاح على مثل هذه المقاربة بأنها مقاربة تسبر أعماق النفسي الإنساني أو منخفضاته؛ في حين تمثل المقاربة الثانية التي تمثلها مدرسة زوريخ والتي يترأسها يونغ، مقاربة مرتفعات النفسي الإنساني والتي نجدها خاصة عند ديكمبسDescamps في كتابه “التحليل النفسي الروحاني”، والتي هي امتداد لعلم النفس الإنساني الذي بدأ في أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين بتأثير من جيمس James، والذي يعد ماسلو Masslow أبرز ممثليه.
إن عملية تفكيك نظرية اللاشعور باعتبارها السند المعرفي والمنهجي وحتى القيمي لمختلف التصورات والمواقف التي اتخذها المحللون النفسانيون، ومن يرجعون في تأسيس آرائهم وأحكامهم الفلسفية والجمالية والأدبية والقيمية إلى تراث التحليل النفسي؛ تدفع إلى إعادة النظر في طرائق توظيفهم لمختلف تقنيات التحليل بدءا بالنظر في طريقة إنشائها وتبيئتها، وانتهاء إلى النظر في النماذج والعينات المشتغل عليها، والتي أخذت مفهوم السند التأسيسي الذي انتهى قانونا عاما يُدرّس في المقررات التعليمية في مختلف المعاهد والجامعات، مما يدفع إلى الذهاب في التفكير في اللامفكر فيه في التحليل النفسي والذي يشمل مناطق الظل التي لم يسمح التحليل النفسي من معاينتها.
يأخذ النفسي في التحليل النفسي وضع الرمزي، إذ يجد الباحث نفسه مدفوعا إلى تعقب مراحل تشكله بغية تفكيكه والنظر في أهم اللحظات المعرفية والثقافية التي ساهمت في بلورته إلى أن أصبح إطارا ذهنيا يساهم في تشكيل مختلف المواقف المعرفية منها والقيمية على مستوى الخطابين العلمي والفلسفي؛ والنظر في بنية النفسي في صورته الرمزية، هو في حقيقة الأمر مأزق معرفي وقيمي معا، لأن الباحث مدعو كذلك إلى تقييم موقف التحليل النفسي من سؤال القيمة، بل قد ينتهي مشوار مثل هذا الاختبار بالباحث ليجد نفسه مشاركا في وضع معرفي وقيمي جديد، نلحظ مثل هذا الوضع عند كل من خاضوا في التحليل النفسي نقدا أو انتصارا لطروحات ومواقف بعينها، فتتشكل عندئذ عند الباحث بدائل وتصورات تعبر في النهاية عن هلامية الظاهرة الإنسانية اتي يتماهى فيها الباحث مع موضوع بحثه.
مما قد يشد انتباه الباحث في التحليل النفسي على تعدد وتباين مدارسه، التطور المطرد والسريع لهذا الفرع من علم النفس الذي كانت بداية تشكله مع نهاية القرن التاسع عشر وبلغ ذروته في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت استقلال علم النفس عن الفلسفة وذلك بإنشاء فونت Wundt لأول مخبر في علم النفس؛ ومن جهة ثانية اكتساح هذا التخصص العلمي الجديد لفضاءات علمية، فنية وثقافية منها العلوم الإنسانية والاجتماعية، الفلسفة والتربية والفن والأخلاق، وكذا محاولة العلماء والفلاسفة إعادة النظر في الموروث العلمي والثقافي بما فيه الدين والأخلاق تحت إلحاح نتائج التخصص العلمي الجديد، بل ظهر تقليد أكاديمي جديد زاوج فيه أصحابه بين التحليل النفسي والأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي وعلم الاجتماع، والتحليل النفسي والفلسفة.. الخ. وهو ما أمد الفلسفة المعاصرة بآليات جديدة ساهمت في إثراء مضامين ومجالات بحثها.
في استقراء لتعاطي فلاسفة القيمة مع نظرية التحليل النفسي، تبين أن شيلر من فلاسفة القيمة القلائل الذين اعتنوا بتحديد موقفهم من نظرية التحليل النفسي، يشيد شيلر بالنتائج التي توصل إليها التحليل النفسي خاصة في كتابه “طبيعة وأشكال التعاطف“ معتبرا أن ما توصل إليه فرويد بمثابة السبق والاكتشاف الذي سيثري البحث والدراسات الأكسيولوجية، التي تسعى وباستمرار لاستثمار نتائج العلوم الاجتماعية والإنسانية بغية فهم أكثر موضوعية وعمقا لطبيعة القيمة؛ في حين عبر لافيل عن صدمته من الأفكار التي تُسوقها الفرويدية وهذا في كتابه “علم النفس والروحانية”، مثل هذه المواقف المتباينة من كبار ممثلي ومنظري الأكسيولوجيا في الحقبة المعاصرة تطرح العديد من علامات الاستفهام، وتنبئ بوجود مأزق أول، مفاهيمي، وثان، ميثودولوجي، وثالث، معرفي، ورابع، قيمي، مآزق تواجه كل باحث يريد تحديد طبيعة ومكانة القيمة في تراث التحليل النفسي.
تتباين في ثقافتنا العربية العلمية منها والفلسفية طرائق التعاطي مع موروث التحليل النفسي. من الفلاسفة العرب الذين اهتموا بترجمة أعمال فرويد نجد طرابيشي، هذا الأخير قدم لنا التراث الفرويدي في شكل حقائق علمية مطلقة، بل وكما يخبرنا اتخذه منهج حياة. كما نجد عند صفوان وتلميذه حب الله نفس روح التعاطي مع تراث التحليل النفسي اللاكاني، إذ اعتبر صفوان وهو تلميذ لاكان هذا الأخير، المحلل الوحيد الذي قام بجهد واف في تعاطيه مع المشكلات التي أفرزها الواقع العلمي الجديد معرفيا وقيميا، من خلال تصحيحه للوجهة الفرويدية ويظهر ذلك من خلال كتاب صفوان “أربعة دروس في التحليل النفسي“؛ في المقابل نجد طه عبد الرحمن وفي كتابه “شرود ما بعد الدهرانية” قد تعاطى مع تراث فرويد ولاكان انطلاقا من قناعة كلامية – نسبة إلى علم الكلام – طورها في أغلب أعماله، وهي اعتبار الثقافة الغربية الفلسفية منها والعلمية، ثقافة مأزومة، ولا أخلاقية، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالغربوفوبيا، وهو نفس منطق المثقف الغربي في تعاطيه مع قيم وثقافة الإنسان الشرقي، والذي يستند على مقاضاة الآخر، بدل محاولة فهمه واستثمار الإضاءات التي يقدمها التحليل النفسي في سبيل فهم أكثر انفتاحا للذات وللوجود. أما إدوارد سعيد فجاءت قراءته لفرويد من خلال كتابه “فرويد وغير الأوروبيين”، قراءة أيديولوجية، وبخلاف ذلك جاءت قراءة عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور” كدعوة لضرورة التعاطي الإيجابي مع الوافد الجديد، كما أن مالك بدري ومن خلال مصنفه “أزمة علماء النفس المسلمين” كان أكثر إحساسا بمأزق التحليل النفسي والحاجة لإعادة النظر في المنطلقات التي تؤسس العلم الناشئ، بالرغم من امتزاج العلمي بالديني الذي يتجلى في مقصد إنشاء علم نفس إسلامي.
ثمة أحكام قطعية لمدرسة التحليل النفسي من سؤال القيمة بمحدداته الإيمانية والأخلاقية والصوفية الزهدية، إذ تعتبر شريحة كبيرة من المحللين النفسانيين الذين يتبعون التقليد الفرويدي، أن سؤال القيمة يرتبط من حيث جذر تشكله بفعل الوسواس أو بالفُصام، انطلاقا من اعتبارات إبستمولوجية تحاكم من خلالها مختلف التجارب القيمية؛ في حين يذهب فريق من المحللين النفسانيين الذين يمثلون علم النفس التحليلي، إلى اعتبار أن تجربة القيمة بمحدداتها الإيمانية والأخلاقية والصوفية تجربة أصيلة تعبر عن جانب إنساني أصيل ومغمور.
تحاول الدعوى المبنية في هذا الكتاب، الكشف عن الطبيعة الإنسانية في بعديها البيولوجي والثقافي، كما تقررها مدرسة التحليل النفسي بتياراتها المختلفة، ورصد النقلة النوعية من المعطى البيولوجي إلى الحياة الثقافية وبروز القيم الدينية، الأخلاقية والفنية. كما تحاول كذلك، تبيان هذا التحوّل بدءا من مناقشته على ضوء علم الأحياء والأنثروبولوجيا، والثقافة العلمية، الفلسفية والأدبية التي ساهمت في بلورة الأسس النظرية والتطبيقية لنظرية التحليل النفسي، ووضعها على المحك، مسترشدين بآخر ما توصلت إليه العلوم البيولوجية، الأنثروبولوجية والإنسانية، إنها قراءة علمية وفلسفية، قراءة تسلط الضوء على بنية وتطور نظرية التحليل النفسي، وبيان تصورها للحياة وللثقافة التي ترسم وجهة الطبيعي.
التقاء الفلسفة بالتحليل النفسي دعوة فرويدية بالأساس، إذ يرى فرويد في كتابه “موجز التحليل النفسي“، أن التحليل النفسي كفرضية أساسية هي موضوع للمناقشة الفلسفية، مؤكدا على أن النتائج المتوصل إليها تبرر قيمتها. لقد لجأ فرويد إلى علوم عدة قصد تبرير مشروعية فرضيته القائمة على اللاشعور، فبالإضافة إلى استثمار نتائج علم الأعصاب الذي كان أحد رواده، لجأ إلى الفيلولوجيا خاصة في كتابه “موسى والتوحيد”، ليبرز الطابع الوضعي لدعوة النبي موسى، بالإضافة إلى مزاوجته بين علم النفس وعلم الاجتماع في محاولته فهم طبيعة ظاهرة النسيان من خلال ربطها بآداب وطباع وسلوك مجتمعات منها المجتمع الإيطالي، وأتراك البوسنة وهذا في كتابه “علم النفس المرضي للحياة اليومية”، ناهيك عن ثقافته الفلسفية فيما يتعلق بتوظيف الأسطورة، وثقافته الدينية، على الرغم من اعترافه بنـزعته اللادينية.
يربط فرويد في كتابه “أفعال الوساوس والممارسة الدينية”، بين التدين والمعاناة النفسية، معتبرا ممارسة الشعائر الدينية نوعا من الانحراف أو المرض النفسي، لهذا سيتم مقابلة هذا التصور بتصورات مناصرة لموقفه والتي منها ما قرره الطبيب دوما Duma وجانت Janet، وأخرى مباينة من داخل حقل علم الأعصاب، ومع شاركوت Charcot تحديدا، هذا الأخير الذي حاول تسليط الضوء على القيمة العلاجية للإيمان في كتابه “الإيمان الشافي”، وتصور برغسون Bergson الذي اعتبر التجربة الدينية والصوفية نتيجة ميل طبيعي وأصيل في النفس البشرية، وهذا في كتابه “منبعا الأخلاق والدين“، ولاختبار التصورين تم اللجوء إلى ما تقرره آخر الدراسات الإحيائية خاصة مع لورنز Lorenz في كتابه “ثلاث محاولات حول السلوك الحيواني والإنساني”، كما تم الاستئناس بالدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وما تزودنا به الدراسات والأبحاث العصبية وعلوم المعرفة.
يقال عن فرويد أنه أتى ليقلق نوم العالم، فرويد الذي شق لنفسه طريقا مبرزا عبقرية التعلم الذاتي وهو الذي كان يُشبّه نفسه بالمرأة الحامل لمشروع لم يسبقه إليه أحد، فرويد، منظّر الحرية، كان يسعى لتحرير الإنسانية من أوجاعها، كما فعل كوبرنيك، داروين، ها هو وعلى خطاهم، يقرر بأننا لسنا سادة على باطننا السيكولوجي، أو الدفين المغلق الذي سيسبر أغواره كما لم يفعل معه قبل.
يعتبر يونغ Jung، الذي كان طبيب أعصاب وفيزيولوجي ومن مقربي فرويد، وثاني رئيس لجمعية التحليل النفسي، والذي شملت أعماله تخصصات منها علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، ومؤسس ما اصطلح على تسميته بعلم النفس التحليلي؛ من المحللين النفسانيين الذين ساهموا في تعميق الوعي بقضايا القيمة، انصب اهتمام يونغ على تبيان العلاقة بين النفسي والثقافي بثراء تمظهراته الدينية الأسطورية. يعيدنا يونغ كما أعادنا عالم الوراثة الأمريكي مورغان Morgan، إلى الموروث الماضي الجيني بالنسبة لمورغان، والأسطوري بالنسبة ليونغ، حتى نفهم كيف تتشكل الأحلام ومعها الميثولوجيا والدين، إنه عهد مابعد السيكولوجيا Métapsychologie لنقف على حقيقة اللاشعور الجمعي وكيف تتشكل مختلف النماذج البدئية والأخيولات التي أعانته في فهم الأوضاع الصحية/السليمة والمرضية.
يمثل لاكان Lacan حلقة أخرى من حلقات مدرسة التحليل النفسي، تأخذ معه نظرية التحليل النفسي أبعادا فلسفية أنثروبولوجية وأخرى ألسنية، من أجل غاية هي فك شفرة الكتابة؛ استعان طبيب الأعصاب والمحلل النفساني لاكان بأعمال ستروس Strauss لإعادة اكتشاف اللاشعور، من حيث هو بنية ولغة، معتبرا أنه ومن خلال فهم تشكل اللغة يمكن فهم مختلف المظاهر الحضارية، يأتي الإنسان وفقه إلى الوجود وهو مزود باللغة، لغة تستقبله وفي نفس الوقت تسجنه، غير أن الجدير بالاهتمام في مشروع لاكان هو ذهابه أبعد من التقرير الفرويدي للقيمي الباثولوجي، وذلك من خلال تفكيره في اللامفكر فيه في التحليل النفسي، وهو أن تكون للتحليل النفسي إتيقاه الخاصة به، وإن بقي وفيا للفلك الباثولوجي الذي رسمه فرويد لفهم التطور السابق واللاحق للنفسي.
اقتضى تشخيص واقع القيمة في مختلف المشاريع المعرفية البنائية للتحليل النفسي صياغة إشكالية الدراسة على النحو التالي: كيف تعاطى التحليل النفسي مع سؤال القيمة في أبعاده الأخلاقية والجمالية والدينية؟ ثم هل لآليات التشخيص والرصد التي اعتمدتها مختلف تيارات التحليل النفسي التماسك البنائي والاستقلالية المنهجية التي تؤهلها لتحديد قيمة المستهلك الثقافي القيمي الذي يوجه حياة الناس؟ وهل يملك التحليل النفسي جهازا مفاهيميا وميثودولوجيا خاصا به؟ أم أن جهازه المفاهيمي والميثودولوجي هو امتداد لمقصد تبيئة كل ما من شأنه أن يساهم في قيام التحليل النفسي؟ وفيم تتجلى قيمة تشخيص التحليل النفسي لسؤال القيمة على المستوى الأكاديمي البحثي وعلى مستوى ممارسة القيم في حياة الناس الممارسة التي تستهوي رجل العلم والفيلسوف؟
منهج البحث: في إطار بحث ومناقشة إشكالية الدراسة، تم الاعتماد على المنهج التحليلي، ويكمن فضل هذا المنهج المطبق في تقسيم إشكالية البحث إلى مشكلات جزئية ومحاولة إيجاد الروابط المنطقية والواقعية التي تربطها بإشكالية البحث، ولأن مدرسة التحليل النفسي تقترح الأنموذج القيمي العلمي كبديل عن منظومات القيم السائدة، تم اللجوء كذلك إلى الاستقراء التاريخي، وهذا قصد الوقوف على أهم التصورات وأدوات ومناهج عمل مدرسة التحليل النفسي، كما تم اللجوء إلى المنهج المقارن في أغلب فصول الدراسة، ذلك أن تحديد موقف نظرة مدرسة التحليل النفسي من موضوع القيمة يقتضي بالدرجة الأولى قراءة النتائج على ضوء ما تقرره العلوم الإنسانية الحديثة، بالإضافة إلى عرض موقف كبريات مذاهب القيمة في العصر الحديث من تشخيص التحليل النفسي لسؤال القيمة، وأثر التشخيص على حاضر ومستقبل الدراسات الأكسيولوجية.
تم اعتماد تقسيم موضوع الكتاب إلى مقدمة وخمسة فصول انتهاء بالخاتمة، وفق الترتيب التالي:
مقدمة:
وكانت محكومة بمقصد لفت انتباه المشتغلين على سؤال القيمة والمثقفين عموما إلى الوضع الإشكالي للتحليل النفسي فيما يتعلق بتحديد موقفه من سؤال القيمة، والإضافة التي يقدمها للدراسات الأكسيولوجية؛ كما تم التطرق إلى إشكالية الدراسة، والمناهج التي التي اعتمدت للإجابة على الإشكالية التي تطرحها الدراسة.
الفصل الأول
وشمل التعريف بأهم الطوبيقات التي حددت وجهة المعرفي والقيمي في الثقافة العلمية والفلسفية الغربية، بدءا من طوبيقا أرسطو، وانتهاء إلى الطوبيقاتين الفرويدية، وهذا من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية: هل استطاعت الفرويدية بلورة طوبيقاتين بديلتين للطوبيقا المرجعية الأرسطية؟ وما جوهر الاختلاف بين الطوبيقاتين الفرويدية؟ وهل يمس الاختلاف في الطوبيقاتين المعتمدة فرويديا بمصداقية الأطروحات والنتائج على المستوى النظري وعلى المستوى التطبيقي العلاجي؟
الفصل الثاني
تم من خلاله عرض تطور الطوبيقات المرجعية للتحليل النفسي بعد فرويد، عند كل من يونغ من خلال الشخصي التجاوزي، والإضافة أو التحسين الذي أدخله لاكان على الطوبيقاتين الفرويدية من خلال منطق الاستيهام، ومحاولة الإجابة عن التساؤلات التالية: هل استطاع أصحاب الطوبيقات البديلة تجاوز مختلف المآزق الإبستمولوجية والميثودولوجية التي جعلت من نقاد فرويد يصفون العلم الناشئ بالعلم الكاذب؟ وهل يمس تعدد الطوبيقات بمصداقية التحليل النفسي وبرصده وتشخيصه لسؤال القيمة؟
الفصل الثالث
كان التركيز في هذا الفصل على تعقب تشكل الجهاز المفاهيمي للتحليل النفسي عند كل من فرويد، لاكان ويونغ، ومناقشه تداولية أهم المفاهيم المرجعية البنائية للتحليل النفسي على ضوء الإضاءات التي تقدمها الأكسيولوجيا وفلاسفة القيمة المعاصرون، والإجابة عن التساؤلات التالية: كيف تمت عملية بناء المصطلح في التحليل النفسي؟ وهل عملية نحت مختلف المصطلحات هي امتداد طبيعي لتداوليتها في علم المقال الأرسطي؟ وفيم تتجلى حدود الاتفاق والاختلاف فيما يتعلق بتداولية المصطلحات التي توظفها مختلف تيارات التحليل النفسي؟ وهل يمس الاختلاف في التوظيف والتبيئة للمصطلح بالمصداقية العلمية لمختلف نظريات التحليل النفسي؟
الفصل الرابع
جاء الفصل الرابع لإبراز الجهد الفرويدي في تعقب موضوع القيمة في مختلف تجلياته، الأخلاقية والجمالية والدينية، مع النظر في طريقة إسقاط الطوبيقاتين على موضوع القيمة، والثراء المنهجي والتطبيقي للمقاربة الفرويدية، مع النظر في الوضع الميثودولوجي للفرويدية، وهذا من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية: ما الوضع الميثودولوجي للفرويدية وما أثره على سؤال القيمة؟ هل تصمد المقاربة الميثودولوجية الفرويدية أمام اختبار الأبحاث والدراسات العصبية وعلوم المعرفة بالإضافة إلى النقد الفلسفي؟ بمعنى هل من شأن الأبحاث العصبية والمعرفية والإبستمولوجية الحديثة أن تنزع وضع العلمي عن التحليل النفسي الفرويدي؟ وهل يمس النقد الميثودولوجي والإبستمولوجي للفرويدية بموقفها من سؤال كل من الأنسي والقيمي؟
الفصل الخامس
جاء التطرق في هذا الفصل إلى منهج المرافقة لفك شفرة النفسي عند يونغ، مع محاولة اختبار آليات التقصي في علم نفس المرتفعات أو الشخصي التجاوزي، والذي يجعل من علم النفس التحليلي سندا في فهم وجهة سؤال القيمة، وهذا من خلال تأكيد يونغ وأتباعه على الوجود الأصيل للقيم من خلال مقاربته التي تذهب أبعد من التشخيص الباثولوجي لكل من الأنسي والقيمي، مع محاولة الإجابة عن التساؤلات التالية: هل تمكّن يونغ من تجاوز منطق التأويل إلى منطق التحليل؟ وكيف مارسه؟ وهل يمكن الحديث عن تحليل حيادي؟ وهل استطاع يونغ تجاوز عائق الذاتية وتأثير المستهلك الثقافي الغربي في سبيل إرساء تحليل علمي لسؤال القيمة، تحليل يراعي الموضوعية والأخلاق العلمية؟
خاتمة
شملت الخاتمة أهم النتائج التي أسفر عنها تعقب الإجابة عن إشكالية البحث، مع حصر أهم الانتقادات التي وجهت للآليات التي اعتمدها علماء التحليل النفسي في تشخيصهم لسؤال القيمة، وفي قراءاتهم للمستهلك الثقافي القيمي، بالإضافة إلى مساهمتهم في إضاءة مواضيع القيمة، الأخلاقية منها والجمالية والدينية، كما يمكن للباحث المختص في فلسفة القيمة معاينة جملة المفاتيح التي تعينه على متابعة النقاش والرهانات التي طرحها واقع الاشتغال العلمي على سؤال القيمة، والآفاق المستقبلية لهذه الدراسات.